1 السلطان عبد العزيز جلس السلطان عبد العزيز خان ابن السلطان محمود خان الثاني ابن السلطان عبد الحميد الأول، على كرسي الخلافة الإسلامية العثمانية سنة 1277 ه/ 1861م، ووجد الدولة في حاجة إلى إتمام الاصلاحات التي سعى أخوه عبد المجيد كي يدخلها في الإدارات السلطانية والعسكرية بأنواعها، وذلك بعدما توقفت جرّاء حرب شبه جزيرة القرم، وما جرّته التدخلات الأجنبية في شؤون الجوالي العثمانية. وقد جرت مراسم تتويج السلطان عبد العزيز حسب العادات العثمانية، حيث تقلَّد سيف السلطان عثمان الأول في يوم الخميس 18 ذي القعدة سنة 1277 ه/ 1861م، إلى الشمال الغربي من أسوار القسطنطينية في جامع الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري رضي الله، وتمت البيعة له بالخلافة، فأبقى الوزراء في مناصبهم،وعزل السر عسكر رضا باشا، وعين محلّه نامق باشا، ثم أصدر فرماناً إلى الصدر محمد أمين عالي باشا الذي خلف محمد باشا القبرصلي مظهراً رغبته في متابعة تنفيذ الاصلاحات الضرورية لتطوير الدولة، وإيجاد المساواة بين جميع أفراد الرعايا بلا تمييز. 2 مجلس الاحكام العدلية أسس الخليفة العثماني عبد العزيز مجلس الاحكام العدلية في 6 مُحرَّم سنة 1278 ه/ 1862م، وعين لرئاسته الوزير محمد فؤاد باشا وجعله ثلاثة أقسام: أحدها: لإدارة الأمور الملكية. والثاني: لسَنِّ القوانين والتنظيمات. والثالث: للمحاكمات. وحرص الخليفة على الحضور بنفسه في آخر كل سنة إلى الباب العالي ليتلي في حضرته ملخص الاجراءات والأعمال التي قام بها المجلس المذكور خلال السنة الماضية. واستمر نشاط ذلك المجلس حتى 8 ذي الحجة سنة 1284ه/ 1864م، ثم صدر الأمر السلطاني بإلغائه وتعويضه بمجلسين آخرين يشكلان على نظاماته الأساسية وهما: مجلس شورى الدولة"شوراي دولتي"، وديوان الأحكام العدلية"محكمة القضاء العليا"، وقد نجح هذان المجلسان في أعمالهما، وأصدرت الدولة تنظيماتها سنتي 1281و 1287 ه، فتم تنظيم الولايات، وحدّدت وظائف جميع المأمورين من الولاة إلى صغار الخدمة، وحلت التنطيمات الجديدة محل"التنظيمات الخيرية"القديمة مما قيد الفساد، ووضع حدوداً للتجاوزات، فتذمر الفوضويون، وأصدر السلطان فرماناً يقضي بمحاكمة كل من يقاوم تلك التنظيمات، فتمت محاكمة عدد من كبار الحكام مثل خسرو باشا، وعاكف باشا، وطاهر باشا، ونافذ باشا، وحسيب باشا، فظهر لعموم الرعايا العثمانية حُبُّ السلطان للعدل والإصلاح، وأنشأ السلطان مدرسة"غلاطة سراي"في القسم الشمالي من إسطنبول الأوروبية سنة 1285 ه/ 1868م، واعتمدت فيها اللغة العثمانية واللغة الفرنسية، وبلغ عدد طلابها 600 طالب سنة 1869م. 3 إصلاح الأحوال المالية اهتم السلطان العثماني عبد العزيز بإصلاح الأحوال المالية، فأصدر فرماناً إلى الصدر الأعظم محمد فؤاد باشا يكلفه بوضع ميزانية مضبوطة للمالية عن سنتي 1277 و 1278ه/ 1862م، ثم صدر قرار بإلغاء القوائم المالية، وهي أوراق كانت تتداول كالنقود في عهد السلطان الغازي عبد المجيد خان، وسوت السلطنة جميع ديونها، وأصبحت المعاملات في كافة الولايات العثمانية بالنقود العثمانية الجديدة، وانتظمت أحوال المالية. 4 تمرد الجبل الأسود راقبت دول أوروبا إصلاحات السلطنة العثمانية، وخشيت صعودها، واستعادة نفوذ القوات العثمانية، فأخذت تعرقل مساعي الدولة ببث الدسائس، وبذر الفتن في جميع الأراضي التابعة لها في أوروبا وآسيا وإفريقيا، وكانت بداية المؤامرات بخلع نيقولا أمير الجبل الأسود"قره داغ: مونت نيغرو"وتنصيب"البرنس دانيلو"مكانه سنة 1277 ه/ 1861م، وسبب التآمر أن الدول الأوروبية رأت في ذلك العهد أن الدولة العثمانية راحت تبذل المساعي الحقة في إجراء التنظيمات المختلفة، والتحسينات المتنوعة مما أدّى إلى تطور القوات البحرية والبرية، والصنائع والمعارف، واتساع دوائر التجارة العثمانية. وأوشكت فوضى الجبل الأسود على الامتداد إلى ولايات أخرى، فوضعت السلطنة حداًّ للفوضى، حيث أرسلت فيلقاً مكونا من ثلاث فرق عسكرية بقيادة السردار عمر باشا، وكانت الفرقة الأولى تحت قيادة عبد الكريم نادر باشا"المعروف بعبدي باشا"والثانية تحت قيادة درويش باشا، والثالثة تحت قيادة حسين عوني باشا، وهاجمت الفرق الثلاث الجبل الأسود من ثلاث جهات، فكسرت شوكة المتمردين، وزحفت على عاصمة الجبل، فطلب أميره دانيلو الأمان، وقبل شروط الخلافة العثمانية التي تقضي بقبول الاحتياطات اللازمة لمنع قيام التمرد ثانية. ولكن أمير الجبل الأسود نقض عهده بناء على ما تلقاه من تحريض فرنسي روسي، ودعم أوروبي عام، وبذلك نال الجبل الأسود استقلالا إدارياً سنة 1280 ه/ 1864م. 5 تمرد صربيا نالت مقاطعة صربيا امتيازات إدارية بمقتضى معاهدة باريس سنة 1856 م، ولكنها بقيت إدارياًّ تحت سيادة السلطنة العثمانية، وبقيت فيها حامية عثمانية في ست قلاع فقط من حصون تلك البلاد، وبعد تمرد البوسنة والهرسك سنة 1278 ه/ 1862م استمر الاضطراب ببلاد الصرب، وأظهروا العداوة للمسلمين العثمانيين في كثير من المسائل، ثم تدخّلت الدول الأوروبية في شؤون رعايا السلطنة العثمانية، وعقد سفراء الدول المعادية مؤتمراً في إسلامبول بحضور مندوب السلطنة الصدر الأعظم عالي باشا مندوبا، وبعد مداولات تقرَّر أن يُخلي العثمانيون قلعتين من القلاع الست في صربيا، وأن تبقى القوات العثمانية في أربع قلاع اعتباراً من سنة 1279ه/1862 م، ثم تنازل العثمانيون عن القلاع الباقية بعد تمرد جزيرة كريد سنة 1283ه-1867 م، وبذلك لم يبق للعثمانيين من أثر التابعية في صربيا غير رفع العلم العثماني فوق قلعة بلغراد إلى جانب العلم الصربي. 6 تمرد جزيرة كريد تضافرت لحهود الأيراني الروسية غير الحسنة، وأدت إلى تشويش الأحوال على الحدود العثمانية الشرقية والشمالية، وساهمت تلك الجهود السيئة في نفس الوقت بإثارة القلاقل الطائفية والمذهبية بين أبناء الجاليات العثمانية من غير المسلمين السُّنَّة، ومن تلك الفتن ما أوحت به روسيا إلى بعض سكان جزيرة كريت غير المسلمين لكي يقوموا ويطلبوا ضم جزيرتهم إلى اليونان، وأكدت لهم بأنه سيكون لهم من روسيا واليونان نصير على كافة الأصعدة، فثاروا على السلطنة العثمانية، واستفحل أمرهم، فأرسلت السلطنة الجيوش براً وبحراً تحت قيادة مصطفى باشا الكريدي، وأمرته أن ينصح المتمردين بالاستسلام، حقناً للدماء ومع جده واجتهاده في ذلك لم يمكنه حملهم على الطاعة بل أصروا على العناد مع محبتهم لذلك القائد، ولما لم تبق وسيلة سلمية، بدأت الحرب لقمع الفتنة، وأرسل الخديوي إسماعيل باشا في ربيع الأول من سنة 1283ه / 1863م قوة عسكرية مركبة من ستة"آلايات بياده"وبعض بطاريات المدفعية تحت قيادة شاهين باشا، ثم تعين لقيادتها القائد الشهير إسماعيل سليم باشا الفريق ناظر الجهادية إذ ذاك، وبعد وفاته خلفه عبد القادر باشا الطوبجي. وبعد هودة مصطفى باشا الكريدي إلى الآستانة في 6 شوّال سنة 1283 ه/ 1863م قاد الجيوش العثمانية عمر باشا وهو صربي الأصل، وشدد الحصار البحري حول الجزيرة، وسمحت السلطنة بنقل العائلات التي رغبت في الهجرة من الجزيرة. 7 المعارضة الداخلية كادت إصلاحات السلطان عبد العزيز أن تأتي أُكلها في السنين الأولى من جلوسه على سرير الخلافة العثمانية، وذلط جرّاء الإصلاحات التي أدخلها على جميع دوائر الحكومة مما جعل الأمة العثمانية تأمل خيراً كثيراً حينذاك،ولكن أصحاب المطامع الأنانية تحزَّبوا ضد السياسة الإصلاحية سراً، وذلك بعدما رأوا تغيير طريقة الوراثة بالخديوية المصرية التي نالها الخديوي إسماعيل باشا برضا السلطان، مما منع مصطفى فاضل باشا من حقوقه، فمال إلى الحزب المضاد للسلطنة، والتفت حوله بعض شبان العثمانيين مثل علي سعاوي بك، وضيا بك، ونامق كمال بك وغيرهم، ورحل المعارضون إلى أوروبا، وأخذوا يشهِّرون بالسياسة العثمانية بما يذيعون، وبما ينشرونه من المكاتبات والجرائد حول الأغلاط الحاصلة في سياسة السلطنة، وينتقدون أعمال فؤاد باشا، وعالي باشا، وأصدروا كثيراً من الرسائل الهجومية التي تحاملوا فيها على بعض رجال الدولة الذين تشهد لهم أعمالهم الحسنة، ومساعيهم المشكورة بالوطنية الصادة، مثل عالي باشا، وفؤاد باشا وغيرهما. 8 تردي الأوضاع العثمانية توفي الصدر الأعظم عالي باشا، وجلس مكانه محمود نديم باشا في مسند الصدارة العظمى سنة 1268م، فسلك طريقاً معوجاً في السياسة، وساءت الأحوال، واختلت الأمور المالية، واقترضت السلطنة من أوروبا أموالاً كثيرة، واستبدّ الموظفون بالأحكام، وتذمر الناس، فصدر أمر سلطاني بمحاكمة ثلاثة من المشيرين وهم: حسين عوني باشا، وشيرواني زاده رشدي باشا، ومشير الضبطية حسني باشا، وتمّ نفيهم دون أن تطبق محاكماتهم على القانون، ولذلك دهشت رجال الدولة من هذه الأحوال، وكثير التغيير والتبديل في الولاة، وزادت الأحوال ارتباكاً، ولاحظ السلطان سوء الأحوال، فعزل محمود نديم باشا عن الصدارة العظمى، وذلك بعدما تولاها أحد عشر شهراً، وقد طعنت به الجرائد العثمانية، وأظهرت ما ارتكبه من الأعمال المضرة بالدولة. وبعد ذلك كثر تغيير رؤساء الوزارات"الصدور العظام"حيث تولى الصدارة ابتداء من سنة 1292ه مدحت باشا، ورشدي باشا الكبير، وأسعد باشا، وشيرواني رشدي باشا، وحسين عوني باشا، وأسعد باشا ثانية، في مدة ثلاث سنوات، ولما أسند السلطان عبد العزيز الصدارة العظمى إلى محمود نديم باشا ثانية، خطر في فكر رجال الحزب المعارض لسياسة الحكومة أن السلطان راضٍ عن أعمال الوزير المذكور، فباشروا التحريض ضد سياسة الدولة، واستغلوا تردي الأوض الأوضاع المتردية الناتجة عن تمرد جماعات الصقالبة بتحريض روسي في ولايتي البوسنة والهرسك سنة 1875 م، وفي بلغاريا في شهر أيار/مايو سنة 1876 م، ونتج عن ذلك التحريض الروسي قتل المسلمين في تلك المناطق مما أدى إلى وقوع عدة مذابح. وخافت السلطنة أن تقوى الدسائس الأجنبية فأصدر السلطان سنة 1875 م فرمانا بمنح تلك الولايات بعض المتيازات لتسكين الخواطر دون جدوى، ومع ازدياد الاضطرابات قدّم الكونت أندراسي لائحته المشهورة في أواخر سنة 1875م، وكان من مقتضياتها إنفاذ ما جاء بالفرمان السلطاني من الامتيازات، فقبل السلطان، وأصدر عفواً عن جميع المجرمين، إلا أن المتمردين أصروا على طلب إخراج العساكر العثمانية من بلادهم، أو تقيم في القلاح فقط، خصوصاً بعد حادثة سلانيك التي وقعت في5 أيار/مايوا سنة 1876 م. بسببها اعتناق فتاة بلغارية الديانة الإسلامية، ومجيئها إلى سلانيك لإثبات إسلامها، فتصدى لها بعض متعصبي الأروام حين توجهها إلى دار الحكومة، واختطفوها من أيدي المحافظين عليها بالقوة، وأخفوها أوّلاً في بيت قنصل أمريكا ثم نقلوها إلى دار أحد كبرائهم، ولما أشيع ذلك بين المسلمين هاجت نفوسهم، وتجمع الآلاف منهم أمام سراي الحكومة، وبينما هم كذلك إذ حضر الموسيو مولين قنصل فرانسا، والموسيو هنري أبود قنصل ألمانيا، وأرادوا دخول المسجد عنوة، فتصدى الناس لمنعهما أوّلاً إلا أنهما دخلا بالرغم عنهم، وكان المتداول على الألسنة أن البنت في بيت قنصل ألمانيا المذكور، ومما زاد الهياج عند المسلمين أن القنصلين المذكورين تفوّها بألفاظ غير لائقة بحق الإسلام والمسلمين، فاشتد حنق الحضور، وهجموا عليهما وقتلوهما، ولم يتمكن الوالي محمد رأفت باشا من حمايتهما، وقمع الفتنة. ولذلك أرسل الباب العالي لجنة بينها مستشار نظارة العدلية للتحقيق في القضية، وأرسلت دولتا فرانسا وألمانيا أسطولين، وبعثت كل من إنكلترة وإيطاليا والنمسا والروسيا واليونان سفنا حربية، ثم انتهت المسألة بعمل تراض للدولتين المذكورتين وهي أن ينفى الوالي وبعض المأمورين، وأن يقتل الذين تجرؤوا على سفك الدماء، وترتب على ذلك أن اتفقت روسيا والنمسا وألمانيا، وقدموا للسلطنة العثمانية لائحة اتفاقية برلين المشهورة بعد أن صادقت عليها إيطاليا وفرانسا، وطلبت الدول الأوروبية من الباب العالي تنفيذ فرمان 12 كانون الأول/ ديسمبر لسنة 1875 م، وتعيين مجلس دولي لمراقبة تنفيذ الإصلاحات، فرفض الباب العالي ذلك لأنه يمسُّ بحقوق السلطنة، فارتبكت الأحوال بسبب سوء تصرفات الصدر الأعظم محمود نديم باشا الذي كان ينفذ رغبات السفير الروسي فكره الناس ذلك الوزير العلقمي، وشنعوا عليه. وقامت المظاهرات في أواسط ربيع الأوّل سنة 1293ه، وأرسل السلطان عبد العزيز إلى أستاذه شيخ الإسلام حسن فهمي الحسيني أفندي يطلب منه السعي لإقناع المتظاهرين بضرورة انهاء المظاهرات، ولكن المتظاهرين اتهموا شيخ الإسلام بالميل إلى سفير روسيا، وحينذاك أمر السلطان بعزل محمود نديم باشا من الصدارة العظمى، وحسن فهمي الحسيني أفندي من المشيخة في 16 ربيع الثاني سنة 1293 ه/ 11 أيار سنة 1876م، وعين في الصدارة العظمى محمد رشدي باشا الكبير، المعروف بالمترجم"للمرة الرابعة"وعين في المشيخة الإسلامية خير الله أفندي"للمرة الثانية"و وعين في السر عسكرية حسين عوني باشا.