من المعروف ان السياسة"فن الممكن"، وبعضهم يعتبرها"فن تحقيق افضل الممكن"وبعضهم الآخر يرى انها فن تحقيق ما يبدو مستحيلاً. ويبقى العامل/ الضابط الأخلاقي او النظرة الاستراتيجية للسياسي، بحسب اقتناعه، العامل الفيصل في تحديد التوجهات ورسم الخطط والانتقال الى وضعية التنفيذ. مناسبة هذا الكلام تأتي في ظل الأجواء التي تشاع حول قرب التوصل الى هدنة فلسطينية - اسرائيلية يوقف بموجبها اطلاق النار وتستأنف عملية التسوية. وإذا كانت حركتا"حماس"و"الجهاد الإسلامي"ذاتا الحضور الفاعل في المقاومة المسلحة ضد الإسرائيليين والأكثر حضوراً ومشاركة في هذا الميدان، فإن الإيديولوجيا التي تعتنقانها والخطاب السياسي الذي ترتبطان به، يجعلهما الأكثر"مراوحة"امام قضية الهدنة، لاعتبارات عدة اهمها الخطاب الإيديولوجي - السياسي - الديني الذي تتميزان به وتخضعان له، اضافة الى"ضغوط"قواعدهما الرافضة لمبدأ الهدنة. ونجد ذلك عند"الجهاد"اكثر منه عند"حماس"لاعتبارات عدة لا مجال لذكرها الآن. ومن المعلوم ان حركات المقاومة ومنها"حماس"و"الجهاد"اعلنت في السابق هدنة من طرف واحد انتهكها الإسرائيليون عشرات المرات عبر مواصلة عمليات الاغتيالات ضد قادة المقاومة وناشطيها. وأشارت الأحداث آنذاك الى ان"حماس"و"الجهاد"اعتبرتا الهدنة إجراء داخلياً هدفه تفويت الفرصة على الاحتلال وحرمانه من إشعال حرب فلسطينية داخلية. وهي بذلك اتت في سياق الفكاك من الضغوط الشديدة التي تعرضتا لها اقليمياً ودولياً، وليس في سياق التغيير البنيوي الداخلي لكلتيهما. ولذلك تعاملتا مع المتغير الطارئ بشيء من الواقعية، وأمسكتا"الفرصحة السانحة"التي قدمها الاحتلال باستمراره بالعدوان وعمليات الاغتيالات للانقضاض على الهدنة، وصوغ خطاب سياسي جديد مبني على الإفادة من التجربة السابقة ووفق شروط جديدة ووئام فلسطيني داخلي تستطيع من خلاله السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة المختلفة تحديد معادلة سياسية مبنية على الاستجابة للواقع الموضوعي والمتغير الطارئ لصوغ مشروع وطني جامع، وإن كان هذا الالتقاء على اهداف الحد الأدنى، في مواجهة الاستحقاقات والتحديات المفروضة وفق رؤية ترى الظروف الموضوعية والمتغيرات الحاصلة في عين المبصر الناقد. ففي ظل الواقعين الدولي والإقليمي المعقدين، والتفرد الأميركي، واحتلال افغانستان والعراق، والضغوط على سورية وإيران، والحرب على"الإرهاب"ومحاولة تجفيف منابعه، ومأزق عملية التسوية، والعدوان الإسرائيلي المستمر ضد مناطق قطاع غزة والضفة الغربية ووفاة الرئيس ياسر عرفات ووصول محمود عباس الى رئاسة السلطة ومنظمة التحرير مع ما رافق ذلك من اجواء اشيعت حول استئناف العملية السياسية فإن امام ابو مازن خيارين احلاهما مر: الأول ان يعمل على استئناف العملية السياسية بما تحمله من ضغوط وإملاءات إسرائيلية ومحاربة فصائل المقاومة المسلحة واجتثاث"الإرهابيين"وقتلهم، ومنع الدعاية التحريضية ضد اسرائيل، مع ما يحمله ذلك من مخاطر واضحة تتهدد وحدة الصف الفلسطيني الذي يعاني اصلاً من غياب رؤية واحدة للصراع وتتقاسمه استراتيجيتان اساسيتان: استمرار العمل المسلح، او تبني الخيار السياسي. والثاني تحقيق نوع من الوفاق الداخلي الفلسطيني يمنع قيام حرب اهلية داخلية يسعى إليها الإسرائيليون، ويحقق بالتالي نوعاً من الانسجام في العمل للوصول الى تحديد اهداف عليا للشعب الفلسطيني يسعى الجميع الى تحقيقها متلخصة بدحر الاحتلال عن الأراضي المحتلة منذ العام 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. ان الوصول الى هدنة ترضخ بموجبها اسرائيل الى المطالب والشروط الفلسطينية المتمثلة بوقف العدوان الإسرائيلي، وإطلاق معتقلين من اصل حوالى ثمانية آلاف معتقل فلسطيني، سيسمح لحركات المقاومة بالتقاط انفاسها وإعادة بناء ما دمر من"قوتها"العسكرية، وإعادة ترتيب اوضاعها استعداداً للمرحلة المقبلة التي ستشهد انتخابات بلدية وتشريعية يأمل بعضهم ان تكون مقدمة للإصلاح الشامل. وإزاء ما هو حاصل فعلاً، وما يجري ترتيبه وإعداده، فإن ما يسعى إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون وحكومته، يتمثل في تحقيق"فك ارتباط"مع غزة، يضمن من خلاله إعادة نشر قواته حولها، وإخلاء 17 مستوطنة من اصل 21 مع الاحتفاظ بالسيطرة على المعابر بما يمنع حرية الحركة للفلسطينيين، و"إعطاء"السلطة الفلسطينية حق إدارة شؤون المواطنين الفلسطينيين، وهو ما منحها اياه اصلاً اتفاق اوسلو عام 1993، فيما يسعى آرييل شارون الى إظهار ان انسحاب جيشه من القطاع"فرصة"لإحياء عملية"السلام"المتوقفة لعدم وجود شريك فلسطيني، وهو بالتالي يعطي المجال لاستئنافها من جديد. ويحاول ايضاً من خلال استمرار العدوان ضد المدنيين الفلسطينيين اظهار الانسحاب على انه ليس نتيجة هزيمة او تقهقر وأنه لم يتم تحت نار المقاومة الفلسطينية التي تسعى الى إثبات ذلك. إن التطورات الحاصلة على الساحة الفلسطينية، والتي يتداخل فيها قرب تحقيق انتصار فلسطيني بدحر الاحتلال عن قطاع غزة، مع الإصرار الإسرائيلي على ان يدفع الجانب الفلسطيني ثمن ذلك باجتثاث ما يسمى"الإرهاب"، ودفع ثمن هذا الانسحاب من خلال جعله انتصاراً إسرائيلياً يكبل ايدي الفلسطينيين ويجعلهم يدفعون إزاءه أثماناً باهظة من دون مبررات مقنعة تخضع لتقدير اللحظة السياسية وتداعياتها المختلفة وعلى كافة الصعد، كل ذلك يحتم على الفلسطينيين ان يكونوا اكثر إصراراً على العمل للاتفاق على تحقيق برنامج الحد الأدنى، وغير ذلك سيفجر الوضع الفلسطيني الداخلي، وهذا لن يكون في صالح احد من الفلسطينيين. كاتب فلسطيني.