تعيش الأغنية العربية اليوم - مثل بقية الأعمال الفنية - حال ضياع من ناحية، وازدهار وانتشار من ناحية ثانية. أسماء كثيرة انتشرت على الساحة الفنية، نبتت كالفطر، منها ما كان ساماً ومنها ما كان عذباً. الفضائيات العربية أسهمت إلى حد بعيد في انتشار هذه الأغاني، وشهرة المطربين، واكتظاظ الساحة بالشعراء والملحنين. وباتت الأغنية"صناعة"قائمة بذاتها، ويكفي أن نشير إلى كميّة الجوائز العربية والعالمية التي تحصدها الأغنية العربية سنوياً... إلا أن الانتشار ليس دليل عافية. فالنقاد يشتكون يومياً من انحدار الذائقة الفنية، ويسلطون الضوء على ثغرات كثيرة تعيشها الأغنية، وتعكس التدهور الثقافي الذي يعيشه المستمع العربي، ما يؤثر سلباً في نفوس من يكبرون عليها.?"الحياة"تتوقّف تباعاً عند بعض المدارس والاتجاهات الغنائية، سعياً إلى تحديد هويتها، وتسليط الضوء على خصوصيتها، وكشف التحديات والأسئلة المطروحة عليها. نبدأ اليوم بالأغنية الخليجية. عندما كانت الأغنية العربية تعيش عصرها الذهبي، استطاعت الأغنية السعودية أن تواكب هذا التطور وأن تسجل حضوراً لافتاً في ذائقة الشارع العربي، والشواهد على ذلك كثيرة منها غناء عدد من الفنانين العرب للألحان والكلمات السعودية في أوائل الستينات والسبعينات. وفي الوقت الذي تراجعت فيه الأغنية العربية كانت الأغنية السعودية قد قطعت مرحلة كبيرة من النضج حتى بلغت أوجها في الوقت الراهن. ولعل المستمع يلمس هذا الحضور المكثف للأغنية السعودية في عواصم الفن العربي مثل القاهرةوبيروت والرباط وصنعاء، عطفاً على التجربة اللافتة لنجوم الأغنية السعودية أمثال طلال مداح وعبدالله محمد وأبو بكر سالم الذين حققوا نجاحاً كبيراً في بيروت في الستينات، وتحديداً طلال مداح إذ كانت اسطواناته تطبع في بيروت ولقيت رواجاً كبيراً. ومن أغنياته الذائعة الصيت في بيروت:"سويعات الأصيل"و"الحبيب المطاوع"و"اسمع حبيبي لا تسيء الظن فيه". كذلك سطع نجم أبو بكر سالم في بيروت بأغنيتي"الجبال السود"و"يا قلبي المتعوب". في هذا السياق برزت أسماء فنية من الكويت والبحرين وقطر انضمت للفنانين السعوديين الذين سبقوها في الحضور العربي. ومن هؤلاء عبدالله الرويشد ونبيل شعيل وعلي عبد الستار وخالد الشيخ. إلا أن واقع الأغنية الخليجية في الستينات حتى منتصف الثمانينات، جاء أفضل بكثير من الوقت الراهن. فمستوى الذوق الفني اختلف وما كان واضحاً في الأمس في شخصية رجل الشارع العربي وانعكاسه على نوعية ما يقدم من أعمال غنائية تتحلى بمواصفات فنية رفيعة المستوى ما زالت ترن في الذاكرة حتى اليوم، بات اليوم مبهماً. لذا لا توجد مقارنة بين ما يقدم حالياً وما كنا نستمع إليه في الأمس"اليوم تشهد الأغنية تدهوراً في الكلمة واللحن والأداء، فقدت هويتها إلى درجة باتت لا تمثل أي اتجاه نحو التطوير. وحول واقع الأغنية الخليجية، يقول الناقد الفني يحي زريقان:"في الوقت الذي ازدهرت فيه معطيات العمل الغنائي في دول مجلس التعاون الخليجي كنا نمني أنفسنا بالاستماع إلى أغنيات تقترب على أقل تقدير مما كنا نسمعه في ما مضى ولا سيما بعد تراجع الأغنية المصرية، والسبب في ذلك هو تحويل مسار الفن الغنائي إلى مجال استثمار وإدارة أعمال. من هذه الزاوية، انطلقت الأصوات الرديئة التي لا تستطيع أن تحرص على تقديم عمل يسكن في ذاكرة الجمهور - إلا ما ندر، وبتنا نواجه غزواً ثقافياً بحجة نشر الأغنية بمواصفات فنية هابطة لا تليق بالمقدرات الكبيرة من موروث موسيقي ومخزون فلكلوري ونماذج فنية قادرة على تقديم فن راق". ويعتبر زريقان أن أبرز التجارب الفنانات الخليجيات كانت مع"توحة"السعودية و"عائشة المرطى"الكويتية، هذا فضلاً عن السعودية ابتسام لطفي التي لاقت الثناء من النقاد والفنانين، والتي غنت لرياض السنباطي ومحمد الموجي وأحمد صدقي، وأحيت حفلات في القاهرة وتونس والكويت وقطر فشكلت نقلة تاريخية في مسيرة الغناء السعودي، وتوالى بعد ذلك ظهور أصوات نسائية عدة منها عتاب وسارة ووعد في الوقت الحالي. طفرة نسائية وشهدت الساحة الغنائية في الخليج طفرة نسائية بدأت في منتصف الثمانينات عندما ظهرت رباب ونوال في الكويت، جاءت بعدهما أحلام وهند وريم المحمودي ومرام ورويدا المحروقي. ويلفت زريقان إلى أن السوق السعودية تمثل أكبر سوق شرائية في الكاسيت على مستوى العالم العربي، وهذا الأمر دفع بعض الفنانين العرب لغناء اللهجة الخليجية أملاً في تحقيق نسبة شراء أكبر لألبوماتهم، ما أسهم في تدهور الأغنية لأن هؤلاء لم يتدربوا بشكل كاف على أداء اللهجة الخليجية، إضافة إلى عدم قدرة هذه الأصوات على ترجمة مواضيع النصوص الغنائية وصبغها بالطابع الخليجي، فمن الطبيعي أن تكون المحصلة غناءً مشوهاً وأداءً ضعيفاً وركيكاً عسف بالأهداف الجميلة للأغنية ورمى بها في سرداب سحيق لن تخرج منه. من جهة أخرى، اعتبر الملحن السعودي صالح الشهري أن الكلمة تلعب دوراً كبيراً،"لكونها لم تستهلك وهي جديدة على أذن المستمع العربي". وهذا أسهم في ذيوع وانتشار ونجاح الأغنية الخليجية لدى الجمهور العربي، وعطفاً على المعطيات المغرية في ساحة الأغنية"استطاعت ألحاننا أن تتماشى مع أذواق الجمهور واحتياجاته في أغنياتنا، ما جعلها تتردد على ألسنتهم وتنشر على الفضائيات العربية". وهذا ما يؤكد قوة حضور الأغنية السعودية وظهور العديد من الأصوات الغنائية في الساحة أمثال عباس إبراهيم في الوقت الراهن الذي جاء حضوره الفني تتويجاً لنجاحات عبد المجيد عبدالله ورابح صقر وراشد الماجد الذين أسهموا كثيراً في نجاح الأغنية الخليجية. أما الشاعر الغنائي أحمد سرور مستهام فيقول "لا شك أن المنحى الفني أحدث نقلة نوعية في مسار الفن الخليجي حيث وسائل التقنية الأحدث وتغييرات الزمن على النص وبالتالي فإن الأغنية باتت تأخذ موقعاً مرموقاً في صفوف الفن العربي إلا أنها ما زالت تفتقر إلى العناصر البشرية المؤهلة أكاديمياً لنزع جوائز المهرجانات العربية، عدا بعض المحاولات الفردية". وأضاف سرور:"سبق أن تعاونت مع عدد من الأصوات الخليجية الشابة التي أحدثت تغييراً في مسار الكلمة واللحن، إلا أن الواقع يقول إن الأغنية الخليجية متفوقة عربياً في الوقت الراهن، والدليل تهافت الفنانين العرب عليها. وكانت الكلمة واللحن الخليجيان سبباً في الانتشار عربياً لهؤلاء المطربين، منهم - على سبيل المثال لا الحصر - فضل شاكر وأنغام وذكرى وسميرة سعيد وأصالة ونوال الزغبي وعاصي الحلاني وغيرهم الكثير".