قبل أسابيع، من توزيع رواية ميشال ويلبيك الأخيرة"احتمال جزيرة"، وضعت دار فايار للنشر بالاتفاق مع الكاتب قائمة بأسماء الكتاب والصحافيين والنقاد الذين منحت لهم حق السبق في قراءة الرواية والتعليق عليها، بصفتهم قاعدة التأييد ورأس الحربة في المواجهة المعلنة مع فصيل الإعلام المناهض. وهذا ما حصل فعلاً. فقبل صدور الرواية رسمياً، تلاحق الإطناب والمديح، بعد أن مهدت أسبوعية"ليزانروكيبتيبل"، في مقابلة مع الكاتب في إحدى القرى المعزولة في الجنوب الإسباني، فيما طلع الروائي النافذ فيليب سوليرز بپ"فتوى"مفادها أن لجنة الغونكور مجبرة هذه المرة على منح ويلبيك الجائزة، وإلا فهي سترتكب خطأ لا يغتفر! ومتكئاً على هذا الحكم، خرج الروائي والأكاديمي فرانسوا نوريسييه عن عرف المؤسسة ليعلن في مقاله الأسبوعي في"الفيغارو ماغازين"بأنه سيصوت لمصلحة ويلبيك يوم مداولات الأكاديمية. الكاتب الإسباني أرابال أصدر مؤلفاً نصّب فيه ويلبيك على رأس قائمة أهم الكتاب الفرنسيين اليوم والذين تربطهم به قرابة الفكر والروح. وفيما شاعت التخمينات وتسرب بعض الشذرات من الرواية إلى الصحف والأسبوعيات، وانتظمت جوقة المدائح، علت أصوات مناهضة ومنددة بپ"سفسطة"الكتاب وبعنصريته ومرضه النرجسي. وفي هذا الصدد صدرت ردود فعل في الصحافة مثل المقال الصادر للروائي أنجيلو رينالدي في"الفيغارو الأدبي"والذي أشار فيه إلى أنه عثر على مخطوط الرواية على كرسي شاغر في إحدى حدائق المقاطعة الثالثة في باريس، وكان القارئ الذي ترك المخطوط قد خربش على صفحة بيضاء هذا التعليق"ما هذا البعر؟". ولما قرأ رينالدي الرواية فوجئ بالمستوى الفج والسخيف والمفتعل للرواية، وخلص إلى أنها ليست فعلاً سوى بعر من علم الخيال. ومن النصوص القادحة:"النجدة، ويلبيك آت من جديد"للناقد إيريك نولو. في هذا النص يشير الناقد إلى أن ويلبيك لا يعدو كونه نسخة من جيرار دو فيلييه صاحب روايات التجسس، والمعروف بعنصريته وحقده على المسلمين..."السيرة الذاتية المحظورة"، من توقيع دونيه دومبيون، الصحافي في أسبوعية"لوبوان"، والكتاب تحقيق في سيرة أدخل عليها ويلبك الكثير من المحسنات بل الكثير من المساحيق. ولما سأل دومبيون معارف ويلبيك وأصدقاءه، وقف عند أكاذيبه: سنة الميلاد، اسمه المستعار اسمه الحقيقي هو ميشال توماس، تصريحاته عن وفاة والدته وهي لا تزال على قيد الحياة، إذ صرحت هذه الأخيرة بأن ابنها يشاطر اليمين المتطرف أفكاره ومعتقداته. من جهة أخرى، احتدم السجال حول المبلغ الذي تقاضاه ويلبيك، مقابل توقيعه وهو يبلغ مليوناً ونصف مليون يورو، مع الناشر فايار الذي يعتبر إضافة الى كونه ناشراً، أحد مصدري السلاح ممثلاً في شركة ماترا. إلى هذا المبلغ يضاف مبلغ مليون وثلاثمئة ألف يورو لتغطية مصاريف إخراج الفيلم المستوحى من الرواية والذي يشرف على إخراجه ميشال ويلبيك نفسه! هذه الأساليب ناجحة ويجري العمل بها في مجال كرة القدم وكرة السلة، فلم لا تنجح في مجال الأدب والكتابة؟ طرحت إذا رواية"احتمال جزيرة"في سحب أول بلغ خمسمئة ألف نسخة، وبلغ معدل المبيعات يومياً 150 نسخة وهو رقم قياسي لم تبلغه رواية"شيفرة دا فانتشي". وحتى كتابة هذه السطور، بيع من الرواية مئتان وعشرون ألف نسخة. ومثل الكثيرين من الصحافيين المعتمدين لدى دور النشر، الذين تصلهم المخطوطات قبل أن توزع في السوق، لم تصلني الرواية. وعليه قررت عدم شرائها 22 يورو، بحجة أن ويلبيك لا يستحق ولو سنتيماً واحداً. استعرتها إذاً من صديقة، علماً بأن النساء وهن كثيرات. تربطهن مع ويلبيك علاقة معقدة ومبهمة، هي خليط من الكراهية والغواية."غالباً ما تفتقد النساء حس السخرية، لأنهن ينظرن إليها كإحدى صفات الفحولة..."يقول أحد أبطال الرواية. تأخذ القارئات عليه عنصريته ولكن يعترفن بإبداعيته! وعليه أرجأت النقاش مع هذه الصديقة حول الرواية إلى أن أخلص من قراءتها. في"احتمال جزيرة"، يلعب ويلبيك على أكثر من سجل لبناء عالم يتماهى فيه الواقعي بالافتراضي، الأصل والنسخة، الحق والباطل، يصبح فيه الماضي مستقبلًا، والحاضر ماضياً:"يبدأ الإنسان حياته وهو ابن خمسين ربيعا، لكن في الأربعين يكون كل شيء قد انتهى"يقول دانيال رقم واحد وهو البطل - الأصل للرواية. هكذا يحاول تحويل المستحيل عبر مسلسل الاستنساخ شيئاً ممكناً، تجسده الجزيرة كمثل أعلى هو من إنجاز صفوة طائفية سرمدية لا تعرف الفناء. نقرأ في مستهل الرواية:"مرحباً بكم أعزائي في حياة الخلود... ولكن من منكم يستحق هذه الحياة؟". نهل ويلبيك من الفلسفة الرائجة للداعية رائيل. وكان هذا الأخير صحافياً قبل أن يتحول داعية يناضل من أجل الاستنساخ بهدف خلق إنسان كامل - سرمدي. استنسخ ويلبيك تيمات السرد وتقنياته التي صنعت شهرة أفلام أميركية مثل فيلم"ماتريكس"، وبخاصة"تيرميناتور". في الحلقة الأولى والثانية، وبالخصوص الثانية، من الفيلم الأخير، ينزل من السماء كائنان من فولاذ: الأول لينقذ الطفل - البطل الذي يقف عليه خلاص البشرية، فيما يسعى الثاني الى قتله حتى تحكم الآلات سيادتها على العالم. في الرواية تتداخل الأزمنة وتلغى الاستمرارية: الماضي ينتظرنا مستقبلاً، المستقبل الذي فات والحاضر الذي ما فتئ يمر وينفرط... أبطال مستنسخون يسرد دانيال رقم واحد قبل وفاته سيرته أو حياته. إنه البطل الأصل، بملامح عربية، "لا أعرف من أين ورثت ملامحي العربية... وماذا لو كان والدي عربياً في اسم مصطفى، بل، وهذه فرضية أخرى، يهودياً؟"يسأل دانيال. هذه الحياة تلخصها محطات باهتة: أرقام بهلوانية، أولا في أندية سياحية في تركيا، حيث كان يهرج كل مساء في اسكيتشات تضحك سائحين ألماناً أغبياء. بعد حصوله على الباكالوريا، تابع دروساً للممثلين، ليصبح فكاهياً محترفاً لا تفلت من أرقامه لا العائلة، ولا صحافيو جريدة"لوموند"ولا تفاهة الطبقات الوسطى ولا الفلسطينيون... يتزوج دانيال رقم واحد، مرتين ويقول:"يستحيل علي اليوم أن أتذكر لماذا تزوجت من امرأتي الأولى... لو صادفتها في الشارع، لتعذرت علي معرفتها... هجرتها وهي حامل...". ينجب ابناً يحقد عليه من صميم القلب، فينتهي هذا الأخير شانقاً نفسه. يتمكن من دانيال رقم واحد بؤس جنسي قاتل إلى جانب زوجته. دانيال رقم واحد شبيه ويلبيك، في الوقاحة والتشاؤم والغطرسة ذاتها. وطوال صفحات، تصف لنا الرواية العالم كحديقة حيوانات مريضة بما أنتجه البشر من ملذات مصطنعة عابرة، كالجنس والمال وهي عناصر ساهمت في وقوع الواقعة بعدما مهدت لها. والأفراد قبل أن يستنسخوا، يخضعون لتعاليم قاعدة تقوم على أن يترك كل واحد قبل وفاته، انتحاراً، سيرته الذاتية وخلية من خلاياه الجينية. أربعة قرون في ما بعد، بعد وقوع الواقعة، يقرأ دانيال رقم 24، ثم في ما بعد دانيال 25 سيرة سلفهم دانيال رقم واحد. تقضي الكائنات المستنسخة معظم وقتها في قراءة حياة الأسلاف، فيما تتيه في أدغال نيويورك ومدريد كائنات بربرية. البؤس الجنسي، الخوف من الشيخوخة، العزلة والتشاؤم من حاضر الإنسانية ومستقبلها، فضح أكذوبة الحداثة الديموقراطية، الثقة في العلم ومنجزاته حتى المحرم منها، القدح في الديانات الإسلام ثم المسيحية الآن...إنها بعض التيمات التي تغذي مناخات الرواية. مطمح ويلبيك هو أن يعترف به صنواً للكاتب لوي فيردينان سيلين. لكن هذا الأخير أبدع نتاجاً روائياً في انخراطه وتورطه جسدياً ونفسياً في براثن الحروب والانهيارات التي عصفت بالغرب، وليس عبر الاعتزال والخلوة في غرف الفنادق كما هي حال ويلبيك، الذي يعرف اليوم مجداً مصطنعاً وعابراً، لأن قوامه الماركيتينغ والسهولة، الحقد والعنصرية.