مشهد غير مألوف في السلك الديبلوماسي الفلسطيني منذ وجد مطلع السبعينات من القرن الماضي: عشرات السفراء الجدد الذين تراوحت اعمارهم بين 35 و50 عاما يتلقون دورة تدريبية في وزارة الخارجية في رام الله قبل التحاقهم بعملهم. عدد آخر من السفراء القدامى ممن لم يغادروا سفاراتهم منذ عقود طويلة يحزمون حقائبهم ويخلون مواقعهم لمن يخلفونهم من الديبلوماسيين الشباب، وآخرون يغادرون سفارات حملت اسماءهم أكثر مما حملت اسم بلدهم، إلى سفارات أخرى نقلوا اليها. هذا المشهد واحد من تغيرات قليلة تشهدها المؤسسة الفلسطينية منذ رحيل الرئيس ياسر عرفات الذي اتسمت ادارته لمؤسسات السلطة والمنظمة بالكثير من المحافظة والقليل من التغيير. لكن هذا التغير الذي يشمل الغالبية العظمى من سفراء فلسطين وممثليها لم يمر بسهوله، فقد واجهته صعوبات كبيرة على مدار الاشهر الخمسة الاخيرة تمثلت في الرفض والمقاومة الشديدين من جانب رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية فاروق القدومي ومعه عدد من السفراء. وحسب مصادر في وزارة الخارجية، فإن القدومي أطلق ما تبقى من رصاص في جعبته على هذه التغيرات عندما وجه الاسبوع الماضي رسالة إلى جميع السفراء دعاهم فيها إلى"التمرد"على قرارات وزير الخارجية ناصر القدوة ومساعده إبراهيم خريشة والبقاء في مواقعهم وعدم مغادرتها. وحسب المصادر نفسها، فإن بعض السفراء استجاب دعوة القدومي. وفضل وزير الخارجية ناصر القدوة الرد بتحفظ على سؤال ل"الحياة"بشأن من تمردا وهما سفيران، عندما قال:"بعض السفراء لديهم أوضاع صعبة. ظروف شخصية. ارتباطات في الدول التي يخدمون فيها مثل وجود الابناء في مدارسهم، والزوجات في وظائفهن. ونحن نقدر هذه الصعوبات، والأمور تحتاج لبعض الوقت". واضاف :"الأمور تسير على ما يرام ونحن ماضون في برنامجنا التطويري". لكن مساعد وكيل الوزارة الدكتور ابراهيم خريشة اعترف ضمناً بوجود مثل هذا"التمرد"قائلاً :"هناك بعض التلكؤ في تطبيق القانون والسبب هو ان هؤلاء السفراء لم يعتادوا على وجود قانون". وكان القدوة شرع في ادخال تغييرات كبيرة في السلك الديبلوماسي في أيار مايو الماضي عندما استدعى كل من يمكنه الدخول إلى الأراضي الفلسطينية من سفراء وممثلي فلسطين البالغ عددهم 90 سفيراً، ونظم لهم لقاء لمدة يومين، ناقشوا فيه تفاصيل قانون خاص مقترح لعمل السلك الديبلوماسي وأبدوا عليه ملاحظاتهم، وعرضوا خلاله مشكلاتهم، وفي مقدمها تدني رواتبهم التي بررت لغالبيتهم العظمى البحث عن مصادر رزق أخرى، والحصول على جنسيات الدول التي يقيمون فيها. وكان واضحاً من نصوص القانون الذي اقره المجلس التشريعي في وقت لاحق ان هذا السلك مقبل على تغيير شامل. فقد نص على احالة كل من تجاوز الستين من العاملين فيه على التقاعد. ونص ايضاً على تدوير"نقل"كل من مضى عليه أربع سنوات فأكثر في سفارة ما إلى سفارة أخرى. وشمل التقاعد بعد الشروع في تطبيق القانون هذا الأسبوع 22 سفيراً، فيما شمل التدوير السفراء الباقين باستثناء 12 سفيراً لم يمض على توليهم مناصبهم الفترة القانونية اربع سنوات. وبلغ عدد السفراء الجدد 33 سفيراً، واحيل على التقاعد 22 سفيراً وحوّل 13 سفيراً الى مناصب أخرى مثل مستشار. وشمل التدوير جميع السفراء في المواقع ذات التأثير السياسي والاقتصادي الدولي مثل واشنطنولندنوباريس وبكين وروما والأمم المتحدة وغيرها. وضمت مجموعة السفراء الجدد أكاديميين ونشطاء سياسيين وقادة في منظمات المجتمع المدني. ومن بينهم الاستاذ الدكتور مناويل حساسيان نائب رئيس جامعة بيت لحم الذي عين سفيرا في لندن والدكتور الياس صنبر الذي عين سفيرا لدى اليونسكو. وبين السفراء الجدد اربع نساء ابرزهن هند خوري الوزيرة الحالية التي عينت سفيرة في باريس وسمية برغوثي التي عينت في هولندا. وقال الدكتور القدوة ل"لحياة":"السفراء الجدد يشكلون كفاءات مهنية لافتة. يجيدون لغات اجنبية، وعلى دراية بالعمل الخارجي، وسيحدثون نقلة نوعية في عمل سفاراتنا وممثلياتنا". وبموجب القانون الجديد ترتفع رواتب سفراء فلسطين بنسبة 100 في المئة وتقدم لهم علاوة معيشة تصل لنسبة 400 في المئة. وكان تدني رواتب العاملين في السلك الديبلوماسي الفلسطيني احد ابرز العوائق امام تفعيل عمل هذا السلك. وقال موظف كبير في الوزارة:"الغالبية العظمى من السفراء والممثلين والعاملين في السفارات كانوا يعملون في مهن اخرى وهو ما كان يؤثر في جودة عملهم". واشار الى ان بعض السفراء حوّل مقر السفارة الى سكن خاص لعدم قدرته على دفع تكاليف المسكن، وان غالبيتهم تحولوا الى مهن اخرى واهملوا واجبات وظيفتهم. وقال الدكتور خريشة:"رواتب السفراء والعاملين في السفارات كانت ضعيفة، ولم تكن تكفي كثيرين منهم، وكان هؤلاء يحصلون على فوارق مالية عبر مساعدات يحصلون عليها من الرئيس، اما الآن فكل شيء يخضع للقانون الذي يساوي بين الجميع، ويميز بينهم فقط وفق جدول غلاء المعيشة في الدول التي يعملون بها". وشمل التغيير اقالة 100 من موظفي السفارات ودفع تعويضات لهم عن خدمتهم. وكان الرئيس الراحل عرفات يرفض كل مطالبات التغيير في السلك الديبلوماسي. وقال مسؤول في الوزارة ان بعض السفراء تجاوز الثمانين من عمره وهو في موقعه، وان بعضهم باتوا اكثر ولاء لحكومات الدول التي يقيمون فيها من ولائهم لبلدهم بعد ان حصلوا على جنسيات تلك الدول وبنوا لأنفسهم مصالح شخصية فيها. ويطلق الفلسطينيون نكات على بعض سفرائهم واصفين اياهم ب"سفراء لتلك الدول لدى السلطة". وقال سفراء جدد ان لديهم خططاً لاحداث تغيير جذري في عمل السفارات. وقال الدكتور مناويل حساسيان السفير المعين في لندن:"لولا انني شعرت بتغيير جدي في عمل السلك الديبلوماسي لما تركت جامعتي والتحقت به. انا الآن امام مهمة جدية تتطلب مني التغلغل في النظام السياسي البريطاني، والتواصل مع جميع الوان الطيف السياسي في هذه الدولة التي تعد منحازة للسياستين الاسرائيلية والاميركية. كما لدي مهمة في التعريف بفلسطين والتراث الفلسطيني، وتفعيل عمل الجالية الفلسطينية، وتعزيز العلاقات التجارية والثقافية والعملية مع بريطانيا". وقال هائل الفاهوم السفير في المانيا :"لدى السلك الديبلوماسي خطة عمل تقوم على تخصيص 90 في المئة من الوقت والجهد لانجازات ملموسة، وتخصيص 10 في المئة للدراسة واعادة التقييم". وقالت سمية البرغوثي السفيرة في هولندا:"انا اعمل في السلك الديبلوماسي الفلسطيني منذ العام 1984، اذ عملت في بعثة فلسطين لدى الاممالمتحدة في نيويورك، وللمرة الاولى اشعر ان لدينا مؤسسة ديبلوماسية. لدينا قانون ومرجعية ونظام. في السابق كان كل سفير يعمل حسب اجتهاده، ويقيم العلاقة التي يريد مع المركز الذي يريده في المنظمة والسلطة، اما الآن فالامور واضحة ومحددة. باختصار صار لدينا مؤسسة وقانون يطبق على الجميع من دون تمييز". ويعزى ضعف فاروق القدومي في مقاومة هذه التغيرات التي يرى انها اصابت صلب اختصاصه كرئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الى عاملين سياسي ومالي. فمن الناحية السياسية يحظى الرئيس الفلسطيني الجديد محمود عباس وادارته بدعم سياسي واسع من غالبية الدول ذات التأثير الدولي والاقليمي، ومن الناحية المالية لم يعد بمقدور القدومي او اي زعيم فلسطيني آخر الحصول على دعم مالي من اية جهة اخرى الا في حالات محدودة كدعم من دولة ما لمنظمات ومجموعات صغيرة.