تثير الكوادر والنخب الفكرية في الإدارة الأميركية بين آن وآخر - وبشكل مطرد - منظومة من المخاوف والهواجس والشكوك التي تكتنف أرجاء العالم، وتطوقه، محكمةً قبضتها على مقدراته كافة، إذ لا تكف مطلقاً عن أن تصدر تنويعات سياسية ذات عمق فكري ومغزى استراتيجي، ليعيش عالمنا حالاً دائمة من الترقب والحذر والذعر، تولد لديه كماً هائلاً من التساؤلات على غرار: ماذا يدبر العقل الأميركي للعالمين العربي والإسلامي؟ وماذا في جعبته للمستقبل؟ وهل تعتبر أحداث سبتمبر هي المحك المحوري أو العقدة الدافعة وراء الأزمة مع العالم العربي، باعتباره في المنظور الأميركي يمثل بؤرة إرهابية؟ وهل كانت بحق أزمة مختلقة أم محض حقيقة ثابتة؟ وهل تمارس الإدارة الأميركية توازنًا سياسيًا واستراتيجياً خاصاً في علاقاتها مع أطراف وكيانات أخري أم أن منطق غطرسة القوة هو المنطق الرسمي السائد؟ ولماذا ترفض تلك الإدارة تحديد مفهومها عن الإرهاب؟ وما هو المسمى الفعلي لممارساتها العسكرية في العالم العربي؟ وهل حققت ممارساتها تلك القضاء المبرم على جذور الإرهاب أم أنها ورطت العالم في المزيد منه؟ وهل يشهد العالم المعاصر إرهاصات حرب عالمية رابعة تتذرع فيها الولاياتالمتحدة بانعكاسات الصراع العربي الإسرائيلي كما يقول المفكر الفرنسي باسكال بونيفاس؟ وهل كانت نظرية"صدام الحضارات"هي المقدمة الحتمية لتلك الحرب المقبلة؟ ولعل أبرز تجليات تلك الإدارة الأميركية التي أطلت علي الساحة المعاصرة من جنبات معهد"أميركان انتربرايز"أكبر مراكز الفكر الاستراتيجي، كان ما عرف بنظرية"الفوضى البناءة"لمقننها المفكر مايكل ليدن، والتي توقف الخطاب الثقافي والمعرفي العربي في التعاطي معها علي الدلالة الظاهرية لمفهومها وخاض في تحليل لغوي ينتهي مداه إلى وجود ازدواجية أو تناقض معنوي، مؤداه أن حال الفوضى التي تسمح باختفاء المنطق وغياب العقلانية لا يمكن بحال أن تكون بنَّاءة أو خلاقة وكأن القضية ذات بعد واحد، ولا تضم طرفين متصارعين يحتم وجودهما هامش من نسبية الفكر. من ثم فإن هذا ينأى بالعقل العربي عن التقويم الموضوعي المعتدل للنظرية، لوقوفه على قشورها من دون اقتحام مضمونها الكارثي وتفتيته في محاولة للخروج عليه بموقف فاعل، يحمل استراتيجية تستهدف إحباط عملية استمرارها وتكريسها في نسيج الوعي العربي. وتطرح هذه النظرية مفاهيم جديدة عن معاني الاستقرار والحرية، إذ ترى أن الشعوب العربية عايشت أجواء الاستقرار على نحو قد يتجاوز نصف قرن، بينما أهدرت الحرية كقيمة أصيلة، ولابد من استعادتها حتى لو تخلت هذه الشعوب عن الاستقرار بل حتى لو شاعت ملامح الفوضى والاضطراب - وقد تجسد العمل بتلك النظرية وتجلت إيجابياته بالنسبة للصالح الأميركي في كل من العراق وأفغانستان. ويدخل محتوى هذه النظرية في الإطار الأكبر لديناميكية عملية التغيير الجذري كذريعة كبرى تعطي مشروعية وتسمح بالتدخل الخارجي المباشر الذي يتولى عملية الإصلاح السياسي المحقق للديموقراطية المثلى، وينقل تلك المجتمعات من حال الجمود والركود والترهل إلى حال"الفوضى البناءة"و"التدمير الخلاق"الذي يستلزم بالضرورة نسف كل المعطيات القديمة من أجل وجود نموذج أميركي جديد يراد له البقاء الأبدي. وتشير هذه النظرية أيضاً إلى أن فك شفرة مشكلات العالم العربي لن تحدث إلا بالتدخل الخارجي، ليبدأ من جديد جولة أخرى في قلب دائرة أم المشكلات التي قاوم من أجل حلها قروناً وقروناً، وليظل هذا العالم يعيش وضعًا مأزومًا على مستويين: مشكلات التخلف والتراجع السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري، فضلاً عن مأسوية الاحتلال الدافعة نحو اتساع الفجوة الحضارية بشكل يحسم قضية الصراع التاريخي بين الشرق والغرب. وبالمعيار الاستراتيجي تتجلى هشاشة النظرية وخواؤها مضمونًا وتخبطها وارتباكها شكلاً، فضلاً عن أنها لا ترقى إلى مستوى التنظير السياسي الخلاق النافذ إلى أفق أهدافه الاستراتيجية في صلابة وحدة. لكن التساؤل هو لماذا أصبحت الحرية بديلاً عن الاستقرار في الاستراتيجية الأميركية؟ ولماذا تمت لعبة تبديل الأوراق بعد هذا الأمد الطويل الذي منحته الإدارة الأميركية للشعوب العربية؟ وهل يعني وجود الحرية الإطاحة بالاستقرار؟ وهل باتت حرية شعوب العالم العربي تمثل أهمية مطلقة في المخطط الأميركي؟ الحقيقة أن الإدارة الأميركية استشعرت أن غياب الحرية وبناء الاستقرار في العالمين العربي والإسلامي ليس هو المطلب الذي يتسق مع عموميات ودقائق الاستراتيجية الأميركية، وربما كانا يحققان لهذه الاستراتيجية بعضاً من أهدافها. لكن بعدما أصبحت لها اليد المطلقة في تحريك ودفع سياسات وأنظمة باعتبارها استراتيجية كونية لإمبراطورية تتربع على عرش التاريخ المعاصر، فهناك اختلاف حاد. فطبقاً لتغير المحاور، تأكد أن حال دوام الاستقرار في المنطقة العربية تمثل عائقًا كبيرًا وتحديًا لانطلاقات هذه الاستراتيجية الأميركية، من ثم كان لا بد من تقويض دعائم هذا الاستقرار، ومن ثم تتولد ضرورة الإطاحة بالأنظمة العربية وسياساتها باعتبارها أهم الأسباب الدافعة إلى خلق أيديولوجية الإرهاب وممارساته المروعة. وبالتالي أيضاً فإن ضرب هذه الأنظمة من أجل إخفاء الغضب الوطني والكبت الجماهيري هو المحرك نحو غياب الاستقرار. وبصفة عامة فلم تغاير نظرية"الفوضى البناءة"مسارات العقل الأميركي الذي أنتج نظريات"صدام الحضارات"وپ"نهاية التاريخ"و"المشروع العولمي المعاصر"وپ"مشروع الشرق الأوسط الكبير"، لأن جميعها ترتبط بهدف واحد وإن اختلفت تفصيلاتها لكن تتلاقى خيوطها متخذة شكلاً أخطبوطياً، يمسك بالعالم من أطرافه إلى أطرافه. نعم، تطمح الشعوب العربية كثيرًا نحو فضاءات الحرية، وتطمح أكثر نحو نوازع الاستقرار، لكن طوفان الوقائع والأحداث ينفي دائماً أن تكون الإمبراطورية الأميركية المعاصرة صاحبة البارانويا السياسية والعسكرية تمنح حرية أو تدعم استقرارًا. كاتب مصري.