أخيراً وضعت الاغتيالات في لبنان تحت المجهر الدولي وكلف مجلس الأمن الأمين العام للأمم المتحدة درس تفاصيل ما يتطلبه توسيع مهمات"اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في العمل الارهابي"الذي أودى بحياة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري ليشمل الاعمال الارهابية الأخرى، وآخرها تلك التي قضت على حياة الصحافي والنائب جبران تويني. فإعطاء المجلس اللجنة الدولية المستقلة صلاحية مد العون التقني الى الحكومة اللبنانية، فيما يقوم كوفي انان بإعداد تقريره عن المطالب، هو ربط فائق الأهمية في التحقيق في اغتيال الحريري والتحقيق في الاغتيالات الاخرى ومحاولات الاغتيال. رأي البعض ان الذين يعدون لاغتيالات آتية سيتأنون قبل التهور في المزيد من هذه الجرائم التي ستأتي وتنذرهم بعواقب وخيمة منها السجن وأكثر، لأن هذه أعمال ارهابية. رأي البعض الآخر ان توسيع رقعة التحقيق الدولي سيجعل رعاة الأعمال الارهابية أكثر انتحاراً فيصعدون الاغتيالات كماً ونوعاً لتطال المحققين الدوليين وموظفي الأممالمتحدة ايضاً وليس فقط الصحافيين ورموز المعارضة اللبنانية للدور السوري في لبنان. في نهاية المطاف، حتى ولو وقع الاختيار على المزيد من التصعيد النوعي والكمي لضرب استقرار لبنان ولسد أفواه الانتقاد والاحتجاج، ان لم تنتعش عدوى اللاستقرار في البيئة المجاورة للبنان، فإن الرقابة الدولية والتحقيق الدولي في الاغتيالات الارهابية سيؤديان الى انقاذ الأرواح. رئيس الحكومة اللبنانية السيد فؤاد السنيورة اثبت الرؤية والجرأة والشجاعة عندما طلب من مجلس الأمن توسيع رقعة التحقيق ودعم اجراء محاكمات ذات طابع دولي للذين يدانون. مجلس الأمن تجاوب معه ودعم طلبه ليس فقط لأنه أراد إبراز احترامه للسنيورة وتأكيد الدعم له واصلاحاته البناءة. فلقد كان المجلس تلقى تقرير رئيس اللجنة الدولية المستقلة مطلع الاسبوع الذي جاءت فيه اشارة الى احتمال ترابط اغتيال الحريري مع الاغتيالات التي تبعته. ثم ان النقابات المهنية ايضاً لعبت دوراً مع مجلس الأمن فقامت، مثلاً،"لجنة الدفاع عن الصحافيين"بعد محاولة اغتيال الزميلة مي شدياق واغتيال الزميل سمير قصير بإرسال رسائل الى جميع أعضاء مجلس الأمن والى الأمين العام داعية الى توسيع رقعة التحقيق لتشمل الصحافيين. كما تحرك أفراد من الصحافيين في الأممالمتحدة مع السفراء المعتمدين هناك في حملة لإظهار المسؤولية الدولية للتحقيق في اغتيال صحافيين هم ضحية القرارات 1559 و1595 و1636 الدولية. لذلك، فإن القول بأن توسيع ولاية التحقيق كان مدبراً اميركياً، أو ان السنيورة بعث رسالته الى المجلس بتدبير مسبق، كلام فارغ تماماً. فلا مؤامرة في هذا، إنها محاولة إنقاذ أرواح. فإذا احتج لبناني عاقل على محاولة انقاذ أرواح لبنانية - حتى وان اختلف معها سياسياً - فإنه يعرض نفسه للتهمة بالازدراء بحياة أبناء بلده، فهناك ما يكفي من متطرفين يعميهم التعصب عن التفكير ويجعلهم يباركون الاغتيالات باعتبارها دروساً في محلها ووسائل تخويف ناجحة. ما يحتاجه البلد ليس المزيد من الصراخ والحقد والانتقام والتشكيك والاستعداد لخدمات على حسابه. ما يحتاجه هو الرغبة المفقودة بالاحتفاء معاً عند الحاجة، وبالحزن معاً عند الضرورة. الاحتفاء بخلاص لبنان من تحكم اجهزة أمنية لبنانية وسورية بمواطنيه وموارده ومستقبله. الاحتفاء بخيبة أمل اولئك الذين توقعوا للبنانيين ان ينحروا بعضهم بعضاً فور خروج القوات السورية من لبنان. والحزن المشترك ضروري ايضاً. فالحسرة على شباب سمير قصير وجبران تويني. العون لبناتهما وزوجتيهما واهلهما. فأي انسان كان - إذا كان طبيعياً لم يسمح للحقد والكراهية بأن يكونا أسياده لا بد تأثر بمشاهد الألم العميق والوجع العارم مهما اختلف سياسياً مع الضحيتين. فاللبنانيون الآن في امتحان من أنواع عدة وعلى أصعدة عدة. ما يختارونه اليوم سيحكمهم غداً وستحكم عليه الاجيال الآتية. فلقد حان الموعد مع القرارات الحاسمة التي سيحاسب عليها كل فرد لبناني، إذ أن أمامه فرصة تقرير المصير بكل معنى الكلمة. أمام المواطن السوري، لربما، فرصة مشابهة انما ليست بالضرورة مماثلة. أمامه اتخاذ القرار الوطني والسيادي، لكن عليه أيضاً عبء الضمير. فاذا كانت الأجهزة الأمنية السورية بريئة من الاغتيالات في لبنان، فمن حق المواطن السوري ان يحتفي بالبراءة وأن يتباهى بها ليضرب بعرض الحائط كل محاولة للتشهير بهذه الأجهزة وقياداتها. أما اذا كانت هذه القيادات تورطت حقاً في هذه الأعمال الارهابية والجرائم الشنيعة، فإن الضمير الحي سينادي المواطن السوري الى اليقظة. وستكون يقظة ضرورية. اذ ان الشعب السوري لا يستحق بدوره أن تتحكم به أجهزة أمنية بائسة كالأجهزة اللبنانية التي تحكمت باللبنانيين. فالشعبان لا يستحقان دفع ثمن البطر والسلطوية والفساد، انهما يستحقان التعرف الى حقيقة ما حدث. ولهذا فإن التحقيق الدولي مفيد لهما معاً أقله كي يتخذ الشعبان قراراتهما بضمير حي لتقرير المصير. وهذا يأتي بنا الى كيفية نظر اللبنانيين والسوريين وأعضاء مجلس الأمن والأسرة العربية والدولية الى التعاون السوري مع التحقيق في اغتيال الحريري. فالأمر يعتمد على منطلق من ينظر الى الكوب: أهو نصف فارغ أم أنه نصف ممتلئ؟ بعد تقديم اللجنة الدولية المستقلة تقرير ميليس الأخير الى مجلس الأمن قبل مغادرته المنصب انقسم أعضاء المجلس بين من قال ان سورية لم تلب مطالب القرار 1636 لأنها لم تنفذ كاملاً مطالب اللجنة الدولية بل تأخرت وماطلت قبل ان تبدأ التعاون وتوافق على ايفاد خمسة مسؤولين سوريين للاستجواب في فيينا قبل اسبوع من التقرير. بالمقابل، هناك من قال - وبينهم الأمين العام كوفي انان - ان سورية بدأت التعاون، في اشارة الى اجتماعات فيينا، اذ انها أوفدت خمسة مسؤولين حتى وان جادلت وفاوضت وتأخرت ولم تبعث الرجل السادس الذي طلب ميليس من سورية ان تسمح للجنة التحقيق باستجوابه بصفته مشتبهاً به. السفير الروسي قال لأعضاء مجلس الأمن ان المهم ليس الماضي وانما أين هي الأمور الآن مقدماً مثل رجل كان يخون زوجته ثم توقف عن الخيانة وبات مخلصاً ينفذ متطلبات الزيجة المحترمة، متسائلاً ان كان من الضروري محاكمته على الماضي أو ان كان من الأفضل تأكيد على صحة قراره اليوم. روسيا، حسب ديبلوماسي روسي مخضرم، تعتقد الآن ان المرحلة المقبلة هي مرحلة الامتحان الحقيقي لسورية. فاذا تلكأت دمشق، ضعفت حجج روسيا لحمايتها من العقاب. أما اذا لبت المطالب فستتمكن موسكو من مد خشبة الخلاص اليها. ديتليف ميليس قال لأعضاء مجلس الأمن في جلسة مغلقة انه يعتزم مطالبة دمشق بأن توفر للتحقيق اجراء مقابلة مع"المشتبه به"صهر الرئيس السوري ورئيس الاستخبارات السورية آصف شوكت والذي ورد اسمه أساساً في قائمة الذين طلب استجوابهم وتم الاتفاق على استجواب خمسة منهم في فيينا كدفعة أولى. آصف شوكت هو محطة الامتحان الآتي قريباً اذ ان في رأي أعضاء مجلس الأمن لا سبيل ولا خيار أمام الحكومة السورية سوى تلبية الطلب، بسرعة وبلا تأخير. المحطة الأخرى في الامتحان هي اعتزام ميليس طلب اعتقال مسؤولين سوريين من السلطات السورية. هوية هؤلاء مجهولة حتى الآن علماً أن ميليس أوضح ان لا تلقائية بين الاشتباه والاعتقال ولمح الى انه لن يطلب اعتقال من لم تتسن له فرصة استجوابه. انما حسب المؤشرات الواردة في التقرير وعلى هامشه، ان"حرق"الوثائق المتعلقة بالتحقيق في اغتيال الحريري والتي كانت في أيادي الاستخبارات السورية في لبنان هو عرقلة للتحقيق. وميليس يعتبر أن عرقلة التحقيق تهمة جدية. حسب مصادر مجلس الأمن، قال ميليس لأعضائه انه على استعداد ان يودع لدى المجلس قائمة بأسماء"المشتبه بهم"من سوريين ولبنانيين يمكن للمجلس نفسه فرض العقوبات عليهم اذا شاء. وحسب مصادر أخرى، فإنه على وشك التقدم بطلب استجواب صهر الرئيس السوري وبطلب اعتقال مسؤولين أمنيين سوريين لوضعهم وراء القضبان الى حين المحاكمة شأنهم شأن قيادات الأجهزة الاستخبارية والأمنية اللبنانية. فميليس ودّع مجلس الأمن من ناحية الاحاطة والتقرير انما في حوزته اجراءات ومطالب تضع الحكومة السورية في موقع يتطلب منها القرارات الحاسمة فوراً. وإلا فإن السنة المقبلة آتية ليس فقط برئيس جديد"للجنة الدولية المستقلة للتحقيق في العمل الارهابي"وانما بقرار قطع الطريق على شراء الوقت للتملص، وهو قرار روسي بمقدار ما هو اميركي أو فرنسي.