ثمة محظوظون في هذا العالم، خصوصاً عندما يكون الواحد منهم كاتباً وروائياً يزعم لنفسه بعض الهامشية، كما هي حال الروائي الفرنسي ميشال ويلبيك. فهذا الأخير يستطيع، اذا شاء ذلك بالطبع، ان يتباهى بسلسلة من الانتصارات التي حققها خلال عام واحد وبضعة اسابيع فقط. وهذه الانتصارات انما هي حصيلة تسويات تندرج في سياقات مختلفة، لكنها انتهت كلها تقريباً لصالحه. والقرار الذي اتخذته محكمة الجنح في باريس بتبرئة الكاتب من تهمة التجديف والحض على التمييز العنصري حيال المسلمين قد لا يكون أهم انتصارات الكاتب الهزيل القامة والمتلعثم بارتباك حيناً، فيما نراه مشاكساً واستفزازياً وذا طلاقة جذرية في أحيان اخرى. قرار التبرئة صدر عشية كتابة هذه السطور، تحديداً يوم الثلثاء الماضي، وبات معلوماً ان الجمعيات المختلطة الاسلامية المناهضة للتمييز العنصري في فرنسا، والتي تقدمت بالدعوى ضد ويلبيك اثر تصريحاته في مطلع ايلول سبتمبر الماضي الى مجلة "لير" الفرنسية، ستطلب استئناف الحكم. الانتصار الأول لويلبيك حصل عندما أبرزت صحيفة "لوموند" الواسعة الانتشار على صفحتها الأولى وكموضوع رئيسي في أواخر آب اغسطس الماضي، رواية ويلبيك الحاملة عنواناً فرنسياً هو "بارت فورم" الذي يمكن تعريبه بكلمة "الركيزة" أو "القاعدة" باعتبارها عملاً يطرح قضية السياحة الجنسية في جنوب شرق آسيا، خصوصاً في تايلندا. هذه التغطية الاعلامية الدعائية مشفوعة بالجدل الذي أثارته تصريحات ويلبيك الى مجلة "لير" وتحامل فيها على الاسلام وكتابه، وعلى الفلسطينيين ايضاً، جعل مبيعات الرواية تتجاوز الأربعمئة ألف نسخة، بل حتى انه كاد يحصل على جائزة "غونكور" الأدبية الذائعة الصيت في فرنسا، لولا خشية اللجنة التحكيمية من استفزاز مشاعر المسلمين. قراء ويلبيك في فرنسا يعلمون بأن معظم المشاكسات الأدبية والكلامية لصاحبهم، ربما في ذلك كراهيته للاسلام، هي من قبيل النكايات الموجهة، خصوصاً ضد أمه الفرنسية التي اعتنقت الاسلام بعدما عاشت حياة حافلة بالمغامرات وأهملته وهو صغير تاركة لجدته مهمة تربيته والاعتناء به، غير ان الرجل الحامل لجروح روايته العائلية نال صيداً وفيراً لم يكن يحسبه ربما. فهو يستطيع ان ينسب لنفسه انتصاراً رمزياً يفوق الانتصارات المادية والقانونية. وهذا الانتصار الرمزي يعود الى ما يحسبه حدساً رؤيوياً وملكة استشراف وتنبؤ بالحوادث. ليس مستبعداً ان يكون ويلبيك فرك يديه فرحاً، ليس فحسب بسبب صدور روايته المتضمنة مقاطع لا بأس بها ضد الاسلام والمسلمين، وضد المدنيين الفلسطينيين بما في ذلك المرأة الحامل التي يبتهج لقتلها المزدوج بطل رواية "الركيزة"، وذلك قبل أيام معدودة من حوادث 11 ايلول. آنذاك، أي قبل عام، كان في مقدور الروائي ان يصرح: "ألم أقل لكم ان الاسلام خطير ومتوحش". يستطيع ويلبيك نفسه ان يفرك يديه مرة اخرى بعد مقتلة بالي في أندونيسيا وتعزيز الاجراءات الأمنية في العديد من بلدان جنوب شرق آسيا، خصوصاً امام علب الليل، وربما أمام علب النهار التي تدور في أروقتها أنشطة سياحات جنسية لا تخلو من الغموض والبذاءة والتوحش. يستطيع الكاتب ان يقول: "لقد تنبأت بهذه المقتلة من قبل في روايتي التي تتحدث عن مجزرة يرتكبها أصوليون اسلاميون ضد سياح غربيين جالسين عند شاطئ في تايلندا. في الرواية، تموت صاحبة البطل الذي يتحدث بصيغة المتكلم، والذي يستسلم لنوازع الثأر والتشفي من الأصوليين ومن الاسلام ومن الفلسطينيين. والحال ان بطل ويلبيك أو الراوي نفسه، لم يكن يحتاج الى في الحقيقة الى مجزرة للتصديق على نبوءته المتخيلة. فالحدود بين الواقع والخيال اصبحت ملتبسة ومتداخلة منذ زمن بعيد. وقد سبق لكاتب مثل توم كلانسي ان تخيل هجوماً شيطانياً بالطائرات على نيويورك قبل سنوات كثيرة من عمليات 11 ايلول ومن صعود الاسلام الجذري. والذي شاهدوا على شاشة التلفزة اصطدام الطائرتين ببرجي التجارة الدولية وانهيارهما، حسبوا هم أيضاً انهم يشاهدون فيلماً سينمائياً من أفلام الخيال وبراعتها التقنية، وهي أفلام تقنية أدمن كثيرون عليها ربما في ذلك منفذو التفجيرات. اذا كان ذلك كذلك، لماذا يفرك ويلبيك يديه؟ قد تكون محكمة الجنح الفرنسية غير راغبة في مقاضاة كاتب من شأن تنبؤاته ان تحظى بتأييد لن تبخل به التمثيلات الدعاوية والشعبوية في الغرب. غير ان ضحايا السياحة الجنسية التي يدافع عنها ويلبيك ويبررها ساخراً من المناهضين لها في الغرب، هؤلاء الضحايا يمكنهم ان يتقدموا بدعوى اذا شاؤوا ذلك للقول: لسنا مزبلة أشقياء وحثالات المثلومين في الغرب وغيره، ولسنا المسرح الجنسي المبتذل الذي يقدمه جنرالات في تايلندا وسواها لحملة الدولارات الراغبين بلذات قروسطية نهضت من سباتها ووجدت في فلتان السوق ما يسوّغ استفاقتها. حسن شامي