ثمة معطيات تؤكّد أن الفلسطينيين يمهدون لتحقيق نقلة نوعية في نظامهم السياسي، يمكن تمثّل أهمها: أولاً، في التحول نحو الانتخابات بطريقة القوائم النسبية في الانتخابات التشريعية، ولو بنسبة النصف في هذه المرحلة. ومعنى ذلك أن الفلسطينيين، في هذه الطريقة، يقطعون خطوة نوعية كبيرة في اتجاه توليد نظام سياسي جديد، يكفل لكل القوى السياسية الفاعلة التمثّل في المجلس، بغض النظر عن أحجامها. إضافة إلى ذلك فإن الانتخابات النسبية، التي تجري باعتبار"الوطن"الضفة والقطاع بمثابة دائرة انتخابية واحدة، من شأنها وضع الأسس اللازمة لتسييس طابع التصويت، أي إخراجه من إطار الارتهان العشائري والجهوي، إلى الإطار السياسي/ الوطني. ثانياً، للمرة الأولى تتّجه حركة"حماس"الى المشاركة في الانتخابات التشريعية، الأمر الذي يضفي على هذه الانتخابات أهمية خاصة، فهي ستشهد نوعاً من التنافس الحامي بين هذه الحركة، التي تتزعّم المعارضة، وبين حركة"فتح"التي تقود الساحة الفلسطينية المنظمة والسلطة. وبديهي أن هذه الانتخابات ستحسم الجدل حول الحركة التي تحظى بشعبية أكبر في الساحة الفلسطينية، كما في شأن الاتجاه السياسي الذي يريد الفلسطينيون السير فيه. ولا شك في أن مشاركة"حماس"في الانتخابات المقبلة، بغض النظر عن نتائجها، ستؤدي إلى انخراطها بشكل أكبر في النظام السياسي الفلسطيني، بعدما عملت من خارجه طيلة عقدين من الزمن. ثالثاً، تجري الانتخابات في ظل مخاضات، أو في ظل عملية انتقالية، تعيشها حركة فتح بالذات، والتي ظلت تقود حركة التحرر الفلسطينية منذ منتصف الستينات. واللافت أن هذه الحركة أرادت أن تواكب المتغيرات السياسية الحاصلة، محليا ودوليا، فلجأت إلى الانتخابات التمهيدية الداخلية البرايمرز لحسم الجدل الداخلي في شأن تحديد مرشحي"فتح"في القوائم التي ستقدمها الحركة لانتخابات المجلس التشريعي نهاية كانون الثاني يناير المقبل. ولا شك في أن هذه الخطوة، على رغم اشكالياتها والتداعيات التي نتجت عنها، هي بمثابة نقلة نوعية كبيرة إلى الأمام، لتخليص هذه الحركة من الترهل والجمود الذي بات يعتري بناها وهياكلها وقياداتها. وكالعادة، في وضع الفلسطينيين، فإن مسار هذه المعطيات لم يكن سهلا البتة، من كل الجهات. والمفارقة بالنسبة الى الانتخابات التشريعية، أن السلطة الفلسطينية ممثلة برئيسها محمود عباس، كانت أكثر"ثورية"من مجلسها التشريعي في موضوع الانتخابات النسبية. والثابت أن قيادة السلطة بالذات هي التي فرضت الانتخابات النسبية، في حين كادت غالبية في المجلس تطيح بهذه الطريقة، أو تؤجلها لمرة قادمة، بدعوى عدم ملاءمة الظروف، وعدم التسرع في تحقيق هذه النقلة، وذلك تخوّفا من تضاؤل فرص بعض أعضاء المجلس الحالي في النجاح في الانتخابات بهذه الطريقة، البعيدة من الانتماءات العشائرية والمناطقية. ومعلوم أن النتيجة آنذاك تمخّضت عن حل وسط تمثل في انتخاب نصف أعضاء المجلس التشريعي بالطريقة السابقة الدوائر المناطقية وانتخاب النصف الأخر بالطريقة النسبية على مستوى الوطن، مع زيادة أعضاء المجلس من 88 إلى 132 نائبا، بحيث يلقي الناخب بورقتين، واحدة للقائمة الوطنية التي تمثل اتجاها سياسيا معينا، والثانية ينتخب فيها المرشح الذي يريد في دائرته. وعندما حاول الرئيس الفلسطيني محمود عباس أواخر الشهر الماضي معاودة طرح المسألة على المجلس التشريعي القائم، باقتراحه إجراء الانتخابات بالطريقة النسبية لكامل أعضاء المجلس، ووجه بمعارضة شديدة، فلم يلق اقتراحه النجاح. وبغض النظر عن الأغراض التي أرادها الرئيس الفلسطيني من وراء اقتراحه هذا، فإنه قام بخطوة"ثورية"، في هذا المجال، في حين لعب المجلس دورا"رجعيا"فيه، ما عكس الأدوار المفترضة للطرفين. والمعنى أنه حتى لو كانت للرئيس الفلسطيني حسابات أو توظيفات سياسية معينة، في المدى المنظور، من وراء اقتراحه المذكور، فإن من شأن هذا الاقتراح، في حال تبنيه، تغيير البنية القيادية الفلسطينية جملة وتفصيلا على المدى البعيد، وهو ما لا يصب في مصلحة طبقة القيادة التي يمثلها محمود عباس ذاته، في حين أنه يصبّ في مصلحة أعضاء المجلس، الذين رفضوه بعقلية أنانية وبحسابات آنية ضيقة، علما أن هكذا اقتراح من شأنه تعزيز الترابط بين الضفة والقطاع. وبالنسبة الى امكان انخراط"حماس"في النظام الفلسطيني، فانها مسألة تكاد تكون غير محسومة بعد، على رغم اتجاهها الى المشاركة في الانتخابات، بواقع أنها لم تنضج بعد إلى درجة تجعلها تنسجم مع برنامج الإجماع الوطني على دولة في الضفة والقطاع، والتي تجعلها، أيضا، تكيّف ذاتها مع التوافقات الميدانية في شأن الأشكال الكفاحية المعتمدة، في كل مرحلة، في مواجهة إسرائيل. وفوق ذلك، فإن هذه الحركة في حاجة إلى مزيد من التفاعلات كي تقبل بآلية العلاقات الديموقراطية، وبالتنوع والتعددية، في الساحة الفلسطينية، بحكم غلبة الطابع الأيديولوجي على الطابع السياسي لها. أما لجهة توجه"فتح"نحو إجراء انتخابات تمهيدية داخلية برايمرز لفرز مرشحيها الى انتخابات المجلس التشريعي، فإن هذه العملية لم تخل من إشكاليات إن من جهة قيادة الحركة أو من جهة قواعدها المعنية بهذه العملية. والواقع فإن قيادة"فتح"تأخّرت كثيرا في إجراء مراجعة لبنية الحركة وهياكلها، وربما أعاقت الحراك التنظيمي الداخلي طوال العقود الماضية. هكذا فإن هذه القيادة لم تهيئ القاعدة لخطوة من نوع"البرايمرز"، بسبب غياب علاقات المؤسسة وتسيّب الأطر التنظيمية وهلامية حدود العضوية والعلاقات الداخلية، وأيضا بسبب احتكار اللجنة المركزية أو بعضها للقرار السياسي والتنظيمي والميداني فيها. وفي المقابل فإن قاعدة"فتح"لم تتعامل مع هذا الموضوع بالطريقة المناسبة، وكانت ردود فعلها عليه فوضوية ومزاجية، في كثير من الأماكن"الوضع الذي تمثّل بالمظاهر المسلحة، التي صاحبت عملية انتخابات البرايمرز"، وبتشكيل قائمة انتخابية فتحاوية موازية للقائمة التي أقرتها القيادة الرسمية للحركة. ول اشك فيّ أن الوضع الاشكالي القائم في هذه الحركة يعكس حقيقة غياب مرجعية سياسية وتنظيمية معترف بها. على أية حال فإن الطريق ليست ممهدة تماما أمام تطور النظام الفلسطيني، بسبب الاحتلال الإسرائيلي، أيضا، فهذا الاحتلال يحول أساسا دون قيام حياة سياسية سليمة للفلسطينيين، ويعوق تواصلهم وتفاعلهم، كما أنه يعزز من قيم العنف لديهم على حساب القيم والعلاقات الديموقراطية، ثم أن هذا الاحتلال ما زال يسيطر تماما على حياة الفلسطينيين، وضمنها نظامهم السياسي. المهم أنه على رغم كل هذه الإشكاليات فإن النظام الفلسطيني يتجه نحو طي مرحلة ماضية من تاريخه وفتح صفحة جديدة منها. كاتب فلسطيني