الشكوك والاتهامات التي وُجهت للإتنخابات الرئاسية الأولى في مصر كثيرةٌ معروفة، لكن التشدُقَ بأن النتيجة المعروفة سلفاً، أي فوز الرئيس، مصداق لأمانة التغيير، أشد وطأةً من كل طعن"فإذا كان هذا معيار الحكم على ما جرى، فلمَ الانتخابات أصلاً؟ وإذا كان التحول نحو الديموقراطية هو المطلوب فما قيمةُ ما حدث إن لم يقدم لنا لب الديموقراطية: انتخاباتٌ فوق مستوى الشبهات؟ قليلٌ يشيرُ إلى أن ما حدث استهدف تغييراً جوهرياً، لكن ما طرأ على الحياة السياسية المصرية ترك آثاراً عميقة قليلٌ منها يدعو إلى التفاؤل. صحيح، قبل السابع من ايلول سبتمبر الفائت كان مجلس الشعب من يرشح الرئيس للاستفتاء، ومجلس الشعب عادةً، منذ انقلاب يوليو 52، وليدُ انتخاباتٍ مشكوك فيها، بل مطعون فيها بشكلٍ متكرر بعشرات الاحكام القضائية التي تثبت التزوير. لكن، بالرغم من ذلك كله، لم ينقل المجلس ضعف شرعيته إلى مؤسسة الرئاسة، ربما لأن رجل الشارع لم يكن له دور مباشر في عملية الاختيار أصلاً. يوم الانتخابات أخذ الأمر منحىً مختلفاً، و بدلاً من أن تُستبدل شرعية تقوم على أساسٍ مهزوز بأخرى أرسخ حصل الأسوأ. تعديل الدستور في أيار مايو الماضي تمهيداً للانتخابات الرئاسية و بغض النظر عما شاب عملية الاستفتاء عليه وضع الإنتخابات الرئاسية في يد لجنةٍ ذات صلاحيات"إلهية"فجعلها، وهي المرتبطةُ بهيئاتٍ قضائية عليا، فوق المساءلة والطعن. مبدئياً واصل النظام كله رفض مراقبةٍ دولية على الانتخابات. وحينما دنت ساعةُ الصفر رفضت اللجنة الرئاسية المشرفة رقابة مؤسسات المجتمع المدني على الإنتخابات، إذا لم يكن هناك ما يراد إخفاؤه. فإذا لم تكن هناك نيةٌ للتزوير فلماذا رفض الرقابة؟ لم ترجع اللجنة المشرفةُ للمنطق تسمح برقابة المجتمع المدني إلا في اللحظة الأخيرة. فإن لم تخشَ هذه اللجنة على مصداقيتها هي أفلم تقلقها شرعيةُ الرئيس القادم؟ لكن أقوى اتهام لمصداقية الانتخابات لم يأتِ من المخالفات الكثيرة التي وثقتها تقاريرُ المجتمع المدني والصحافة وطعونُ المرشحين، لكن من ضعف المشاركة الكارثي في التصويت. الأرقام الرسمية تقولُ إن عدد المشاركين كان 23 في المئة من إجمالي من يحق لهم التصويت 32 مليوناً، حصل الرئيس على أقل قليلاً من 89 في المئة من هؤلاء، أي على ما يقارب 20 في المئة من إجمالي الأصوات الصالحة. كل ذلك يؤذي شرعية الرئيس أياً كان بشدة. بدلاً من لجان إلهية فوق المساءلة، ألم يكن من الأولى بناء مصداقية عمليات التصويت عموماً، والتصويت المباشر على منصب الرئيس خصوصاً، قبل الزج بأهم منصب في البلاد في انتخابات محل شك؟ بدلاً من أن يأتي الرئيس مبارك أو سواه باستفتاء"مستور"من مجلس شعب ضعيف، أتى بانتخاباتٍ مكشوفة مطعون في شرعيتها فانتقل الضعفُ إلى المؤسسة الأعلى على الإطلاق، وهو أمرٌ يصعب وصفه بالإيجابي. ربما كان إضعافُ الرئاسة الذي تفرضه الانتخابات والفراغ السياسي الذي يخلفه ذلك أمراً صحياً لو تزامن مع تقوية مؤسسات أخرى تُغني العملية الديموقراطية وتحميها. حدث العكس. أُقحمت المحكمةُ الدستورية العليا في عملية الإقتراع من خلال إشراف رئيسها على لجنة الإنتخابات التي ذكرنا فانتقص من هيبتها، وهي الهيئة القضائية الأعلى التي حلت قراراتها في ما مضى هيئات برلمانية ونقضت قرارات لرئيس الجمهورية. حسمت الانتخابات إذاً من شرعية الرئاسة كما حسمت من شرعية أعلى مؤسسة قضائية في البلاد ومن ثم أضعفت النظام القضائي كله في وقت ليس هناك ما يشيرُ إلى أن المؤسسة التشريعية الأساس مجلس الشعب ستكونُ أقوى أو أفضل حالاً مما هي فيه من هزال. لكن أسباب التشاؤم والقلق تتعدى إلى الأخطر. شاركت زعامات دينية في الحملة الدعائية لمرشح الحزب الحاكم. دخل هؤلاء طرفاً في منافسات يفترض مقامهم الترفع عنها. أنباء كثيرة تشير إلى أن قيادات دينية طالبت"أتباعها"بالتصويت للرئيس. أنصوتُ كمسلمين ومسيحيين أم كمواطنين مصريين؟ كأفراد أصحابُ أختيارٍ حر أم ك"رعايا"لقيادات دينية؟ الامرُ خطيرٌ يشير إلى لبننة مقلقة يلتبسُ فيها الديني بالسياسي وتبقى علمانيةُ الدولةخلواً من المعنى. كل ذلك يجري وفي الخلفية الحديثُ عن صعود نجم نجل الرئيس الأصغر. صحيحٌ، كما ذكر البعض دفاعاً عن مبارك الابن، حكم الهند الديموقراطية ثلاثة أجيال من أسرة واحدة راجيف وأمه إنديرا غاندي وجواهر لال نهرو ولم يعترض أحد، لكن هذا ذكرٌ لنصف الحقيقة، فالزعماء الثلاثة جاؤوا عن طريق انتخابات برلمانية موثوق به، صعوداً من حزب سياسي حقيقي قوي راسخ، وكانوا موضع مساءلة ومراقبة. في مصر ما زال العكسُ هو الصحيح، والإنتخابات الرئاسية الأخيرة أكدت قاعدة الشك والطعن لم تكسرها، وهذه العملية موضع الشك نفسها، نصاً دستورياً وتنظيماً وإدارةً وتنفيذاً، هي ما سيأتي من خلاله الرئيس المقبل أياً كان اسمه. الطريقة التي جرت بها الإنتخابات الرئاسية، ان تكررت، ستظهرُ وصول السيد جمال مبارك إلى سدة الرئاسة إن حدث على أنه استخلاف وتوريث لا خلافة في منصب يجب أن تحكم الوصول إليه الكفاءة والعملية الديموقراطية. الإعتراض لم يكن أبداً في جوهره على الشخص أو حقه كمواطن مصري في ممارسة السياسة لكن على طريقة الصعود وشرعيتها، والانتخابات الأخيرة أكدت أسباب النقد ودعمتها بدلاً من أن تبددها. التغيير كان سيكونُ أقوى وأنجع لو بدأ بانتخابات برلمانية نزيهة تؤسس لثقة بالعملية السياسية برمتها وتوفر شرعية أرسخً لديموقراطية نامية. أما البدءُ من قمة الهرم بانتخابات محل شبهة تضعفُ رأسَ البناء السياسي والقاعدة خواء كما هي، بل المؤسسات أقل قدرةً من ذي قبل، فهذا لا يشكك فقط بجدية نية التغيير، بل يدفع بنا إلى المجهول.