طرابلس - رويترز - نفض معمر القذافي بعض الزغب عن ثيابه الذهبية الفضفاضة وصب لنفسه كوباً من الشاي وواصل محاضرته غير عابئ على ما يبدو بمن بدأوا يتثاءبون من حوله... كانت الساعة الثانية صباحاً عندما كان رئيس زيمبابوي روبرت موغابي يغفو في أحد أركان القاعة. أظهرت النظرات الجامدة والوجوه العابسة للزعماء في قمة للاتحاد الأفريقي قبل عامين شاهدها صحافيون عبر ثغرة في الستائر، كيف كان يشعر معظم القادة الأفارقة تجاه من يسمى «ملك ملوك أفريقيا». تمتم ديبلوماسي أفريقي قائلاً: «هنالك يؤدي المهرج عرضاً»/ بينما هرول مندفعاً من الحجرة وأبلغ الصحافيين المنتظرين أن ينالوا قسطاً من النوم. وبعد قتل ودفن الرجل الذي ألقى أسلوبه المسرحي بظلاله طويلاً على قممهم، يحاول زعماء الدول الأفريقية جنوب الصحراء تقويم ماذا سيعني العالم من دون القذافي بالنسبة إليهم، وذلك وفقاً لمقابلات أجريت مع أكثر من عشرة ديبلوماسيين أفارقة في طرابلس. بعضهم حظي باستثمارات ضخمة وهدايا من خزائنه النفطية. لكن كثيرين أيضاً امتعضوا مما اعتبروه تدخله حتى حين كانوا يظهرون التضامن مع زميل أفريقي كان يرى نفسه ثائراً مناهضاً للاستعمار. ويؤكد سفراء وديبلوماسيون أفارقة أنهم بدأوا بالفعل يشعرون بأثر انتقال السلطة من القذافي إلى أعدائه. ويشعر كثيرون بالجفاء من جانب المجلس الوطني الانتقالي الذي يحكم ليبيا حالياً. بل إن البعض يشك في أن الحكومة الجديدة تريد استعادة بعض هدايا القذافي. وأياً كان ما سيحدث فقد ذهبت رؤية القذافي الوهمية لأفريقيا موحدة إلى غير رجعة. وقال أحدهم: «لقد جعلنا نشعر بأهميتنا. لكن لا توجه الدعوة لكثير منا للجلوس وتناول الطعام مع قادة المجلس الوطني الانتقالي». ويعود هذا في جانب منه إلى اعتقاد ترسخ لدى مسؤولي المجلس الانتقالي والمسؤولين الغربيين بأن محاولة الاتحاد الأفريقي للتوسط خلال الحرب الأهلية كانت تهدف إلى حماية القذافي. وبالنسبة إلى قادة ليبيا الجدد، سيكون الحلفاء الغربيون الذين ساعدوهم في الوصول إلى السلطة أكثر أهمية. ويلفت محلل شؤون أفريقيا جنوب الصحراء في مؤسسة «ستراتفورط الاستشارية مارك شرودر إلى أن «الإدارة الجديدة في طرابلس ترغب في تصحيح العلاقات مع الاتحاد الأفريقي... لكن الاتحاد الأفريقي لن يكون سوى لاعب أصغر بالنسبة إلى تحديد الأولويات». وشوهد الديبلوماسيون الغربيون كثيراً في طرابلس حيث يتنقلون بين الفندقين الفاخرين اللذين تجرى فيهما غالبية اجتماعات المجلس الوطني الانتقالي. بل إن بعضهم يرتدي عصابات للمعاصم بألوان علم الثورة ويشير قائدو سياراتهم بعلامة النصر عند نقاط التفتيش التي تحرسها قوات المجلس الوطني الانتقالي. وفي المقابل، نادراً ما يلحظ نشاط للديبلوماسيين الأفارقة في العاصمة حيث يجازف بني جلدتهم من الأفارقة من غير العرب بالاعتقال، بل والتعرض لما هو أسوأ، للاشتباه بأنهم مرتزقة موالون للقذافي. ومع رحيل القذافي يشعر آخرون بالضعف. وقال سفير إحدى الدول الأفريقية جنوب الصحراء في طرابلس: «هناك إحساس بأننا كنا نؤيده بأي ثمن من اجل حماية استثماراته في بلادنا». وأضاف انه بينما قد يحرص بعض القادة الأفارقة بالفعل على الاحتفاظ بأموال القذافي يرى آخرون أن التحرك الغربي في ليبيا «عمل من أعمال العدوان الاستعماري». وأياً كانت دوافع القادة الأفارقة في تأييد القذافي، فربما حان الآن وقت دفع الثمن. وتابع السفير: «الأفقر في القارة سيدفعون الثمن». ويقول المسؤولون في طرابلس إن استثمارات حكومة القذافي في أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء كانت ضخمة غير أنه لا توجد صورة كاملة لها حتى الآن، إذ ضخ استثمارات كبيرة في مشروعات تتراوح من جرارات تبرع بها لغامبيا إلى اتفاقات اتصالات بقيمة 90 مليون دولار في تشاد، في ما رآه اغلب المحللين السياسيين محاولة لشراء النفوذ في قارة كان يهدف إلى توحيدها بخطاب مناهض للاستعمار. ومنح القذافي الرئيس الغامبي يحيى جامع معونة وقطعاناً ضخمة من الإبل. وامتلكت شركة المدار الحكومية الليبية لتشغيل الهاتف المحمول أو سيطرت على عمليات اتصالات تزيد قيمتها على 100 مليون دولار في ثماني دول أفريقية. وقال سفير أفريقي آخر في طرابلس في معرض حديثه عن إسراف ليبيا في الإنفاق: «لم يكن كله بدوافع. فقد فعل خيراً كثيراً للدول الأفريقية... لم تكن لديه عنصرية تذكر خلافاً لبعض العرب الآخرين الذين يعاملوننا مثل العبيد عندما نأتي إلى هنا ونبحث عن عمل». وثمة خوف حقيقي في العواصم الأفريقية من أن المجلس الانتقالي سيطالب باستعادة الأموال رغم انه لم يضع سياسة رسمية بعد في شأن القضية. ووافق على ذلك الطرح المحلل في مركز «اتلانتيك كاونسيل» الأميركي للأبحاث بيتر فام. وقال: «هناك ترجيح أكبر بأن تتعرض مثل هذه الاستثمارات في أفريقيا جنوب الصحراء لضغوط لتسييلها لضمان الحصول على أموال لإعادة تأهيل البلد الذي مزقته الحرب». وربما تتأثر الموازنة الضيقة بالفعل للاتحاد الأفريقي، فالرجل القوي السابق في ليبيا دفع اكثر من نصيبه المقرر. وكان الإسهام الرسمي لليبيا 15 في المئة من نصف الميزانية التي يضعها الأفارقة انفسهم. لكن مسؤولي الاتحاد يقولون إن القذافي دفع أيضاً إسهامات لعدد من دول غرب أفريقيا الصغيرة بما يزيد على مثلي حصة الأموال التي يجب على طرابلس دفعها. وفي العلن ينفي المسؤولون أن تكون الخسارة المحتملة للتمويل مبعث قلق لهم. لكن كثيرين من رؤساء الدول الأفريقية ضاقوا ذرعاً بمحاولات القذافي للهيمنة عليهم، إذ شوهد الرئيس الأوغندي يوويري موسيفيني وهو يجادل القذافي في قمة في كمبالا العام 2010 بعدما اشتبك الحرس الخاص بالزعيم الليبي الذي كان يحاول إخفاء بنادق لإدخالها القاعة مع الأمن الخاص بالرئيس الأوغندي. وحينئذ صفع القذافي وزير خارجيته على وجهه أمام مجموعة من الصحافيين لمحاولة تفادي اللوم. وقال مسؤول في الاتحاد الأفريقي: «بالنسبة إلينا كانت هناك جوانب طيبة وأخرى ليست كذلك. لكن في شكل عام لن نفتقده». وأضاف مسؤول آخر رداً على سؤال: «لماذا تسألونني عن تركة القذافي؟ كفى محاولات لربطنا به. لم نعد نطيق ذلك».