الفن الهندي"هو الجزء الأول من سلسلة فنون الشرق الأقصى: الهند، الصينواليابان، كما هو الجزء الثلاثون من موسوعة تاريخ الفن: العين تسمع والأذن ترى. يطل به الباحث والمؤرخ المصري د. ثروت عكاشة، في كتاب أنيق 435 صفحة من القطع الكبير صادر عن دار الشروق في القاهرة. يتناول فيه عقائد الهند الدينية كما يطوف بملاحمها الكبرى الخالدة، ليبحث عميقاً في فنون النحت والعمارة الهندية عبر عهود الأسرات الحاكمة، ثم ينتقل إلى فن التصوير الهندوكي ومدرسة التصوير المغولي، مع إطلالة على العمارة المغولية في الهند وبصفة خاصة مقام تاج محل، مختتماً هذه الدراسة بفنون الدارما والرقص والموسيقى والأدب الهندية. الموسوعة هي انجاز ضخم استغرق إعدادها أربع سنوات، تأتي كإضافة لإنجازات المؤلف في حقل دراسة الحضارات الانسانية المتعاقبة وفنونها على مر الأزمان. استهل عكاشة كتابه بالحديث عن نشأة الشعب الهندي ومراحل تطوره على مدى تاريخه مستعرضاً معتقداته الدينية وما صاغه من ملاحم وطقوس وأناشيد ترددها الألسن إلى اليوم، لما لذلك من أرتباط وثيق في الوقوف على اسرار الفن الهندي الذي استلهم موضوعاته منها مجتمعة. يقول عكاشة: إن الفن الهندي موضوع متشعب تصعب الاحاطة به كاملاً، بل يكاد يستحيل الإلمام بكل آثاره، فبلاد الهند على اتساعها موشّاة بل مرصعة بما لا يحصر من الآثار والأطلال. فكان لا بد من دراسة كل أثر بالكشف عن الزمن الذي وجد فيه. فالفوارق الجغرافية والاجتماعية تتضافر مع عنصر التتابع الزمني لتكوين سلسلة من الأساليب المتعاقبة التي عملت على إثراء هذا الفن. وعلى رغم تنوع العناصر، فثمة مفهوم ثابت للمثل الأعلى الروحاني، الذي يضفي على الايقونوغرافية الهندية - من خلال جذوره وجوهره -"الوحدة في التنوع"، من جبال الهملايا شمالاً إلى رأس كوموران جنوباً، ومن قندهار غرباً إلى آسيا شرقاً. وكان المثّالون والمصورون منذ العصر الكلاسيكي، يلتزمون بقواعد ايقونوغرافية تحدد بدقة شديدة كل وِضعة وكل تعبير بل حتى إيماءات أصابع الأيدي، كما لعبت الثياب وتصفيفات الشعر والحليّ والرموز دوراً واضحاً في تمثيل الشخوص الاسطورية والتاريخية والدينية. نشأ الفن الهندي أول ما نشأ متحرراً متنوعاً، ثم ما لبث أن أصبح فناً كهنوتياً بعد أن ظهرت كتب تضم قواعد وأصولاً تلزم الجميع باحتذائها، وتذهب العقيدة الهندوكية إلى ان جمال التحف الدينية يسهم في إضفاء القداسة عليها، فتجتذب زخارفها القوى الالهية نحوها. ويعتقد الهندوس أن كلمة"شيفه"تعني السعادة الأبدية والبشرى وحسن الطالع، وهو مرادف لإله الرقص الذي يتشكل في هيئات وصور متعددة، تأتي في مقدمها هيئة"نتراجه"التي تعود إلى حضارة وادي السند خلال الألفية الرابعة ق.م. ول"نتراجه"أذرع أربعة يواجه بها اتجاهات الكون الأربعة أثناء رقصه، وتمسك يمناه العليا بطبلة صغيرة على شكل ساعة زمنية هي مصدر لغات العالم، بينما تحمل يمناه السفلى شعلة النار المتقدة. وتعبّر القدم المرفوعة عن انعتاق البشر من متاع الغرور الدنيوي والرزيلة. وتعبّر منحوتات الثنائي المتعانقين"ميتهن"التي لا حصر لها في الفن الهندوكي، عن الجمع بين نقيضي الذكورة والانوثة، وعن طبيعة التناسل والاخصاب، كما تعد رموزاً ميمونة شأنها شأن النبات ومصادر المياه وكل ما يمثل الاخصاب. ويزخر الفن الهندي بالكثير من القصص المعبّرة عن عقيدتي الهندوكية والبوذية. وكان الفكر البوذي، قد غزا القلوب فانتشرت فنونه من عمارة ونحت وتصوير في أنحاء الهند، ثم انتقل شرقاً عبر طرق القوافل إلى الصين ومنها إلى اليابان. على أن الهند نفسها ما لبثت أن عادت شيئاً فشيئاً إلى الهندوكية التي تتسم بتعقيدات شتى، تزخر بآلهات الطبيعة والأرواح والجنيات الحارسة الأمينة لكنوز الأرض المخبوءة التي تخلو منها البوذية. وثمة مراحل ثلاث مر بها تصوير بوذا، إذ لم يكن في مبدأ الأمر مباحاً تصويره نحتاً في صورة البشر، فاجتزأ المثّالون الأوائل بالرمز إلى جلال بوذا فحسب، إلى أن انطلق النحاتون بعد وفاته بمئتي عام، يشكلون بوذا بأسلوب قريب من الأسلوب المتأغرق، مع سمات جسدية ينفرد بها وحده، فكانت له عين ثالثة تستقر بين حاجبيه هي عين الحكمة، كما يعلو رأسه نتوء المعرفة، وتتدلى من طرفي أذنيه زائدة. يستعرض المؤلف فنون النحت والعمارة الهندكية المركبة، بدءاً من"الستوبة"وهو مبنى جنائزي مزود بالمنحوتات الزخرفية ومن أهم عناصره القبة الدائرية، مروراً بأنواع المعابد الكهفية المحفورة في جوف الجبال الصخرية، وصولاً الى الطرز الزخرفية المعقدة للمعابد المشيدة في عهود الأسر والملوك من القرن الثامن إلى الثالث عشر. من أشهر هذه المعابد: معبد كالاسانته المحفور في الصخر مع جوانب مكشوفة في إللورة وهو من الطراز الدرافيدي القرن 8 - 10 ومعبد ميناكشي وهو من أضخم المعابد، له أربعة مداخل، يرتفع كل منها 60 متراً، مما يجعلها مرئية من بعيد. ومن مسيرة الفنون الهندية عبر عهود الاسرات الحاكمة ينتقل المؤلف إلى موضوع الاسهام الاسلامي المغولي في الحضارة الهندية: مدرسة التصوير المغولي. فقد أسس ظهير الدين بابر سليل الغازي التتري تيمورلنك، امبراطورية المغول الاسلامية في شمال الهند على أطلال سلطنة دهلي ناقلاً معه حضارة الاسلام، فازدادت العناية بتصوير المخطوطات. وقد تناولت موضوعات التصوير في عهد السلاطنة القصائد الرومانسية والتاريخية لأمير خسرو دهلوي وملحمة الشاهنامة للفردوسي والحكايا الشعبية التي تمجد أبطال الاسلام. وتكمن أهمية منمنمات هذا العهد فنياً في صدق اسلوبها وثراء ألوانها. ويعتبر همايون هو الراعي الأول للتصوير المغولي في الهند بلا منازع، فقد استطاع ضم اثنين من كبار الفنانين الفرس إلى بلاطه هما ميرسيد علي وخواجه عبد الصمد، اللذان أشرفا على إعداد مخطوطة"حمزة نامه"وهي الملحمة التي تشيد بمآثر حمزة عم الرسول عليه الصلاة والسلام، فجاءت عملاً فذاً في تاريخ الفن المصور يضم 1400 صورة مسجلة على نسيج قطنيّ، لا يزال عدد منها محفوظاً في بعض المجموعات الاوروبية والاميركية، غير أن العمل عليها لم ينته إلا في عهد الامبراطور أبو الفتح جلال الدين محمد أكبر، الذي كان سبباً في تطور الاسلوب المغولي في المجالين الفني والمعماري. ومن أبرز العمائر المغولية مئذنة"منار قطب"التي شيدها الامير قطب الدين أيبك في مسجده بالقرب من دلهي، و"القلعة الحمراء"التي شيدها شاه جهان في دلهي. أما مقام"تاج محل"فهو يعتبر درة المباني الجنائزية التي شيدها الامبراطور شاه جهان لزوجته"أرجمند"التي تغير أسمها إلى"ممتاز محل"ويعني المختارة من النساء، ثم تناول التحريف هذا الاسم حتى صار"تاج محل"التي وافتها المنية عام 1631 وهي تضع مولودها الرابع عشر. وقد أمر زوجها بايداع جثمانها موقتاً في حدائق زانيا باد على ضفة نهر نايتي ريثما يشيد لها في مدينة آجرا مقاماً يليق بمكانة محبوبته، وقد استغرق بناء هذا المدفن اثني عشر عاماً. عمل فيه نخبة من عمالقة المهندسين والبنائين والمرصعين والخطاطين من الهند وفارس وآسيا الوسطى. وقد اجمع مؤرخو الفن على انه يكاد يكون أقرب المنشآت التي شيدها الانسان كمالاً. فهو على ضخامة حجمه يبدو كما لو ان صيّاغ الذهب هم الذين شادوه كجوهرة تخطف الابصار. وإلى الغرب من الضريح يقوم مسجد وإلى الشرق منه قصر للضيافة. ويعتبر المقام الرخامي الأبيض لتاج محل المحاط بالحدائق والمطل على نهر جومانه، هو من اشهر أضرحة العالم. قال فيه شاعر الهند طاغور:"حسب شاه جهان انه قد سكب على ضفة النهر دمعة واحدة التصقت بوجنة الزمان". كتاب"الفن الهندي"لثروت عكاشة، هو من الكتب الموسوعية النفيسة بالمعنى الأكاديمي التي تعرّف القارئ الى وجه من فنون الشرق الأقصى، التي كانت من المجاهل البعيدة، بسبب عوائق عدة منها صعوبة اللغة السنسكريتية، لذا فهو يسد ثغرة في المكتبة العربية.