الأزمة النووية الإيرانية لم تنته فصولاً. ادارة بوش الثانية لم تحدد إيران هدفا عسكرياً"الآن"أو"حالياً". ولكن برنامجها النووي قد يصبح هدفاً لضربة"وقائية"أو"إجهاضية"في وقت لاحق. أليس هذا هو ما يعنيه قول الوزيرة رايس في شباط فبراير الجاري أن ضرب إيران غير مطروح حاليا. الأزمة مستمرة، إذاً، وستبقى مفتوحة لتفاعلات في اتجاهات مختلفة. وقد لا تمضي شهور قليلة حتى نكتشف أنها تداخلت مع القضايا الأكثر اشتعالا الآن، وخصوصا العراقوفلسطين، على نحو لم يستعد له النظام العربي، الأمر الذي يجعله أكثر ارتباكاً ويظهره أشد عجزاً. ومع ذلك ففي إمكان هذا النظام أن يضطلع بدور تاريخي في السعي إلى بناء شرق أوسط جديد انطلاقا من الأزمة النووية الإيرانية، إذا تمكن من مراجعة نمط تفكيره السائد وما يقترن به من أداء. وربما تبدأ هذه المراجعة بالتوافق على موقف بسيط للغاية وهو أنه لا مصلحة للعرب في تقويض القدرة النووية الإيرانية. ولكن هذه القدرة لا يمكن أن تكون في المقابل رصيدا للعرب إلا وفق نمط تفكير بدائي من نوع"عدو عدوي هو صديقي". وثمة ما يدل على إدراك كثير من الحكومات العربية للآثار التي يمكن أن تترتب على نجاح المشروع النووي الإيراني. ونجد تعبيراً حديثاً عن هذا الإدراك في حديث الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي عبد الرحمن العطية، عشية القمة الخليجية الأخيرة في المنامة 20-21 كانون الأول/ ديسمبر الماضي عن مخاوف دول المجلس من مخاطر إدخال السلاح النووي إلى منطقة الخليج. ومادام ناتج المشروع النووي الإيراني ليس رصيداً للعرب ولا تهديداً بالضرورة لإسرائيل، فإن أحد أخطر الآثار التي قد تترتب عليه هو إخراج العالم العربي بشكل نهائي من معادلة القوة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط. سيكون القطبان الرئيسان في هذه المعادلة، من زاويتها العسكرية، هما إسرائيل وإيران النوويتان. ويضاف إليهما تركيا الديموقراطية الناهضة اقتصاديا في معادلة القوة الإقليمية بالمعنى الشامل. فلا مصلحة للعرب، إذاً، في الحفاظ على القدرة النووية الإيرانية وتطويرها. ولكن لا مصلحة لهم، في المقابل، في القضاء عليها وتكريس الاحتكار الإسرائيلي. وهذا وضع تصعب فيه الحركة على النحو الذي يواجهه لاعب الشطرنغ عندما يجد في نقل أي من قطعه الرئيسة الباقية خطرا كبيرا فيلجأ إلى نقلات إنتظارية. ولكن هذا النوع من النقلات يتفاوت أثره وأهميته. فبعضها ينطوي على مناورة، وبالتالي يحدث تغييرا من حيث أنه يفرض على الطرف الآخر أن يفكر جيدا قبل أن يحرك القطعة التي كان قد عزم على تحريكها حتى إذا لم يغير في خطته. وبعضها الآخر لا يكون له أدنى أثر. وهذا هو طابع السياسات التي تنتهجها الدول العربية الرئيسة تجاه الأزمات المتوالية التي تثيرها سياسة إيران النووية. وينطبق ذلك، مثلا، على تأييد اقتراح الرئيس حسني مبارك لإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل كلما تصاعد الضغط على إيران من دون أن يقترن ذلك بتحرك سياسي مدروس. فهذا النوع من المواقف يشبه النقلات الانتظارية السلبية. والسؤال الآن هو : هل هذا الموقف العربي إجباري، أي من نوع ما يواجهه لاعب الشطرنغ وقد صارت اللوحة مغلقة أمامه، أم أنه نتيجة تقصير في استخدام أوراق أو"قطع شطرنغ" يمكن أن يكون لها أثر حتى على سبيل المناورة؟ ربما تختلف الإجابة حسب موقع المجيب وأجندته السياسية. ولكن المعطيات القائمة تفيد أن الموقف العربي شديد السلبية تجاه أزمة أو أزمات البرنامج النووي الإيراني لا يرجع إلى غياب أي أوراق يمكن اللعب بها، وإنما إلى عدم القدرة على استخدام بعض الأوراق المتاحة حتى إذا كان أثرها المتوقع محدوداً. ف"اللاعب"العربي ليس مجبرا على نقلة انتظارية سلبية تماماً لأنه لا يزال في إمكانه أن يحرك قطعة يمكن أن تكون مؤثرة في اللوحة بغض النظر عن النتيجة النهائية. ولكنه يفتقد إرادة الحركة هذه لأن النمط السائد في تفكيره لا يساعده. فالحركة التي قد تكون مؤثرة هي محاولة تحويل مسار أزمة - أزمات البرنامج النووي الإيراني إلى نقطة انطلاق باتجاه حل وسط تاريخي يضع الشرق الأوسط على أعتاب مرحلة جديدة. فعلى رغم من التفاوت الشديد في مستوى تطور البرنامجين النوويين في كل من إيران وإسرائيل، فثمة أساس موضوعي للسعي إلى صفقة ضمن مساومة تاريخية كبرى على المستوى الإقليمي. وتقوم الصفقة على تخلي إيران عن برنامجها وحصولها على مطالبها في شأن الاستخدام السلمي للطاقة النووية، في مقابل قبول إسرائيل التفاوض لإبطاء قدرتها النووية ثم خفضها تمهيدا لتفكيكها في مدى زمني معين قد يصل إلى عشر سنوات بالتوازي مع تقدم في حل المسألة الفلسطينية وبناء علاقات سلمية عربية - إسرائيلية. ففي إمكان الدول العربية الرئيسة القيام بدور فاعل في صوغ حل وسط تاريخي، بدءاً بالسعي إلى الصفقة النووية عبر اتخاذ مواقف تجعل لأميركا وإسرائيل مصلحة فيها. فبالنسبة لواشنطن، تستطيع الدول العربية مساعدتها فعليا، وليس فقط كلامياً، في الخروج من"المأزق العراقي". ويمكن أن يزداد الدور العربي في العراق كلما حدث تقدم في الدور الأميركي، الذي يحتاج كذلك إلى تفاهم عربي لإقناع الفصائل الفلسطينية الراديكالية باتخاذ قرار استراتيجي وليس فقط تكتيكياً، لوقف المقاومة المسلحة لأن ضخامة الكسب المترتب على تخلي إسرائيل عن قدرتها النووية تفرض تقويماً موضوعياً غائباً حتى الآن لنتائج عسكرة المقاومة وحجم الخسائر التي ترتبت عليها. وسيكون هذا اختباراً تاريخياً لمدى استعداد هذه الفصائل لتغليب القضية الوطنية الفلسطينية والمصلحة العربية العامة على مشروعها السياسي المرتبط بكونها"مقاومة إسلامية". فالتقدم باتجاه حل سلمي لقضية فلسطين شرط للتحرك في"الصفقة النووية"التي يمكن أن تكون منطلقا للحل الوسط التاريخي. كما أن التحرك نحو هذه الصفقة يدعم التقدم باتجاه الحل السلمي. فقد أثبتت خبرة السنوات الأخيرة استحالة إحراز تقدم في أي من القضايا والأزمات المشتعلة في المنطقة، من فلسطين إلى العراق إلى إيران إلى سورية ولبنان حين يعالج كل منها منفردا. ففي كل منها مساومات تنطوي على تنازلات ثبت أنها غير ممكنة بطريقة التتابع والتجزئة. ولذلك لابد من تجربة التعاطي معها بأسلوب التلازم والشمول. ولكن يظل الشرط المسبق هو تغيير النمط السائد في التفكير والأداء على الصعيد العربي على نحو يسمح بإعادة الاعتبار للسياسة من حيث هي فن الممكن، ويضع بالتالي مفاهيم التسوية والمساومة والحل الوسط في موقع مركزي، ويتيح من ثم التوافق على تحرك عربي منسق يستخدم الأوراق المتاحة مهما بدت قليلة أو محدودة الأثر. فهذا التغيير في نمط تفكير وأداء النظام العربي الرسمي يزيد أهمية هذه الأوراق ويخلق أوراقا جديدة من حيث أنه يضع العرب للمرة الأولى منذ وقت طويل في موقع الفعل والمبادرة. وعندئذ قد تجد إدارة بوش الثانية، في مستهل فترتها الثانية، مصلحة لها في التجاوب مع هذا التحرك لسببين رئيسين : أولهما أن هذا التغيير العربي يخلق فرصة تاريخية لإخراج المنطقة، التي تمثل المعضلة الأولى بالنسبة إليها، من أزمتها المتفاقمة، وخصوصا إذا اقترن ذلك التغيير بزيادة في معدلات الإصلاح الداخلي بدرجة أو بأخرى، ليكون أحد عناصر الحل الوسط التاريخي هو التوافق العربي الأميركي على أن الإصلاح قضية داخلية. أما السبب الثاني فهو أن البرنامج النووي الإيراني يمثل مشكلة حقيقية وكبيرة بالنسبة إلى واشنطن، سواء في حال استمرار الجهود السلمية التي ستبقى بعيدة عنها أو على هامشها بما لا يتناسب مع كونها"سيدة العالم"، أو في حال فشل هذه الجهود وتطور الأزمة باتجاه المواجهة. فليس سهلا على واشنطن أن تخوض حربا في إيران بعد أن غرقت في العراق. وإذا كان بضع آلاف من"المجاهدين"الحقوا بها كل هذا الأذى في العراق، فما الذي ينتظرها في إيران التي تعد أحد"مصانع"إنتاج هذا النوع من المقاتلين! وإذا كان احتمال كسب حرب شاملة أصعب في إيران منه في العراق، فكذلك الحال بالنسبة إلى قصف المنشآت النووية. فمشهد حزيران يونيو 1981 عندما قصفت الطائرات الإسرائيلية مفاعل"أوزيراك"، وحولته مع البرنامج النووي العراقي إلى تراب، ليس قابلاً للتكرار في إيران لأن برنامجها النووى ينتشر في عدة مواقع ولا يمثل وحدة فيزيائية موحدة يمكن استهدافها بسهولة. كما أن الاعتماد على إسرائيل في ضربات من هذا النوع هو الجنون نفسه. ولذلك فإن تقديم مخرج معقول لواشنطن من هذه الأزمة يمكن أن يكون مغريا لها. ولابد من التنبيه، هنا، إلى أن القدرة النووية الإسرائيلية تمثل مشكلة مؤجلة بالنسبة إلى واشنطن، لأنها ستُطرح بالضرورة في حال إحراز تقدم في عملية السلام على المسارين الفلسطيني والسوري على نحو يؤذن بعلاقات سلمية عربية إسرائيلية. فإذا فُتح باب للبدء في حلها، عبر مشروع لحل وسط تاريخي من هذا النوع ، قد لا تجد واشنطن مبررا لغلقه. وهكذا يبدو أن اللوحة ليست مغلقة أمام"اللاعب"العربي، وأن في إمكان النظام العربي الرسمي ممارسة تأثير إقليمي إذا لعب العرب وفق خطة حديثة. * كاتب مصري.