ان يتوقف دونالد رامسفيلد عن تسمية"المقاومين"بالمقاومين في العراق، لن يغير شيئاً في الواقع، طالما ان الرئيس جورج بوش وجد أخيراً توصيفاً ل"استراتيجيته"في هذا البلد، انها الانسحاب. وإذا كان بوش سماها"استراتيجية وطنية للانتصار في العراق"فهذا لا يغير أيضاً في الواقع، كما لا يغيره ان يسمى الانسحاب إعادة انتشار لقوات الاحتلال. الأهم ان بوش، كما تشيني أو رامسفيلد أو سائر أفراد عصابة اليمين المتطرف والمتحجر، لن يضمّنوا خطاباتهم وتصريحاتهم أي اعتراف بأخطاء استراتيجية الحرب والغزو والاحتلال التي طبخوها في لحظات كانت غطرسة القوة خلالها في أوج عنفوانها وهذيانها. بل خططوا في ثناياها لمد الاحتلال الى كل دول الجوار العراقي، في أكثر الخطط تخلفاً لاقامة"الامبراطورية". والأهم أيضاً، ان تغليف التراجعات وإضفاء أسماء وهمية عليها وادعاء"الانتصار"مهما كانت الأحوال، لن تنطلي على أحد، ولاسيما الأميركيين الذين يضغطون منذ شهور لوقف نهج التلفيق والكذب في الملف العراقي، وبالتالي لمواجهة الحقائق والتعامل معها. وبعدما جربت الادارة كل الحيل المتبقية لديها، اضطرت أخيراً الى"التقاط"ما سمته"توافقاً وطنياً"حول الانسحاب كمبدأ، على أن تترك التفاصيل والمواعيد للجهات العسكرية. وقبل ذلك استبقت الادارة هذا الخيار بمناورة سياسية اقليمية بدأت ب"إعادة العرب"الى العراق عبر الجامعة العربية، وتتواصل بفتح اتصالات غير مسبوقة بعلنيتها مع ايران، فضلاً عن تكتيكات هنا وهناك لإقفال بعض الثغرات. في الأساس لم يكن"الانسحاب"وارداً، أو على الأقل لم يكن متصوراً أن يطرح بمثل هذا الإلحاح الأميركي الداخلي. لماذا؟ لأنه لو كان وارداً في خطة الاحتلال لما طلب من الحاكم سيئ الذكر بول بريمر أن يكون قراره الأول حل الجيش والأمن وأجهزة الدولة، ولما كان العسكريون العراقيون السابقون جلبوا من منافيهم في الخارج ليتبلغوا بعد"التحرير"أنهم مصروفون من الخدمة خصوصاً أن بعضاً منهم طلبت منه خدمات للاتصال بقادة الألوية"الصدامية"والحصول على تعاونها بعدم القتال أو التعرض للقوات الأميركية المتقدمة نحو بغداد. ولا شك أن"استراتيجية"بوش الجديدة، المعتمدة على تجهيز الجيش والشرطة لتبرير الانسحاب، تفتقد الآن وجود ذلك الجيش الذي شاء الجميع ان يجهلوا حقيقته وتاريخه. فهو لم يكن صنيعة صدام بل وجد قبله، ولم يكن ذا لون طائفي واحد بل تعددياً، ولم يكن ذراعاً لحزب"البعث"بل ان هذا الحزب هو الذي عبث بمهنيته وأهانها ولم يتمكن مع ذلك من تبديدها. أي أنه كان جيشاً قابلاً للتأهيل والتنقية السريعين، ليخدم"الدولة التعددية الديموقراطية"الناشئة، بل الأهم أنه كان مؤهلاً لأن يشكل نواة حقيقية ل"الوحدة الوطنية"بدل ائتلاف الميليشيات الذي ينشأ الآن. حتى مع إقرار"الانسحاب"أميركياً، لا يزال هذا الخيار مشكوكاً به. لماذا؟ لأن"العقيدة"التي رسمت للجيش الجديد، تسليحاً ومهمات، كما أعلن عنها وكما تنفذ فعلاً، تنفي مسبقاً قدرته على الدفاع عن البلاد بحجة تجريده من إمكان الاعتداء على جيرانه. لكن ماذا عن اعتداء جيرانه عليه وماذا عن البؤرة الارهابية التي فتحها الاحتلال في البلد؟ لا بد أن هذه المهمة متروكة للأميركيين أنفسهم. اذاً، عن أي انسحاب يتحدثون؟ قد يكون انسحاباً على الطريقة الاسرائيلية مع قطاع غزة، بحيث يبقى الوضع على حاله: احتلال من دون احتلال، وانسحاب من دون انسحاب! ما الغاية إذاً من الاتصال مع ايران: للتفاهم معها على خطوط حمر كيف يمكن التأكد من مراعاتها؟، أم الإقرار بالاختراق الايراني للعراق، أم فتح صفحة جديدة لطمأنة ايران الى أنها لم تعد مستهدفة اميركياً لكن بأي ضمانات وعلى حساب من؟... يبدو أن المهم الآن - لزوم إراحة بوش داخل أميركا - ترتيب الوضع موقتاً، لذلك فإن"الانسحاب"لا يستجيب لمنطق الأحداث وانما يسعى الى الالتفاف عليها، فهل في ذلك ما يمكن أن يطمئن ايران وسورية، خصوصاً أن هاتين الدولتين تعرفان جيداً معنى"إعادة الانتشار"؟ الجواب في الوثيقة التي استند اليها خطاب بوش أمس، فهي تقول ان العراق سيكون"مسالماً وموحداً ومستقراً وآمناً ومندمجاً في المجتمع الدولي"، ولا اعتراض على هذا الهدف، لكنها تضيف أنه سيكون"شريكاً كاملاً في الحرب على الارهاب". صحيح ان هذا أمر طبيعي كما هي سائر الدول الآن، لكنه في حال العراق يعني استمرار تسميم أجواء البلد وسعيه الى السلم والاستقرار الأهليين.