Sophie Bessis. L'Occident el les Autres: Histoire d'une Suprژmatie. الغرب والآخرون: قصة هيمنة. La Dژouverte, Paris. 2001. 342 Pages. تعرّف مؤلفة هذه الكتاب عن نفسها بأنها مؤرخة. ولنقرّ لها حالاً بأن كتابها ليس محض كتاب في التاريخ، بقدر ما هو كتاب في فلسفة التاريخ. وكما هو واضح من عنوانه، فإنه لا يؤرخ لأحداث ووقائع، بل لنظرة: نظرة الغرب الى نفسه، ونظرته الى الآخر، ونظرة الآخر اليه. تاريخ هذه النظرة تتأوله صوفي بسيس على انه "قصة هيمنة". ونميل نحن الى ان نتأوله على انه "قصة تآكل هيمنة". فصحيح ان هيمنة الغرب لها اليوم من العمر خمسمئة سنة. وصحيح انه ليس في الأفق اليوم ما يوحي بأن هذه الهيمنة ستعرف نهاية قريبة. ومع ذلك فإن ديمومة هذه الهيمنة لا يمكن ان تفهم أو ان تفسر إلا من خلال تآكلها، أو بالأحرى تآكل النموذج الغربي الذي بدأ يفرض نفسه على العالم ابتداء من عام 1492، عام اكتشاف القارة الأميركية الذي دشن قطيعة الغرب مع خريطة القرون الوسطى وأرسى الأساس لخريطة جديدة للعالم، محورها الحداثة الأوروبية. ولئن وجدت هذه الحداثة رمزيتها الجغرافية في اكتشاف العالم الجديد، فقد وجدت ايضاً رمزيتها التاريخية في تحولين انقلابيين كان مسرحهما العالم القديم: سقوط القسطنطينية، عاصمة المسيحية الشرقية، في أيدي الفاتحين العثمانيين، وسقوط غرناطة، آخر معاقل الاسلام الغربي، في أيدي الملوك الاسبانيين الكاثوليكيين. ومع استبعاد هذين "الآخرين"، المتمثلين بالمسيحية الارثوذكسية والاسلام، أمكن لأوروبا الحديثة ان تؤسس نفسها في ذات مسيحية خالصة. ولكن ما كان لأوروبا ان تكتفي بمثل هذه القطيعة الدينية. فالأسطورة التأسيسية التي تحتاجها الحداثة لا بد ان تكون ايضاً من طبيعة فلسفية أو عقلية. وعلى هذا النحو اخترعت أوروبا الحديثة لنفسها اسطورة أصول يونانية. فأكثر ما ميز عصر النهضة الأوروبي هو عملية "وضع اليد" على التراث اليوناني من خلال فصل اليونان عن نطاقها الجغرافي الطبيعي: الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط و"تغريبها" أي ترحيلها غرباً بالمعنى الحقيقي والرمزي للكلمة. ومع هذه المصادرة للتراث اليوناني - أو المكتوب باليونانية بالأحرى - تم استبعاد جميع المصادر "الشرقية" التي شاركت في صنع هذا التراث، وبالتالي في صنع أوروبا الحديثة نفسها، من فرعونية وبابلية وفينيقية وهلنستية اسكندرانية وسورية. وبعد ان حبتْ أوروبا الحديثة نفسها بامتياز التمثيل الاحتكاري للديانة المسيحية وللعقلانية اليونانية طفقت تؤسس هيمنتها الكونية الجديدة على أساس عرقي: فالحضارة الأوروبية هي بامتياز حضارة "الرجل الأبيض". وعليه فإن قارات العالم الأربع الأخرى غدت موضوعاً للاستعمار أو للاستنزاف: الاستعمار لمواطن الرجل "الأسمر" و"الأصفر" في الشرقين الأوسط والأدنى، والاستنزاف - فضلاً عن الاستعمار - لمواطن الرجل "الاسود" و"الأحمر" في افريقيا والقارة الاميركية الهندية. ومع ان تجارة الرقيق الأسود لم تكن ظاهرة أوروبية خالصة - فقد سبقتها على هذا الطريق النخاسة الرومانية والعربية والبانتوية - الا انها اخذت مع الحداثة الأوروبية شكل استنزاف للقارة السوداء. فالنخاسة عبر الصحراء وعبر المحيط الهندي كلفت افريقيا نحواً من 14 مليون انسان، كما ان النخاسة عبر الاطلسي كلفتها رقماً يتراوح بين 10 ملايين حسب فرضية الحد الأدنى و16 مليونا حسب فرضية الحد الأعلى. ويبدو ان تجارة الرقيق الاطلسية كانت هي الأعلى كلفة، اذ ان نحواً من مليونين أو ثلاثة ملايين افريقي قضوا في أثناء "شحنهم" في السفن الى القارة الاميركية. وعلى هذا النحو تراجعت حصة افريقيا الديموغرافية من سكان العالم من 20 في المئة في نحو العام 1650 الى 10 في المئة في نحو العام 18000. وفي الوقت نفسه كان الهنود الاميركيون يتعرضون لعملية إبادة حقيقية للجنس البشري. ومع انه لا تتوافر في هذا المجال ايضاً أرقام نهائية، فإن المؤرخين يتحدثون عن إبادة ثلاثين الى خمسين مليون هندي اميركي في فترة نصف القرن الممتدة ما بين 1550 و1600. ففي المكسيك مثلاً تراجع عدد السكان الاصليين من 25 مليون نسمة عام 1519 الى 1.9 مليون نسمة عام 1580، وفي البيرو من 10 ملايين عام 1530 الى 1.5 مليون نسمة عام 1590. وفي الوقت الذي أفرغت فيه القارة السوداء من نحو 40 في المئة من سكانها، وفي الوقت الذي استؤصل فيه 60 في المئة من سكان القارة الحمراء، أخلى 60 مليون أوروبي قارتهم البيضاء ليهاجروا للتوطن في قارتي العالم الجديد: الاميركية والاوقيانوسية. وعلى هذا النحو نزح في الفترة ما بين 1830 و1920 خمسة وثلاثون مليون أوروبي ليصيروا مواطنين في الولاياتالمتحدة الاميركية، وفي عدادهم 4.6 مليون ايرلندي أي نحو نصف سكان ايرلندا الباقين على قيد الحياة بعد مجاعة 1848 و4.5 مليون انكليزي و6.5 مليون الماني و5 ملايين ايطالي و2.5 مليون سويدي. وبالإضافة الى هؤلاء "المتأمركين" استقر 8 ملايين أوروبي في كندا، ومليونان آخران في استراليا، و12 مليون أوروبي لاتيني من اسبان وبرتغال وطليان في اميركا الجنوبية. وآثر مليون آخر من الأوروبيين، لا سيما الهولنديين، الهجرة الى افريقيا الجنوبية. وكان آخر مظهر لهذه الهجرة الأوروبية نزوح مليونين من يهود أوروبا الشرقية وروسيا للاستيطان في فلسطين/ اسرائيل في العقود الثمانية الأخيرة من القرن العشرين. هذا التوسع الأوروبي الى اميركا واستراليا بصورة اساسية، والى جنوبي افريقيا والشرق الأدنى العربي بصورة جزئية، أفقد القارة الأوروبية محوريتها، وحتم ظهور مصطلح حضاري وابستمولوجي جديد هو "الغرب" بالمعنى الذي يتداول به اليوم. وعلى رغم الواحدية الظاهرية لهذا المصطلح، فإنه يخفي في الواقع الانقسام الثنائي في الحضارة البيضاء الى حضارة أوروبية وأخرى اميركية. وقد شهد القرن العشرون محاولة - فاشلة والحق يقال - لتحويل الحضارة الغربية من حضارة ذات رأسين الى حضارة ذات ثلاثة رؤوس بإضافة الحضارة "السوفياتية" التي غطت لمدة بضعة عقود كامل الجناح الشرقي من أوروبا وجزءاً كبيراً من الجناح الأوسط والشرقي من آسيا. ولئن يكن مفهوم "الغرب" قد فرض نفسه بقوة في الحقل التداولي الايديولوجي غداة الحرب العالمية الثانية التي وضعت في الحقيقة نهاية سريعة لمحاولة استنبات رأس رابع للحضارة الغربية هو الرأس النازي، فإنه سرعان ما داخله الالتباس بدوره منذ ان شقت اليابان في الطرف الأقصى من آسيا الشرقية طريقها - بعناد مثير للاعجاب - الى الحضارة الغربية وأدخلت نفسها بنجاح في مدارها. فاليابان التي حاكت في أول الأمر النموذج النازي الالماني انتهت - ولو تحت وطأة الهزيمة الحربية والاحتلال المباشر - الى تبني النموذج الاميركي والى التماهي معه الى حد مجاوزته. وهذه "المعجزة اليابانية" هي التي أحدثت قلقلة ابستمولوجية في مفهوم "الغرب". ولم تبق المعجزة اليابانية قاصرة على "النمر" الآسيوي الكبير، بل سرعان ما انتقلت عدواها الى "التنانين" الصغيرة الأربعة في جنوب شرقي آسيا: هونغ كونغ وسنغافورة وتايوان وكوريا الجنوبية. فعلى مدى أربعة عقود ضاعفت ناتجها القومي نحواً من أربعين مرة، وارتفع الدخل السنوي للفرد فيها من نحو 250 دولاراً في أواسط الخمسينات الى 15000 دولار، أو حتى الى 20 ألف دولار، في نهاية التسعينات. وبعد ان كانت حصتها من الناتج العالمي لا تزيد على 0.1 في المئة عام 1950، ارتفعت الى 2.5 في المئة عام 1995. وجميع المؤشرات تدل على ان التنانين الأربعة ستوالي تقدمها خلال العشرين سنة القادمة، لترتفع حصتها من الناتج العالمي الى 3.8 في المئة عام 2020. وذلك ينطبق ايضاً على النمور الآسيوية الفتية ماليزيا والفيليبين وتايلاندا التي سترتفع حصتها من الناتج العالمي من 0.8 في المئة عام 1992 الى 2.4 في المئة عام 2020. والتجربة التنموية للتنانين والنمور الآسيوية تنطوي على دلالة خاصة. فعلاوة على ما يمثله تقدمها الاقتصادي من تآكل في نموذج الهيمنة الغربية، فإنه يكشف عن ثغرة في سور هيمنة هذا النموذج. فهو قابل للمحاكاة واعادة الانتاج من منظور تصنيعي وتكنولوجي صرف من دون التقيد التام بالزاميته الثقافية. أضف الى ذلك ان تجربة التنمية الآسيوية أفقدت مفهوم "الغرب" ماصدقه كما يقول المناطقة. وبالفعل، وابتداء من تلك التجربة حلت في الحقل التداولي ثنائية جديدة، هي ثنائية الشمال - الجنوب، محل الثنائية التقليدية: الغرب - الشرق. ولئن تكن جميع دول الجنوب لا تزال - خلا استثناءات نادرة - دولاً "شرقية"، فإن دول الشمال لم تعد "غربية" حصراً. وهذا التحول مرشح لأن يتعزز في "عصر العولمة" الذي دخلت فيه البشرية. فالعديد من دول العالم، التي لا ينطبق عليها الوصف بأنها "غربية" مرشحة لأن تغير موقعها في خريطة الشمال - الجنوب، بما فيها الصين التي تمثل وحدها خمس سكان الأرض. فالصين، التي شرعت تحاكي منذ التسعينات تجربة اليابان والتنانين الصغيرة في كسر حاجز التخلف، تتهيأ لأن تغدو في ربع القرن القادم أقوى رابع قوة اقتصادية في العالم بعد الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان، اذ سترتفع حصتها من الناتج العالمي من 1.4 في المئة عام 1992 الى 3.9 في المئة عام 2020. وكمحصلة نهائية، وطبقاً لتقديرات البنك العالمي، فإن اجمالي الناتج الاسيوي سيتضاعف خلال العشرين سنة القادمة مرتين ونصف المرة ليمثل 15 في المئة من الناتج العالمي عام 2020 مقابل 6.7 في المئة عام 1992. قد يقال هنا ان العولمة، لا تعني شيئاً آخر في نهاية المطاف سوى تعميم النموذج الغربي على مستوى العالم اجمع خلا افريقيا جنوب الصحراء التي لا تزال حظوظها في العولمة معدومة. وهذا صحيح بمعنى من المعاني، لكن هذا الانتصار الكوني للنموذج الغربي تباطنه ايضاً هزيمة ما: فالنموذج الغربي لن يعم العالم، والحال هذه، الا بعد ان يكون قد فقد مركزيته الغربية، ونموذج بلا مركزية يكف عن ان يكون نموذجاً للهيمنة.