ما عادت الصحراء تتقدّم، وبات الرجال والنساء هم الذين يجوبون الرمال، مقتفين نوراً وهميّاً، وهم يرتمون، في نهاية المطاف، على حواجز من الأسلاك الشائكة. يصنع البعض سلالم من القصب، ويتسلّق البعض الآخر الجدار، مستخدمين أياديهم وأرجلهم العارية. وتُحدِث الرياح ثغوراً في هذه الحدود الفاصلة، ويتخطّاها الأفارقة بقوّة وعزم، وإن كان الأمر يهدّد حياتهم... حياة مقوّضة يرغبون في تغييرها. ويسعون إلى إنقاذ أطفالهم الذين بقوا في البلاد، وقد تسنّى لهم الوقت الكافي ليروّضوا الموت. فضلاً عن الصدمة والانفعال اللذين تخلّفهما هذه المشاهد، لا يكتفي اليأس بالتحدّث إلينا، إذ يتغلغل في ديار شعبنا الأوروبّيّ الذي يعيش في الرخاء وينعم بالديموقراطيّة. وبماذا يخبرنا؟ يذكّرنا فقط بأنّ أفريقيا، وبالتحديد ما آلت إليه هذه القارّة الثريّة والمشوّقة، هي مستقبلنا. والفوضى القائمة تترقّبنا وتبعث إلينا برسائل. وتقوم مهمّتنا على فكّ رموز الرسائل وعلى أخذها بالحسبان، ما يعني أنّ علينا قياس مدى خطورة المشكلة وأهمّيّة عواقبها. ولم تفشل عمليّة إنهاء الاستعمار وحسب، بل أنّها تعرّضت للتخريب في كلّ مكان أثارت فيه الموارد الطبيعيّة الشهوات. وباتت عمليّة نهب أفريقيا مصقولة أكثر، حتّى أنّها تحوّلت نظاماً موازياً، توزّعت فيه الأدوار في شكل جيّد. وكلّما غاب التنظيم عن دولة سهلت عمليّة نهبها. فالدول التي يطّبق فيها القانون جيّداً لا تستقطب اهتمام المجتمعات التي تدّعي أنّها تستثمر في أفريقيا. وما أهمّ أن يوضع حدّ للرياء، أي للعلاقات المؤذية التي أبقى عليها المستعمرون القدامى حيال القارّة الأفريقيّة الشابّة والجديدة. أمّا النتيجة، فمجموعة بلدان حُكم عليها بنوع من البؤس والتشتّت. فالعقول الذكيّة تلوذ بالفرار ويسلك المتخرّجون الجدد درب الهجرة العشوائيّة وتبقى الطبقة الحاكمة، بغضّ النظر عن كونها عسكريّة أو مدنيّة، محافظة على السلطة بفضل حسابات شرّيرة تهدف إلى ضمان مصالح جهة الوصاية. والواقع أنّ العالم تقبّل أن يعيش ملايين الأفارقة حالة من اللامبالاة. ونستغرب إن رأينا آلاف الرجال والنساء يعبرون الصحراء في عدد من البلدان سيراً على الأقدام، ويتّجهون إلى حدود غائرة في الأراضي الأفريقيّة وملأى بالثغور، تفصلهم عن الأراضي الأوروبّيّة. وهذه الجماعات الجائعة التي تسير لأيام وشهور طوال، وهذه الظلال الهاربة من ظلمة الليل، ومجموعات المسافرين الضائعين في الوقت تقرع أبوابنا بوقور تامّ وتشير إلينا بيدها لتفهمنا بأنّها جائعة. وقد تعرّض البعض للنهب على يد مهرّبي الناس، وهم في عداد اللصوص الحقيقيّين، وتابعوا مسيرتهم اللامتناهية. وهم لم يتلقّوا دعوة من أحد، ومع ذلك نراهم جميعاً هنا: جميعنا أفارقة، بحسب ما يقول الألبانيّون والمغاربة والهنود والباكستانيّون والفليبينيّون... تتهاوى الكرة الأرضيّة ويكتفي العالم بكبت الخوف وبتشجيع الانطواء على الذات. تقفل الحدود ويدور الكلام عن الاحتلال، وتهدف المساعي إلى إنشاء معسكرات احتجاز في ليبيا، وهي عبارة عن مساحات تتوقّف عليها ظلال هذه الهجرة العشوائيّة، التي ما عادت خفيّة إلى هذا الحدّ، إذ أصبحت المعابر معروفة وبات الناس يدخلون عنوةً. وسينضمّ مستقبلنا إلى هذا الأتون ما لم تتّخَذ أيّ تدابير حاسمة. ولن تعود أوروبا قادرة على العيش بسلام وأمان، لأنّ الصحراء تتقدّم، وكأنّ أطفال الذين سُلِبَت أملاكهم توجّهوا تلقائيّاً إلى دول الشمال التي يعرضون فيها أنفسهم في سوق العمل. إلاّ أنّ الخوف يشتّت الأفكار ويجرّم ضحايا وضع جعلته العولمة أكثر سوءاً. ولا يعتبر رفض هؤلاء الرجال والنساء وتركهم في الصحراء أو حتّى مرافقتهم إلى بلادهم حلاًّ للمشكلة. وألقي الدور السيّئ على عاتق المغرب، وهو دور الشرطة التي تحول دون"احتلال"هذه الجماعات للقارّة الأوروبّيّة. وقد رأينا جميعاً لقطات تصوّر كاميرونيّاً يبكي مشيراً إلى لون بشرته ويقول لصحافيّ أوروبّيّ:"ليست مماثلة، ليست مماثلة." حان الوقت إذاً لتلتفت أوروبا إلى الجنوب وتتمتّع بخيال واسع كفاية لوضع سياسة هجرة حقيقّة، تكون مصحوبة بمشروع استثمار في هذه الدول الفقيرة، أو بالأحرى المفقّرة. ومن الضروريّ إنشاء سياسة أفريقيّة ضمن الاتّحاد الأوروبّيّ، تكون جدّيّة وصادقة وتتصدّى لمصالح الأفراد التابعين لقوى الاستعمار القديمة، وتساعد الأنظمة الديموقراطيّة الناشئة وتدعم تنمية تكون فعلاً مستدامة. عن الفرنسية