تواجه صناعة النفط السورية تحدياً كبيراً يتمثل، خلافاً للمنحى الذي كان سائداً في الفترة الأخيرة، تراجعاً في مستوى إنتاج النفط. فمن قمة إنتاج بلغت 590 ألف برميل يومياً في العام 1996، انخفض إنتاج النفط السوري إلى 485 ألف برميل يومياً في العام 2004. ومع استنفاد العديد من الحقول النفطية المهمة طاقتها الإنتاجية القصوى وغياب التنقيب عن آبار جديدة، يرجح معظم المراقبين أن يستمر الانخفاض في المستقبل. وترافق هذا التراجع بارتفاع كبير في مستوى الاستهلاك المحلي للمنتجات البترولية. فبينما بلغ الاستهلاك المحلي في أواسط الثمانينات معدلاً يناهز 190 ألف برميل يومياً، وصل في العام 2003 إلى 279 ألف برميل يومياً، ما أثر سلباً في إمكانات سورية في تصدير النفط ليقتصر تصديرها اليوم على نحو 200 ألف برميل يومياً. وفي ظل احتياطي نفطي مقدر بنحو 2.5 بليون برميل، يعتقد معظم الخبراء أن سورية ستصبح دولة مستوردة للنفط في العقد المقبل. ويشكل الانخفاض في إنتاج النفط وتصديره تحدياً أساسياً لمستقبل الاقتصاد السوري. وعلى رغم أن عائدات النفط متواضعة مقارنة بالدول النفطية الغنية في الشرق الأوسط، فهي تشكل مصدراً مهماً لعائدات الحكومة والمصدر الأهم للنقد الأجنبي. وتبعاً للبنك الدولي، فإن قطاع النفط يؤمن نصف عائدات الحكومة السورية وحوالي ثلثي عائداتها التصديرية. ونظراً إلى أهمية قطاع النفط في الاقتصاد الوطني، فقد بذلت وزارة النفط جهوداً حثيثة في السنوات الأخيرة لاستكشاف كميات أكبر من الاحتياطي النفطي وزيادة الإنتاج. وأعلن وزير النفط والثروة المعدنية إبراهيم حداد أنه بعد مناقشة الحكومة لخطة الوزارة التطويرية الخامسة في وقت سابق من العام الجاري، فإن رئيس الحكومة شدد على ضرورة التنبه لمسألة إنتاج النفط والموارد المعدنية بغية تبديد المخاوف التي برزت خلال السنوات القليلة الماضية حول انخفاض الإنتاج. وركزت سورية جهودها لمجابهة ظاهرة انخفاض إنتاج النفط عبر محورين أساسيين: الأول، الانتقال من مصانع توليد الطاقة الكهربائية التي تعمل على النفط، إلى مصانع تعمل بالغاز الطبيعي لتحرير أكبر كمية ممكنة من النفط للتصدير. أما المحور الثاني، فكان تكثيف جهود التنقيب والتطوير عبر جذب شركات النفط العالمية ومنحها شروط عقود مغرية نسبياً. وقد عرضت وزارة النفط منذ العام 2001 الكثير من المناطق للتنقيب، ومنحت اعتباراً من العام 2003 عقود تنقيب وتطوير لعدد كبير من الشركات، بما في ذلك شل، وتانغانيكا الكندية، وبتروكندا، وغلفساندز بتروليوم الأميركية، و"سي أن بي سي"الصينية. لكن هذه النجاحات الأخيرة في استقطاب الشركات النفطية العالمية، ولو كان بعضها صغير الحجم، طغى عليها انسحاب عدد من الشركات، وذلك يعود إما لإخفاقها في العثور على النفط والغاز بكميات تجارية، أو للضغوط السياسية وقوانين المقاطعة الأميركية. وعلى رغم أن الاقتصاد السوري مقيد بالقوانين التي تعيق الانفتاح على الخارج، وخضوعه لسيطرة حكومية قوية، فقد برز الاعتماد على شركات النفط العالمية والخبرات الأجنبية لزيادة الاحتياطي والطاقة الانتاجية كسياسة أساسية للدولة منذ بداية الثمانينات. وأنشأت شركة النفط السورية شركة مشتركة مع"رويال دتش شل"وشركات غربية أخرى تمخض عنها ظهور شركة الفرات للنفط التي بلغ أعلى مستوى إنتاج لها 400 ألف برميل يومياً من النفط الخام الخفيف والعالي الجودة. لكن شركة الفرات للنفط لا تنتج اليوم أكثر من 265 ألف برميل يومياً، ويبدو أن الجهود لإعادة الإنتاج إلى معدل 300 ألف برميل يومياً ستكون صعبة. ولا يعرف حتى الآن إذا كانت عملية التنقيبات الجديدة ستزيد من إنتاج النفط السوري، أم مجرد المحافظة على مستوى الإنتاج الحالي من خلال تعويض النفط المنتج. فتجربة أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات لم تكن مشجعة جيولوجياً. وأي تكهنات بالنسبة للاكتشافات النفطية المستقبلية أمر صعب ويتطلب الكثير من التقويمات الذاتية. بيد أن صناعة النفط العالمية لا تتوقع ظهور اكتشافات نفطية مهمة تعوض عن الحقول القديمة وتمكن من المحافظة على مستويات الإنتاج الحالية ومنعها من النقصان بسرعة. فضلاً عن ذلك، يبدو أن قدرة سورية على استغلال العوامل الجيوسياسية لزيادة صادراتها النفطية تضاءلت. فقد لعبت سورية ورقتها الجيوسياسية مرتين على الأقل خلال عقدين. إذ استعملتها للمرة الأولى خلال الحرب بين العراقوإيران حين أغلقت سورية أنابيب النفط العراقية في أوائل الثمانينات، وفي المقابل، عوضت لها إيران عن ذلك بتقديم شحنات كبيرة من النفط لها. كما لجأت سورية إلى هذه الورقة في أوائل هذا العقد حين حصلت على معدل 200 ألف برميل يومياً من النفط العراقي عبر خط أنابيب كركوك ? بانياس، فاستخدمت النفط العراقي للاستهلاك المحلي وكرافعة في الوقت عينه لصادراتها من النفط الخفيف. واتصفت الصناعة النفطية السورية في العقود الأخيرة بغياب سياسة شاملة ومتناغمة، وباعتماد استراتيجية نفطية لا تأخذ بالاعتبار المتغيرات المهمة في الصناعة النفطية العالمية والمنافسة الشديدة في قوانين الاستكشاف العالمية والإقليمية، والتركيز بدلاً من ذلك على محور زيادة الإنتاج فقط. والمحور البارز الذي أولته السلطات السورية البترولية اهتماماً في السنوات الأخيرة، والذي حقق لها نجاحاً لافتاً، هو مساهمتها الفعالة في تطوير صناعة الغاز الطبيعي المحلية ودورها الأساسي في تأسيس منظومة خط الغاز العربي مع مصر والأردن ولبنان والعراق. فعلى رغم أن صناعة النفط انطلقت في سورية منذ نحو 40 عاماً، فإن غياب الاستثمارات في المجالين المادي والبشري يعني أن صناعة النفط المحلية لم تتغير كثيراً منذ السبعينات. فالواردات المحصلة في قطاع النفط تحول مباشرة إلى خزينة الحكومة مع إعادة ضخ عائدات ضئيلة إلى هذا القطاع لتحديثه وتطويره وتدريب العاملين فيه، أو إلى الاقتصاد لأن معظم هذه الواردات كانت تستعمل لتسديد متطلبات ديون سورية الكبيرة ومصاريف الدولة من أجور ورواتب ودعم للمواد الأساسية. وليس لسورية سوى مؤسستين أو ثلاث مرتبطة بقطاع النفط والمعادن وتؤمن تدريباً بدائياً للغاية. وغالباً ما يكون تقليدياً لا يلائم مصاريف الآبار السورية المعقدة. وعند توفر المهارات المحلية لا يتم الاعتماد عليها في أكثر الأحيان، وبالتالي من غير المستغرب تراجع دور شركة النفط السورية على صعيدي الاكتشاف والانتاج في السنوات الأخيرة على حد سواء. وعوضاً عن أن تلعب صناعة النفط دور محرك محتمل للنمو، يبدو أنها لعبت دور بيت المال للتخفيف من الضغوط المالية. ومن الواضح أن سورية لا تستطيع المضي في تبني هذه الاستراتيجية لفترة أطول. فحاجة الدولة إلى توفير الخدمات التربوية والصحية، وتأمين فرص عمل لملايين العاطلين عن العمل سيستمر في التصاعد خلافاً لمنحى إنتاج النفط وبالتأكيد، تراجع تصديره. ويبدو أن الاستراتيجية السابقة القاضية بالاعتماد على عائدات النفط لتأخير الإصلاحات الاقتصادية وشراء الوقت لم تزد من هشاشة الاقتصاد السوري فحسب، عبر تمويل التشوهات ونقاط عدم الفعالية التي يعانيها، بل ربما خنقت أيضاً الدجاجة التي تبيض ذهباً. باحث اقتصادي في جامعة لندن.