لقد تحمل رفيق الحريري الكثير وصبر ولم يضعف. لم يسقط. ورغم كل محاولات تحجيمه، التي استخدمت فيها أساليب كثيرة لم يستسلم. كان يتألم لأنه يعرف ماذا يجري. ولماذا يستهدف. وكان يعرف ماذا يخطط للبنان ويقلق من جهل الجاهلين وحقد الحاقدين وادعاء المدعين يكابر معظم اللبنانيين في التصديق أن رفيق الحريري لم يعد حاضراً جسدياً في الحياة السياسية اللبنانية. ويرتاح الحاقدون لذلك لأنهم حققوا ما أرادوه لكنهم اكتشفوا بعد ساعات أنهم يكابرون أيضاً. من حالفه أدرك حجمه ودوره وموقعه وقدرته واعتداله ووطنيته وقوميته وإيمانه بالله وبشعبه وثقته بنفسه وبالوطن وصفاءه ونقاء ضميره وصدق التزامه بالناس. ومن خالفه انطلق من خوفه من كل هذه القيم وبعضهم لم يترك للصلح مكان. فالضعف والخوف والأنانية والحقد أعموا نفوسهم وقلوبهم!! وبعضهم الآخر أدرك سريعاً أن الخلاف معه أفضل من التعايش مع غيره. فالخلاف مع الكبار المميزين بأخلاقهم وصبرهم ووعيهم وانفتاحهم أفضل بكثير من التعاطي مع الصغار في نفوسهم وممارساتهم. رفيق الحريري أسطورة وظاهرة في تاريخ لبنان وصاحب طاقات وقدرات ودينامية ومبادرات أبقت الأمل في نفوس اللبنانيين في كل المراحل. الذين كانوا يحبونه كانوا يتطلعون اليه في الأيام الصعبة. والذين كانوا يخالفونه الرأي أو يناصرونه العداء حتى كانوا يتطلعون إليه. ففي الحرب اندفع لمنع تسعير نارها وتمددها ولإخمادها وكان وسيطاً بين اللبنانيين ومساعداً للبنان ولعائلات لبنانية كثيرة للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. حتى وصلنا الى اتفاق الطائف وكان هو أحد أبرز مهندسيه. وهو الذي أعاد الأمل الى لبنان بقدرته على القيامة والنهوض. هو مؤسس الانماء والاعمار والتنمية بعد الحرب. ورغم كل الاتهامات التي وجهت إليه في حينه اعترف له الجميع بالجميل بالانجازات التي لن تنسى من ذاكرة اللبنانيين وهو الذي وضع لبنان على الخارطة الدولية وأعاد الثقة الخارجية به. كان رئيس حكومة من طراز رفيع سخر كل علاقاته الدولية والاقليمية لمصلحة وطنه وشعبه ولمصلحة سوريا والعلاقات اللبنانية - السورية، وقد اعترف له اللبنانيون والسوريون بذلك، وخصوصاً الذين كانوا ينزعجون من هذا الحجم وهذا الدور وتلك العلاقات. رفيق الحريري كان أكبر من رئيس حكومة في لبنان. لا ينساه اللبنانيون حاملاً وطنهم وقضيتهم على طائرته متنقلاً فيها من عاصمة الى عاصمة ومن مركز قرار الى آخر طالباً الدعم والمساعدة وقد نجح في محطات كثيرة فحاز ثقة اللبنانيين وعزز الامل في نفوسهم. رفيق الحريري في مواجهة كل اجتياح وعدوان اسرائيلي كان في شخصه وحركته يختصر مؤسسات دولة وأكثر من لوبي سياسي دبلوماسي واعلامي لحماية لبنان. ولا ينساه اللبنانيون في العدوان الاسرائيلي العام 96 والمجازر التي رافقته، وهو أحد صناع تفاهم نيسان لحماية المقاومة. لقد كان ايمانه كبيراً بالمقاومة. المقاومة السياسية والدبلوماسية والثقافية والانمائية والاقتصادية والمالية والعسكرية وكان يرى كل هذه العناصر متكاملة وبما أنجزه في هذه المجالات كان مقاوماً من الدرجة الأولى. فمحاولة تدارك العدوان مقاومة. والتصدي له عند وقوعه مقاومة. والعمل على ازالة آثاره من النفوس وعلى الأرض مقاومة. فكيف إذا كان الرجل أحد أبرز الذين أطلقوا دور لبنان وأرادوه دوراً متجدداً قوياً فاعلاً في المنطقة بعد الحرب الكبرى والحروب الاسرائيلية المتلاحقة والتي كانت تهدف الى الغاء هذا الدور واسقاط لبنان؟؟. لقد تحمل رفيق الحريري الكثير وصبر ولم يضعف. لم يسقط. ورغم كل محاولات تحجيمه، التي استخدمت فيها أساليب كثيرة لم يستسلم. كان يتألم لأنه يعرف ماذا يجري. ولماذا يستهدف. وكان يعرف ماذا يخطط للبنان ويقلق من جهل الجاهلين وحقد الحاقدين وادعاء المدعين. لقد وصل لبنان منذ سنوات الى مرحلة كان يسقط فيها ويسقط معها الحلم وكل الانجازات التي تحققت. ولم نكن قادرين على دفع رواتب الموظفين. وكانت الأنظار شاخصة الى «المنقذ» - دون مبالغة في هذه الكلمة - وكان باريس 2 الحدث الذي لا يمحى من ذاكرة اللبنانيين. رئيس حكومة لبنان يتمكن من عقد مؤتمر يجتمع فيه معظم قادة الدول الكبرى والقادرة والعنوان: مساعدة لبنان. والدور الأساس للبناني رفيق الحريري. من أحبه اعتز بصدق بأن يكون في وطنه رئيس حكومة بهذا الحجم. ومن خاصمه وكرهه تهيب وجود رئيس حكومة مثل الحريري ولكن ذلك صب في خانة الاجماع على أهمية ومحورية موقعه في الحياة السياسية اللبنانية وعلى الاحترام الدولي له. لقد كان رفيق الحريري رفيق لبنان وشعبه. لا يهدأ. لا ينقطع عن التفكير. لا تتوقف أحلامه. ولا يضعف ايمانه. وحتى الساعات بل اللحظات الأخيرة من حياته كان يخطط للمستقبل ويطرح أفكاراً ومشاريع جديدة يسأل عنها بشغف واهتمام. ولست هنا في معرض رثاء الصديق والرجل الكبير الذي رافقته لسنوات وعرفته عن كثب. ولست هنا لأقدم شهادة فيما أعرفه عنه فقد يأتي وقت أكتب فيه إن شاء الله كل ما عرفته عنه ومنه وهو كان موسوعة معلومات لكنه كان يتحلى بالصمت ولا يبوح بالكثير أو بالقليل إلا لقلة قليلة من الناس ولم يكن يكتب أو يسجل مذكرات وقد حفلت حياته الأسطورية بكثير من المبادرات والتحركات واختزن أكثر وأكبر وأخطر معلومات عن فترة الحرب وما بعدها وهو أبرز التحركات واختزن أكثر وأكبر وأخطر معلومات عن فترة الحرب وما بعدها وهو أبرز صانعي السلام في لبنان وعن فترة سنوات حكمه لاسيما الفترة التي رافقت التمديد في الأشهر الأخيرة وما تلاها. فقط أكتب هذه السطور بعدما سمعته من تعليقات رسمية وشعبية على اغتيال الشهيد الكبير. وما رافقته على الأرض من نبض شعبي في يوم الوفاء والوداع الكبير له. نعم كان اللبنانيون مذهولين. غير مصدقين. ولم يحصل أن قرعت أجراس الكنائس ولاقت أصواتها أصوات مآذن المساجد في العاصمة بيروت وعدد من المناطق اللبنانية كما حصل في ذلك اليوم تحية لرفيق الحريري. ولم تشهد الأمة مأتماً شعبياً بحجم مأتم الحريري بعد مأتم عبد الناصر دون الدخول في مغامرة المقارنة بين الشخصيتين ورفيق الحريري نفسه لم يكن ليقبل ذلك. لكن الواقع الذي عشناه في لبنان ذكرنا في تلك المحطة. ولم يكن اللبنانيون يعبرون عن قلق فقط وهم يودعونه في بيروت. كنا نسمع ونلمس ان شعوراً يتملكهم ان لبنان اصبح بلا رفيق!! ليس بالمعنى الجسدي لشخص رفيق الحريري بل لما كان يمثله من ضمانة. نعم. كانوا يعبرون عن شعورهم وكأن غياب الحريري يعني التخلي عن لبنان. ترك لبنان. فلا رفيق له بعد اليوم. وطبعاً لم يكن هذا ما يريده الحريري في حياته بل فرض الامر عليه كما فرض على اللبنانيين. انه شعور خطير جداً لكنه حقيقي. إلا ان مشاركة مئات الألوف في التشييع والحجم الدولي الذي حظي به الاهتمام باغتيال الرجل الكبير يشكلان أملاً كبيراً. ويجب أن يبقى رفيق لبنان الأمل. والوحدة الوطنية كما كان يريد رفيق الحريري. ولاشك في أننا أمام تحد كبير وتحول كبير في الحياة السياسية اللبنانية بعد خسارة هذا الرجل الذي لا يعوض. ومن الضروري التفكير بأن ثمة مشروع فتنة مقبلاً على لبنان لاذكاء صراعات طائفية ومذهبية وأن الاغتيال يتجاوز الحقد الكبير على رفيق الحريري. فلبنان لا يزال في دائرة الاستهداف الأساس. استهداف دوره ومستقبله وحرية نظامه السياسي وديموقراطيته وحقوق الإنسان فيه والسلطة اللبنانية تتحمل مسؤولية كبيرة بعد أن انحرف كثيرون فيها في اتجاه تعميم مناخ التحريض والاتهام والتشكيك باللبنانيين وقادة الرأي وأصحاب القرار في صفوفهم كما حصل في الأسابيع الأخيرة متجاوزين كل أصول الحرص على الحق في التعبير والاختلاف وعلى احترام القوانين. وقد نال الحريري الكثير من ذلك وظلم. وما جرى على الأرض في بيروت في يوم الوداع وما قبل تجاه سوريا لم يكن يألفه رفيق الحريري ولم يكن يريده في حياته ولا في لحظة وداعه لأنه كان صادقاً مع نفسه ومع سوريا. لكن وقائع الأشهر الأخيرة خطيرة ولم يعد ثمة شيء مخبأ ولذلك فإن الأمر في غاية الخطورة وسوريا مطالبة بالكثير تجاه لبنان واللبنانيين منعاً لمزيد من التوتر والانفعال وردات الفعل. لن ندعهم يسقطون لبنان. وكل رفاق الحريري هم رفاق لبنان. لن نتخلى عن لبنان. سيبقى رفيق للبنان. وسيبقى للبنان أكثر من رفيق.. إن لم يكن ليس ثمة مثل رفيق الحريري. لن ينقطع الأمل والرجاء.