يهدف الشاعر والناقد كمال نشأت في كتابه الجديد "شعر الحداثة في مصر: الانتماءات، الانحرافات، الأزمة" إلى غرض واحد وحيد، هو إثبات ان شعراء الحداثة في مصر ويقصد شعراء السبعينات متأثرون بأدونيس تأثرا بالغا يجعلهم مجرد صور "مشوّهة" منه كأصل. وهو في سبيل هذا الغرض الجليل يركب كل مركب، ويستخدم كل وسيلة، مشروعة أو غير مشروعة. فنجده يملأ الكتاب بالجداول الإحصائية التي ترصد عدد المرات التي ترد فيها كلمات بعينها المرايا، الجسد، الماء، القميص، الحريق، الخريطة ... عند أدونيس ثم عند شعراء الحداثة المصرية، في استقصاء "بوليسي" نادر. وهكذا في معظم صفحات الكتاب التي تزيد على ثلاثمائة صفحة من القطع الكبير. وفي مناظرة لفظية بالغة الهزال والهزل، يمكن ان نوجز التعقيب عليها كما يلي: أ - الألفاظ في ذاتها كمفردات ليست ملكا خصوصيا لاحد، شاعرا كان أو غير شاعر، كما يعلم الناقد نشأت. ب - لا يحدث التأثر المنتقد أو التشابه المذموم إلا حينما يقلد شاعر العلاقات التي يقيمها شاعر آخر بين الألفاظ، وليس حينما يستخدم الألفاظ نفسها. المناط، إذن، في "العلاقة بين الألفاظ" لا في "الألفاظ" بذاتها. ولذلك، قال بعض علماء الجمال: "الجمالي: علاقة". ج - ليست مفردات الجسد أو الغبار أوالحريق أو الجمر اختراعا أدونيسيا. ولو أن قدرا من حسن النية كان متوفرا عند الناقد نشأت لاتجه - على الأقل - إلى توضيح تأثر شعراء مصر الحداثيين بتراثهم القديم، لأن كل المفردات التي زعم انها "ملك" أدونيس وأن الشعراء الجدد أخذوها عنه، متوافرة في تراثنا البعيد والقريب. د - لو استخدمنا الآلية نفسها على شعر كمال نشأت نفسه، ماذا ستكون النتيجة؟ في فصل عنوانه "الغموض" يقطع نشأت بأن شعراء الحداثة في مصر يغلبون التشكيل على الدلالة، بل يضحون عن عمد بالدلالة في سبيل التشكيل. أو يعتبرون أن مطلق التشكيل هو في ذاته دلالة مكتفية بذاتها. وأجد نفسي، هنا، مضطراً الى تكرار ما قلناه مرارا فالتكرار يعلم الشطار والى اعادة ما هو مثبت في مقالات وكتب لم يكلف نشأت نفسه عناء قراءتها، وهذه مصيبة. أما إذا كان قرأها ثم تجاهلها، فهذه مصيبة أعظم. لقد قلنا - ونقول - إن التشكيل ليس خلوا من دلالة،. فليس هناك شكل أوتشكيل لا يحمل مغزى أومعنى أوتصورا أو فلسفة. ولهذا قلنا - ونقول - إن المقصود اننا نغلب التشكيل على الدلالة، أو أننا نكتفي بما يدل عليه الشكل كبديل للمضمون، بل المقصود أن التشكيل جزء من الرؤية، وأن التشكيل هو الذي يعطي الدلالة صدقيتها. فالدلالة الجديدة لا يمكن ان تكون صادقة أو مقنعة إذا سيقت في تشكيل قديم. بوضوح: لسنامن اصحاب نظرية "صب الماء الجديدة في قوارير قديمة" لأننا نعتبرها نظرية فاشلة وانتهازية ومتناقضة، ولأنها تبعث على الشك في جدية "جدة" الماء، فالجديد بحق يختار قواريره الجديدة، ثم ان هذه النظرية تعتبر القوارير مجرد زجاج محايد لا يقوم بدور ولا يتدخل في طبيعة السائل. وقد يصح ذلك في أكواب الشاي أو الينسون، حيث يظل الكوب كوبا مهما كان المشروب، لكنه لا يصح أبداً في الفن والشعر. والغريب ان هذه الفكرة واردة في تفصيل وافٍ في مقال طويل منشور لي، لم يجهد نشأت عينيه بقراءته، بينما يبيح لنفسه أن يعرض تصوراتنا النظرية الشعرية كما تخيلها هو أوكما تناهت الى اسماعه عبر دردشات المقاهي والمصاطب، من دون ان يعود الي مرجع واحد من كتاباتنا النقدية، وهي كثيرة. ولو أن تلميذاً عند كمال نشأت فعل ذلك لطرده "الدكتور" من الفصل الدراسي "لسوء اخلاقه العلمية" !. وتصل "فوبيا" أدونيس عند نشأت الى ذروة مثيرة للعجب في فصل "التصوف" حينما لا يتورع عن ان يجزم بأن اتجاه الشعراء الحداثيين المصريين إلى النهل من المنابع الصوفية هو قرينة جديدة على تأثرهم بأدونيس! وبدلا من ان يرى الناقد - كما ينبغي لأي ناقد خال من الغرض - أن اتصال شعراء الحداثة بشعر الصوفية العربي القديم دليل على اصالتهم العربية، وعلى انحيازهم الى الجانب المتجدد في تراثهم لا الجانب المتجمد، فإن ناقدنا يرى أن ذلك الاتصال دليل على تبعية الشعراء الجدد لأدونيس. فإذا علمنا ان ادونيس هذا متهم من مثل تلك "الإنكشارية" النقدية بمعاداة التراث العربي واجهتنا المفارقة المضحكة ضحكا كالبكاء. لكن "الإنكشاريين" لا يلتفتون الى ما في مواقفهم من تناقض ذي طابع براغماتي، انطلاقا من أن "النقد خدعة" كالحرب. صحيح أن ادونيس واحد من اكبر كاشفي الكنز الصوفي العربي للأجيال الجديدة، وهذه احدى مآثره الكثيرة، لكن الصحيح كذلك انه ليس وحده من قام بهذه المهمة الكبيرة. ولعل نشأت يعرف أن كثيرا من المحققين العرب عملوا على اضاءة ذلك التراث الصوفي وعلى توفيره بين ايدي الاجيال المختلفة، وأن كثيرا من المستشرقين قد قاموا بالصنيع نفسه، قبل ادونيس وبعده، وان هذه الجهود متوافرة في المكتبات لمن يقرأ. ليس غريباً على نشأت ان يقلب الآية كلية، طالما انه - في كتابه - لا يجد حرجا في الذهاب الي ان روح الكتابات الصوفية والحكايات الاسطورية والتعازيم السحرية عند شعراء الحداثة - وعندي خصوصا - يثبت تقليد الاصول الغربية بالغين لا بالعين في شعر الحداثة المصري. وهنا نوجه عناية الناقد نشأت الى أن الكتابات الصوفية جزء اصيل من التراث العربي بالعين لا بالغين، وأن الحكايات الاسطورية والتعازيم السحرية نبع اساسي من ينابيع خيال القرية المصرية والعربية، وأن ذلك كله ليس وقفا على الاجانب ! وفي يقين لا تطرف له عين وقلّما يتوافر لعلماء الفيزياء انفسهم، يطلق نشأت حكمه القاطع بان حداثتنا الشعرية المصرية فاجأت الذوق الادبي، فلم تكن لها ارهاصات سابقة، وانها حركة طارئة مجلوبة لامقدمات لها في الحركة التي سبقتها وهي حركة شعر التفعلية الشعر الحر وانها كانت نتوءا برز بغته في درب الشعر المصري المعاصر، ولو أنها كانت بنت تطور صحي وسليم اثارت ما اثارت من استهجان ونكران! وأجد نفسي مضطراً - مرة ثانية - الى تقديم شرح تبسيطي سريع للناقد نشأت، في نقاط موجزة تيسر الاستيعاب قائلا: أولا: لقد لقيت حركة الشعر الحر الاستهجان والنكران اللذين يتهمانها بمجافاة التطور الصحي والسليم، وبانها مجلوبة من الغرب. ثانيا: حركة الشعر الحر التي يضع نشأت نفسه بين روادها هي بدء القوس الكبير للحداثة العربية المعاصرة كلها. ثالثا: شعر الحداثة الذي يقصده في كتابه هو الموجة الثانية من ذلك القوس الكبير. رابعا: شعر الموجة الحداثية الثانية هذا أو شعر السبعينات قدم انقلابات عدة على شعر حركة الرواد، لكنه في الوقت نفسه كان في جزء منه امتدادا للاجتراءات الكبرى في شعر الرواد وتطويرا لها الى آماد ابعد. خامسا: بتحديد اقول: أنزل الرواد الشعر من السماء الى الارض، وطور شعراء الحداثة ذلك فمشوا بالشعر في الطرقات الضيقة والأزقة والمقابر، وجسدوا به تفاصيل الحياة اليومية. استخدم الرواد بعض العامية في شعرهم الفصيح، فطور شعراء الحداثة هذا الخيط الى آخر مداه. هز الرواد العمود التقليدي واستبدلوه بوحدة التفعيلة لا وحدة البيت، وطور شعراء الحداثة هذه الهزة بصور عدة: وحدة التفعيلة، مزج تفعيلات متنوعة، اقتراح انساق موسيقية صوتية ولغوية وحروفية، هجر التفعيلة كلها الى قصيدة النثر. وقصيدة النثر نفسها خيط من خيوط عمل الرواد، أقدمين ومحدثين. ولو كان نشأت قرأ كتابي "هيا الى الأب" لأدرك دقة علاقات التواصل والانقطاع بين شعر الرواد وشعر الحداثة. سادسا: أبعد من كل ذلك، فان شعر الحداثة الموجة الثانية ليس امتدادا حتى لو كان بعض هذا الامتداد انقلابيا ونقضيا لرواد الشعر الحر فحسب، بل هو قبل ذلك امتداد لعمل مبدعين عرب اقدم. وندعو نشأت الى قراءة قول أبي حيان التوحيدي: "النثر اشرف جوهرا، والنظم اشرف عرضا"، أوقوله "ففي النثر ظل من النظم، ولولا ذلك لما خف ولا حلا ولا طاب ولا تحلا" أوقولته الكبيرة: "اذا كان للشعر وزن هو النظم، فان للنثر وزنا هو السياق". انتهى الشرح، وخلاصته: إن قليلا من الجهد قد يصلح النقد، وإن قليلا من الامانة قد يصلح النفس ! * شاعر مصري.