هل إن رواية "منصة" أو "بلاتفورم" كما في عنوانها الفرنسي، هي حقاً من أفضل روايات هذا العام في فرنسا؟ قد تكون مجلة "لير" الأدبية الشهيرة بالغت بعض المبالغة في جعل رواية ميشال هوليبيك المثيرة في صدارة الكتب العشرين التي اختارتها كأفضل كتب صدرت في فرنسا خلال العام 2001. فالضجة الكبيرة التي أثارتها هذه الرواية "الفضائحية" والأرقام الهائلة التي حصدتها مبيعاً لا تكفي لجعلها تحتل المرتبة الأولى في حقل الروايات الفرنسية. على ان هذه الرواية التي حُرِمت من جائزة "غونكور" الفرنسية أصرّ ناشرها وبعض النقاد على منحها ما يشبه الجائزة الوهمية عبر اختيارها كأفضل رواية أيضاً. إلا أن الرواية التي لم تُقرأ عربياً كرواية كما يجب حين صدورها في الخريف الماضي، تستحق العودة لا الى قضيتها وإنما الى مادتها أو الى الموضوعات التي عالجتها والى الكراهية الشديدة والعمياء التي يكنّها بطلها يُدعى أيضاً ميشال حيال العالم الاسلامي. وهي الكراهية التي جعلته يعبّر من غير هوادة عن الفرح الذي يخامره كلما علم أن طفلاً فلسطينياً أو امرأة فلسطينية حبلى قتلا في غزة. فهذا يعني في حسابه أن مسلماً ينقص في عدد المسلمين في العالم. ولعل المؤسسات الاسلامية في باريسوفرنسا كانت حكيمة جداً في مواجهتها هذه الرواية التي تعادي الاسلام أو المسلمين جهاراً وتشهّر بالعرب تشهيراً عنصرياً وشبه "نازي". والحكمة تكمن في رفعها القضية الى القضاء الفرنسي قاطعة أي سبيل أمام صاحب الرواية لأن يصبح سلمان رشدي آخر فيحصد من الشهرة ما يحلم به. لا أعتقد أن "بطلاً" ولو كان من نسج الخيال يمكنه أن يفرح لمقتل الأطفال أياً كانت هويتهم ما لم يكن مريضاً نفسياً أو ذا نزعة عنصرية وشوفينية مستفحلة. وحاول ميشال هوليبيك أن يبرّئ نفسه من سمات بطله ساعياً الى الفصل بينه ككاتب وبين بطله كشخصية معتبراً أن الشخصيات التي يختلقها الكاتب لا تعبّر دوماً عن آراء الكاتب نفسه بل عن آرائها الخاصة كشخصيات مزروعة في واقع ما. إلا أن بعض حواراته الصحافية لم تخف حقده المجاني على الإسلام. وبدا ذلك الحقد يخفي بدوره جهلاً فاضحاً بالأديان الأخرى وفي مقدمها الدين المسيحي الذي ينتمي اليه الكاتب مبدئياً. ويصعب فعلاً تصوّر رجل مؤمن ومسيحي تحديداً يجهل أن الاسلام هو من الأديان التوحيدية وأن المسيحية تقول على غرار الاسلام واليهودية بالإله الواحد. فها هي إحدى الشخصيات في الرواية تقترف خطأ جسيماً في اعتبارها أن الكاثوليكية ابتعدت عن المبدأ التوحيدي عبر عقيدة التثليث وعبادة العذراء والقديسين و"الاختراع الرائع للملائكة..." كما ورد في الرواية. ولعل ذروة الكراهية تتمثل في اختيار الكاتب شخصية مصرية قبطية على الأرجح ليعلن على لسانها عداءه للاسلام. والشخصية هذه عبارة عن عالم كيمياء مصري هاجر الى انكلترا وما زال يحن الى موطنه الأول ولكن على طريقة الكاتب الفرنسي وليس على طريقة المواطنين المصريين، مسلمين كانوا أم أقباطاً. وقد فات الفرنسي ميشال هوليبيك أن المصريين ينتمون الى مصر أولاً ثم الى أديانهم وطوائفهم. وفاته كذلك أن الصحراء التي يهجوها هي موطن الأنبياء جميعاً وأن المسيح بدوره صام في الصحراء، تلك التي يصفها وصفاً غبياً بالبقعة المملوءة ب"العقارب والجمال والحيوانات المفترسة". وفات الكاتب الفرنسي "العنصري" أيضاً أن آباء الكنيسة الذين كتبوا الصفحات الرئيسة من تاريخ المسيحية يسمّون "آباء الصحراء"... هذه بضعة من معالم هذه الرواية التي أصرّ الكاتب الطليعي الفرنسي فيليب سولرز على وصفها بالحدث قائلاً: "إنها ليست كتاب السنة بل أفضل ما كتب هوليبيك على الاطلاق". أما الجو العدائي حيال المسلمين والعرب فيتبدى منذ الصفحات الأولى حين يختار الروائي على لسان الراوي قاتل أبيه من المهاجرين الجزائريين، جاعلاً من الفتاة "عائشة" أشبه بالمومس الصغيرة. أما الأب فلا يتوانى عن وسمه بالنزعة الاميركية، إذ كان يرتدي حين مقتله قميصاً كتب عليها بالانكليزية: "أحب نيويورك". قد لا تحتاج الرواية الى قراءة نقدية كعمل روائي فهي لا تخلو من الثرثرة والاطالة والمجانبة وتقع في أحيان كثيرة في الركاكة والضعف. لكن موضوعاتها لا تخلو من الاثارة و"التشويق" وخصوصاً قضية "السياحة الجنسية" التي يعالجها الكاتب فاضحاً عبرها المجتمع البورجوازي الغربي القائم على العنصرية إزاء الشعوب الأخرى ولا سيما الشعوب الآسيوية. فالرواية هي في اختصار رواية السياحة الجنسية الى تايلاندا حيث يتمكن الراوي وعشيقته لا حبيبته فاليري والشركة السياحية من تطوير مفهوم السياحة الجنسية عبر بناء قرى للسياحة والدعارة... إلا أن السياحة الجنسية لن تقتصر على الغربيين والعرب وسواهم بل ستشمل الراوي نفسه الذي يبدو خلال الرواية أشبه بالسائح الجنسي الذي لا يني يكتشف لذّته في جسد عشيقته أو رفيقته أو زميلته... ويبدو الجنس في الرواية مصطنعاً تمام الاصطناع، حيوانياً وخلواً من الرغبة والدفء والبعد الانساني والوجداني... غير أن الحلم الذي يحققه الراوي والعشيقة والشركة والذي يجني لهم جميعاً أرباحاً كبيرة سينتهي بما يشبه الكارثة أو المأساة. ولعلها النهاية التراجيدية التي شاءها الروائي ليعلن المزيد من عدائه أو كراهيته للاسلام. فالقرية السياحية ستشهد عملاً انتحارياً ينفذه "الاسلاميون" كما يعبّر الراوي وتبلغ ضحاياه المئة وضمنها العشيقة فاليري... وسرعان ما يستغل الراوي الحادثة ليجاهر ان "الاسلام دمّر حياته" من غير أن يدرك ان الاسلام يختلف كل الاختلاف عن "الظلامية" التي يختفي وراءها اشخاص هم بعيدون كل البعد من الاسلام. انها مناسبة اخرى للتشهير في المسلمين ووصمهم زوراً وبهتاناً بالارهاب والعنف. ولعل حادثة نيويورك وحرب أفغانستان اللتين استطاعتا ان تفضحا ضلال جماعة طالبان و"القاعدة" وبن لادن استطاعتا أيضاً أن تدحضا مثل تلك المزاعم التي يسوقها الروائي الفرنسي على لسان راويه المريض نفسياً والمنفصم والحقود والعنصري... وإن كان بطل الرواية الموظف في وزارة الثقافة الفرنسية - يا للمصادفة يعلن حقده على المسلمين والاسلام فهو لن يوفر الغرب بدوره، هذا الغرب البورجوازي الغارق في مفهوم الاستهلاك والذي لا يعير "الآخر" اهتماماً إلا انطلاقاً من مصالحه الذاتية. هذا الغرب الذي ما زال بعض زعمائه يؤمنون بالعنصرية ويحنون الى الاستعمار ويحتقرون الشعوب الضعيفة حتى الشعب الصيني... "أنا عنصري... أصبحت عنصرياً" يقول أحد أشخاص الرواية. أما العشيقة فاليري فلا تتردد في القول: "بات الغرب عالماً لا يطيب العيش فيه...". ربما كانت رواية "منصة" بلاتفورم سبّاقة في رسمها صورة للعنف الذي سيستشري في مطلع الألف الثالث: العنف مشوباً بالتحريف الديني وثقافة العولمة المزيفة والسياحة الجنسية التي تجعل من فتيات تايلاندا مجرد أرقام... والخوف من ازدياد العنف في السنوات المقبلة يبدو أشبه بالهاجس الذي يقض مضاجع بعض الشخصيات: "أتوقع في السنوات المقبلة مزيداً من أعمال العنف العرقية في أوروبا..." تقول إحدى الشخصيات. لكن توقّع الرواية صعود ظاهرة العنف ليس كافياً لاختيارها أفضل رواية فرنسية في هذا العام. ترى هل يمكن تجاهل العنف الذي رسخته اسرائيل في فلسطين والذي شهد ذروته مع صعود نجم هذا السفاح الجديد الذي يُدعى شارون؟ لعل الذين تحمسوا للرواية حين صدورها في الخريف الماضي خفّت حماستهم لها بعد حادثة نيويورك وفضح زيف الارهاب الديني وسقوط الأقنعة. أما محاولات احياء "مجد" هذه الرواية العنصرية فهي ليست إلا مجرد محاولات لإحياء رواية كان يمكنها حقاً أن تكون حدثاً لو أنها تخلت عن حقدها الأعمى وعنصريتها المضطرمة وكراهيتها وزورها وبهتانها! ليت ميشال هوليبيك الذي كاد أن يصبح ظاهرة في فرنسا والعالم ترجمت أعماله الى لغات كثيرة قرأ التاريخ الحضاري وتاريخ الأديان التوحيدية واطلع على الحضارة الاسلامية قبل أن يشرع في "ارتكاب" هذه الهفوة الكبيرة، بل هذا الاثم، في حقّ حضارة بكاملها!