نجاح أغنيتين متناقضتين ك"آه يا عيني" العميقة اللحن والكلمات، و"أمي مسافرة" الفقيرة المعنى والنغمة لم يكن عنصراً مفاجئاً... بقدر ما عبر عن حالة ضياع يعيشها المستمع العربي. فالتناقضات التي تظهر اليوم على الساحة الفنية، تؤمن فرص النجاح لأي أغنية جديدة: شعبية كانت أم طربية، رصينة أم سخيفة، لحن جميل أم خفيف، كلمات عميقة أم سطحية... ويصعب على النقاد تحديد اتجاه بوصلة الذائقة الفنية، كما يصعب عليهم تحديد مقومات الأغنية الناجحة، ومدى استمرارية الموجة الفنية الراهنة. أظهرت إحصائيات أجريت أخيراً ورصدت حركة البيع في سوق الكاسيت، ارتفاع معدلات توزيع شرائط نجوم الطرب القديم أمثال أم كلثوم، عبد الوهاب، عبد الحليم، فريد الأطرش، فايزة أحمد، نجاة الصغيرة، ومحمد فوزي... فهلل النقاد الموسيقيون للظاهرة الصحية الجديدة، وأكدوا أن حرص الجمهور على اقتناء الألبومات الغنائية القديمة يبشر بانفراجة فنية تلوح في الأفق القريب. إلا أن فرحة النقاد لم تدم طويلاً، فما لبثت أن خذلتهم "أمي مسافرة"، و"أنت عارف ليه" لروبي ، و"أقول أهواك" لهيفا وهبي... وفي وقت تجاهل فيه مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية الذي يعقد سنويا في القاهرة، الأغنية المعاصرة وأولى اهتماماً خاصاً بالأغنية القديمة والتراث، اضطر القيمون على المهرجان لأن يخصصوا مؤتمر العام الحالي للأغنية المعاصرة وواقعها. وأظهرت برامج صناعة النجوم الصراع الذي تعيشه الأغنية العربية اليوم. فعندما برز "سوبر ستار"، حرص القيمون على إعطاء البرنامج طابعاً تراثياً، مركزين على الأغاني الطربية التي طغت على اختيار المشاركين. وتنافس ملحم زين، ورويدا عطية وسعود أبو سلطان وديانا كرزون على أداء أغاني أم كلثوم وعبدالحليم وطلال المدّاح وغيرهم. فحمل البرنامج لواء الأغنية الطربية، وعقد النقاد الآمال على أصوات قد تفلح في انتشال الفن من حالته "المزرية" وطغيان الأغنية "الهابطة". في الجهة المقابلة، ظهر "ستار أكاديمي" الذي اعتمد على نمط الأغنية الشبابية. فاختار القيمون الأغاني الجديدة، ودعوا مغنين مبتدئين ليشاركوا طلابهم الغناء. وفيما انتقد بعضهم ابتعاد الأكاديمية عن الأغنية القديمة والتركيز على الأغنية السريعة الرائجة، أكد بعضهم الآخر، أن الصيغة الشبابية التي اصطفاها البرنامج تحاكي إلى حد بعيد الموجة الطاغية على ساحة الغناء اليوم، ما يسهل على الطلاب دخول معترك الفن بأقل أخطاء ممكنة. عمليات المد والجزر التي شهدتها الساحة الغنائية، أفرزت مقاييس جديدة لنوع غنائي بات يلاقي نجاحاً ملحوظاً ويحقق توازناً مقبولاً بين اتزان الأغنية القديمة وإيقاع الأغنية الحديثة: نغمة شرقية وشعر عميق في توزيع إيقاعي سريع. "حبيب قلبي" لكارول سماحة، "حبيبي يا عمري" و"حبيبي ولا على بالو" لعمرو دياب، أغنيات عصرية حملت كلمات عميقة وألحاناً شرقية التقاسيم. إلا أن إيقاعها كان سريعاً، فنالت رضا المستمع أيا كانت اهتماماته. كما أن الأغاني القديمة المعدلة بطريقة الريمكس ك"ليلة ليلة" لمحمد عبده، وأغاني أم كلثوم التي أعاد سعيد مراد توزيعها... أو الأغاني التي أعاد بعض الفنانين إحياءها بأصواتهم ك"يا با لا" لطوني حنا"، و"ليه خلتني احبك" لليلى مراد... تدخل ضمن القاعدة الجديدة. نجاح القاعدة المذكورة يبشر بموجة تركز في المستقبل على اللحن والكلمات فتثلج صدور النقاد وتهذب آذان الموسيقيين.