من عبقرية الطفولة وأجنحة خيالاتها وتصوراتها، من مدارات الأوهام التي ترعب الأطفال في عتمة الليل، بل من صحوة كوابيسها، أوجد الفنان التشكيلي الشاب شارل خوري لغته التصويرية التي تدور في عالم الحيوانات والحشرات الغريبة الخالي من أي دلالات رمزية أو استعارية. والمعرض الذي يقيمه الفنان في صالة المركز الثقافي الفرنسي، يلقي الأضواء على تجربته الفنية المتطوّرة. 28 لوحة أكريليك على قماش الخيش والورق تستبد بناظريها في رؤى هي ما فوق الواقع، لكأنها صور مكبرة أو ميكروسكوبية عضوية لكائنات، تنتمي الى علم الأحياء أو الخيال العلمي أحياناً، لكنها غير عدائية على رغم مظاهرها المتوحشة وأشكالها المسننة والمتقوسة أو المحدبة، اذ تنقل مناظر حلمية عن الغابة الليلية وتدنو أحياناً من رؤى العالم السفلي أو المغاور والكهوف البدائية حيث تعيش هذه المخلوقات في الظلمة وتتمسك بالجدران أو تعشش في ثغراته وثقوبه. انه لعالم مبهم وغرائبي قاتم حين تفاجئه بقع الضوء الأبيض، فيرتعش وينتفض ويتهيب، كأنه على وشك الانقضاض أو المباغتة أو الاختباء بعيداً عن الأنظار، وهو مستقل بذاته عفوي متفاوت الأنواع والأشكال والأحجام والألوان، يتمتع بوجوده على مساحة حرة وطليقة ذات خشونة في الملمس، مؤاتية لظهور تلك المخلوقات أو لتموضعها على مسطح واحد قريب من العين، شبيه بتصاوير الجدران في الفنون البدائية. كأننا ازاء استعادة محدثة للمكانة القدسية التي كانت تتمتع بها الطيور والزواحف والحيوانات الأليفة والمفترسة في الحضارات القديمة. اذ ان كائنات شارل خوري تحمل مجازاً الطاقة السحرية لقوى الطبيعة، في تعبيرية شبه احتفالية تقيم شعائرها القبلية على أرض غير مكتشفة، وهي تؤلف حالاً طقوسية تميل الى ألوان الحرائق والدخان. ثمة كائنات فضائية ترتدي الأقنعة، وأشباح لغرابيب سود وطيور وقطط وحشرات زاحفة وطائرة وزخارف وأشكال هجينة ومفردات هندسية، تدخل في تكاوين هذا العالم الحيواني الفطري والمتخيل والسحري. ويبدو ان المناخ اللوني هو الجاذب الرئيس الذي يفرض نفسه بقوة، من خلال ايحاءات اللون الأسود والخلفية اللونية البرتقالية مع التلطيخ بمشحات الأبيض. وهي ألوان تذكّر بالأرض والنار ومغيب الشمس وعتمة الليل وضوء الصباح. فطريقة ملء المساحة على جانب كبير من العفوية التلقائية التي تأتي بالتراكم والتراتب والاصطفاف للكائنات من دون وجهة محددة. فالغرافيكية هي التي تحدد وتؤطر بالأسود وتمنح الأشياء قوتها وصلابتها وحضورها، وهذه الخطوطية السوداء العنكبوتية هي التي تغزل نسيج اللوحة وتبعث على الريبة والتحفظ في مقاربة كائنات حية لعوب ومتحركة، ولكنها غالباً من نسج الخيال. ويتم بسط اللون المذوّب على قماش الخيش في املاءات آتية من القريحة التي تلح على الألوان نفسها، في تكرار تلقائي يدخل في لعبة التدجين، لكأن الوساوس هي التي تزيد الايهام بأن ثمة عيوناً مفتوحة ترى في الليل بقوة واشعاع أكثر من النهار. لماذا حين يخيم الليل يسود القامات الخرافية المقنعة، التي تنتصب في الفراغ بل في عمائه؟ ولماذا ترتبط العتمة بالخوف من حشرجات الكائنات المتخفية؟ ولماذا يتهادى الى السمع، خشخشة الزواحف وزعيق الطيور والهوام وتحليق الخفافيش العمياء التي ترتطم بالجدران؟ في أعمال شارل خوري الخرافة تحيا وتنوجد وهي تنبثق من دخان وظلال وأجنحة ومناقير وفوهات مسننة كاسرة. هكذا يتوسع حضور هذه الكائنات التي تتكرر مراراً متحررة من سلطة المنطق والواقع الى فضاء الوهم والابتكار والمبالغة للوصول ليس الى الشكل، بل الى تكوينه المورفولوجي، كالجلد المرقط لبعض الزواحف. وبين مفارقات القوي والضعيف والزاحف الملتصق بتراب الأرض والطائر الهائم في صفحة السماء، يتبادر الى الأذهان المنطق الخفي لشريعة الغاب القائمة على السيطرة والتحدي في تحقيق وجود هذه الكائنات واستمرارها. في المعرض ثمة لوحات تدور حول موضوع ثانٍ، هو"بورتريه لوجه فتاة"ما هي الا عجالات لرسم واحد يرتدي لكل مرة أنواعاً من الطلاوات اللونية الزاهية. وازاءها يصعب القول ان شارل خوري ينجح في تصوير الانسان، بمقدار ما يبرع في ابتكار عالم الحيوان متواطئاً مع مخيلته التي استسلمت منذ سنوات لابتكارات رسوم تلاميذه الأطفال الذين علمهم وتعلم منهم على غرار بول كلي، كما تدنو من التخيلات السوريالية لخوان ميرو، ومن عبثية رسوم الأطفال وفوضويتها المطلقة في فن جان ميشيل باسكيا. لعل الجرأة التي يتمتع بها الأطفال هي التي دفعت الى السير في طرح هذا الموضوع، وأفسحت المجال لوسائل التعبير عنه ومعالجته بحيوية منطق الأطفال وبساطتهم واختلافاتهم واختزالاتهم وتحويراتهم للأشكال. غير ان شارل خوري ليس طفلاً كبيراً بطبيعته، بل راشد واع يقلد لغة الأطفال ويطورها في لغته التشكيلية ذات المناخات اللونية والاضاءات الآسرة، كي يسحر بها أعين الكبار. وهكذا روض موضوعاً لا يبالي به أحد، بل على العكس يثير الاشمئزاز والنفور، كي يحيل هذه الكائنات الغرائبية الى لغة تصويرية على جانب من الجدية تدفع الناظرين لاستساغتها في أطوارها وتحولاتها وتنقلاتها، ومراقبتها ولو من بعيد.