"قضى شاباً لم يتجاوز الثلاثين، ولو قد عمر لكان له في حياة الشعر العربي الحديث شأن أي شأن، ولكان له بين الشعراء المحدثين مكان أي مكان. وكثير من الشعراء يمرون بالأرض سراعاً ولكنهم يتركون فيها آثاراً باقية طويلة البقاء ... كان ابو تمام من هؤلاء الشعراء ... وكان اندريه شينييه من هؤلاء الشعراء ... وفوزي المعلوف بعيد كل البعد عن أن يشبه بأبي تمام او يقاس الى اندريه شينييه، ولكنه قريب كل القرب من ان يذكر معهما ... وبالأرض سريعاً ... ولكنه ترك في النفوس صدى يتردد فيها حلواً لاذعاً محرقاً معاً. لا اعرف أني تأثرت بشاعر كما تأثرت بهذا الشاعر الشاب، حين قرأت قصيدته "بساط الريح" امس، فاهتزت لها نفسي اهتزازاً، وأشفق قلبي لها اشفاقاً...". قائل هذا الكلام عن الشاعر فوزي المعلوف هو طه حسين، الذي كان واحداً من عدد كبير من الشعراء والكتّاب المصريين الذين اكتشفوا شاعرية المعلوف ومكانته وتوقفوا طويلاً عند مأساة رحيله المبكر، وكان منهم كذلك علي محمود طه الذي خصّه بقصيدة من اجمل قصائده هي "قبر شاعر" في ديوانه "اعلام التائه". ربما كانت الحداثة وتقلب الاحوال قد جعلا فوزي المعلوف منسياً بعض الشيء في أيامنا هذه، لكنه عند اواسط القرن العشرين كان يعد واحداً من المع الشعراء العرب، هو الذي ساهمت مأساة رحيله في اضفاء طابع رومانسي اكيد على حياته وشعره، اذ انه قضى ولم يتجاوز الحادية والثلاثين من عمره الا بشهور قليلة فكان لرحيله المبكر صدى حزين في طول العالم العربي وعرضه. ولد فوزي المعلوف العام 1899 في زحلة، حيث تلقى دراسته الابتدائية قبل ان ينتقل الى بيروت حيث استكمل دراسته الثانوية واتقن العربية والفرنسية بشكل جعله قادراً على ان يعمل، ما ان انتهت الحرب العالمية الأولى، في التجارة ثم يلتحق بالعمل الوظيفي في "الجامعة السورية" بدمشق، وهو في دمشق كذلك بدأ يمارس مهنة الصحافة. غير انه ما ان حلّ العام 1921 حتى ترك كل ذلك وأبحر الى البرازيل حيث اشتغل في التجارة والصناعة، في نفس الوقت الذي راح فيه يكتب الشعر والنثر والرواية التاريخية بوتيرة متسارعة قد تشي، بالنسبة الى البعض، باحساس الشاعر الكاتب بأن سنوات عمره ستكون قصيرة ويتعين عليه الاستفادة منها الى أقصى الحدود. حين وصل فوزي المعلوف الى البرازيل لم يكن متبقياً له للعيش سوى عشرة اعوام، وهي اعوام قضاها موزعاً بين التجارة والصحافة والكتابة، لكنه نادراً ما كان يأبه بأن ينشر كتاباته بحيث ان معظمها قد صدر بعد رحيله، اضافة الى ان ثمة قصائد كثيرة له لم تنشر حتى الآن. وعلى رغم كثرة ما كتبه فوزي المعلوف فإن قصيدته الملحمية "على بساط الريح" تعتبر اشهر وأروع أعماله، وهي القصيدة التي كرس له طه حسين صفحات نقدية مدهشة. وهذه القصيدة لم تظهر مطبوعة في حياة الشاعر، إذ يقال انه قضى نحبه اثر عملية جراحية اجريت له، فيما كان منكباً على تصحيح "بروفات" طباعة تلك القصيدة. اما طبعتها الأول فقد صدرت في "ريو دي جانيرو" تحت اشراف اخيه الشاعر شفيق المعلوف. مهما يكن فإن لكتابة تلك القصيدة حكاية جديرة بأن تروى، حيث ان الشاعر قام في العام 1926 برحلة بالطائرة فوق مناطق البرازيل، ولقد اثرت به تلك الرحلة الى درجة جعلته يكتب القصيدة، التي تألفت من أربعة عشر نشيداً وجعلت صاحبها يلقب منذ ذلك الحين بپ"شاعر الطيارة". ولقد كتب طه حسين عن تلك القصيدة يقول: "انها قصيدة تمتاز بهذا الروح الحلو الوديع القوي الذي تكون من جمال الشعر والموسيقى وانبث في القصيدة كلها فجعلها كلها خليقة بأن تقرأ وتقرأ، لا يزهد فيها القارئ ولا يمل من قراءتها، بل يرغب القارئ اشد الرغبة في ان يستريح الى هذه القصيدة حين يثقل الهم على نفسه لأنه يجد في هذه القصيدة شريكاً له في الهم، ومشاطراً له في الحزن ومعيناً له على الضيق". ولم يكن طه حسين الوحيد الذي احب "على بساط الريح"، فالقصيدة منذ ذاعت بنصها العربي، اثارت الاهتمام بها وبالشعر العربي عموماً، حيث نقلت فوراً الى البرتغالية ثم الى الاسبانية، والانكليزية والفرنسية والألمانية والروسية والرومانية، وهي ترجمت الى بعض اللغات الانكليزية والفرنسية، مثلاً عدة مرات. طبعا، كانت "على بساط الريح" أشهر قصائد فوزي المعلوف لكنها لم تكن عمله الوحيد، اذ اشتهرت له ايضاً روايته التاريخية "ابن حامد" التي صدرت في بيروت في العام 1957، كما اشتهرت له قصائد عديدة وترجمات نشر معظمها في مجلة "الآثار" التي كان يصدرها والده المؤرخ عيسى اسكندر المعلوف. عند رحيله جرى الحديث عن فوزي المعلوف بشكل اسطوري وتنوقلت الحكايات عن غرامياته البرازيلية ومشاريعه وأحلامه، ولقد كان لرحيله صدى، كما اشرنا، لدى الشعراء والكتّاب العرب، حيث رثاه معظمهم، وكان منهم شقيقه الشاعر شفيق المعلوف الذي قال في رثائه: فوزي ومالي في الخطوب يدان ما هكذا الاخوان يلتقيان قربت صدري للعناق فلم أقع الا على قطع من الصوان