مرّ الخليج العربي كما نسميه - أو الخليج الفارسي كما تصر إيران على تسميته - بظروف معقدة للغاية في العقدين الأخيرين. بل ربما قبل ذلك أيضاً، منذ سقوط حكم الشاه واندلاع الثورة الإسلامية في إيران، ما أدى إلى أن تتحول طهران إلى لاعب مختلف في سياسات الخليج، بل والعالمين العربي والإسلامي أيضاً. ثم كانت الحرب العراقيةالإيرانية تجسيداً للفصل الدامي في العلاقات بين العرب والفرس، على رغم أن العرب أنفسهم انقسموا تجاهها ولم يتحمسوا بالكامل لها. ولعب الرئيس العراقي السابق صدام حسين ونظامه دوراً كبيراً في بلورة طبيعة العلاقات العربية الإيرانية، خصوصاً في العقدين الأخيرين وتمكن بشكل أو بآخر من إحداث تعبئة قومية عامة ضد ما أطلق عليه"الخطر الإيراني"كما جرى حديث عن"القادسية"في استعادة متعمدة لتاريخ المواجهة العربية الفارسية. ولا ننسى أيضاً أن تقدم إيران الثورة على إيران الدولة كان له هو الآخر أثره الكبير في الخريطة السياسية لمنطقة الخليج تحديداً، بل وربما للشرق الأوسط برمته، حتى شهدنا تطورات متلاحقة تشير في مجملها إلى الخلل في التوازن الإستراتيجي في منطقة الخليج، خصوصاً بعد سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين وما أحاط بذلك السقوط من تداعيات أدت في النهاية إلى ما نشهده الآن من تحولات واضحة في الواقع السياسي والعسكري حول الخليج. ولكي نضع تصوراً متكاملاً للوضع الحالي والدور الإيراني فيه فإننا نتطرق إلى النقاط الآتية: أولاً: الثقل الإيراني كان يجب أن يكون إضافة إلى القوى العربية المجاورة وليس خصماً منها، فالتاريخ المشترك والحضارة الإسلامية الواحدة والجوار الجغرافي والتواصل الإنساني، كان يجب أن تكون جميعها أسباباً قوية لعلاقات وثيقة بين العرب وإيران. ولكن عوامل دولية وإقليمية قلبت المعادلة وأدت إلى تطورات سلبية، خصوصاً في نصف القرن الأخير. ثانياً: الوجود الأجنبي بتاريخه الطويل في المنطقة لعب هو الآخر دوراً عكسياً ضد الاتجاه الطبيعي للعلاقة العربية الفارسية، كما أسهمت سياسات القوى الكبرى في ضرب التقارب بين العرب وجيرانهم، وكذلك أدت تداعيات العقود الأخيرة إلى نتائج سلبية للغاية في الساحة الخليجية عموماً. ثالثا: لعب العامل الديني دوراً مؤثراً، أو على الأقل جرى استخدامه في إطار هذه المسألة، فغالبية العرب ينتمون إلى المذهب السني أما الإيرانيون فينتمون إلى المذهب الشيعي. وليس يعني ذلك أن كل شيعي ليس عربياً ولكن الفهم المغلوط للعلاقة المذهبية بين السنة والشيعة أدى إلى ما نشهده الآن من صراعات نشأت نتيجة رواسب تاريخية وحساسيات قومية. رابعاً: لا ينكر أحد أن لإيران تطلعات سياسية إقليمية واضحة سواء كان ذلك في فترة حكم الشاه أو في ظل الثورة الإسلامية، كما أن احتلال إيران لبعض الجزر العربية الإماراتية هو أمر يندرج أيضاً تحت عنوان الأطماع الإيرانية في الخليج. وكانت الحرب العراقيةالإيرانية قمة الدراما الإنسانية في المنطقة، إذ أثبتت لكل الأطراف أن سوء النية متوافر، وأن القوى المختلفة تتحين الفرص للانقضاض على بعضها. خامساً: التوازن الاستراتيجي في منطقة الخليج محكوم بعوامل خارجية وأخرى داخلية، ما يجعل التركيبة هشة والتوازن مفقوداً. وليس من شك فى أن حكم صدام حسين كان بمثابة سكب الزيت على النيران المشتعلة، فبه بدأت العواصف وتكاثرت الغيوم وتدهورت الأوضاع. .. إن هذه النقاط تضعنا أمام أسباب الخلل وعوامل الاضطراب. وليس هناك من يدرك أن منطقة الخليج أضحت في السنوات الأخيرة بؤرة للتوتر ومصدراً للقلق، كما أنها أصبحت تواجه مستقبلاً محفوفاً بالمخاطر مليئاً بالتوقعات كافة، خصوصاً أن الأوضاع الأخيرة في العراق أفرزت عوامل جديدة من شأنها أن تزيد المنطقة احتقاناً والتهاباً ويمكن رصدها في ما يلي: 1- يقف العراق على أبواب تقسيم فعلي تحت مسمى"الفيدرالية"أحياناً وبتأثير الأوضاع التي استجدت أحياناً أخرى. فأصبح التقسيم المذهبي بين الشيعة والسنة لا يقل عن التقسيم الآخر بين العرب والأكراد، وهى كلها أمور توحي بأن وحدة العراق في خطر، كما أن عروبته تواجه اختباراً صعباً. وهذه النعرات الجديدة تجعلنا نتصور مستقبلاً غامضاً لبلاد الرافدين وتعطي إحساساً بالقلق الزائد عند دراسة المستقبل. 2- يؤكد الخبراء الاستراتيجيون في أكثر من مناسبة أن العراق أصبح قوة مخصومة من مراكز الثقل الخليجية إقليمياً ودولياً. ولا يختلف كثيرون في أن سقوط نظام صدام مع وجود كثيف للقوات الأجنبية أدى إلى إحكام الحلقة حول قدرات العراق وإمكاناته، وجعله قوة منسحبة يختفي تأثيرها من الساحة الخليجية على نحو يعطى إيران اليد الطولى في المنطقة. 3- إن الموقف العربي عموماً، والخليجي خصوصاً، من أحداث العراق صنع هو الآخر شرخاً في الجدار القومي كله، ما استتبع بالضرورة غياب التنسيق المطلوب من أجل استعادة التوازن الاستراتيجي في منطقة الخليج، بحيث أصبحنا أمام وضع متراجع قومياً وإقليمياً. 4- إن ما يجرى في العراق يشير إلى تحولات كبيرة في ذلك القطر العربي الكبير، بل إن التطورات اليومية تحمل معها قدراً ملموساً من مؤشرات الاختلاف، إذ تولدت مظاهر الشك المتبادل والثقة المفقودة بين القوى العراقية المختلفة، كما انهارت درجة تماسك الوطن العراقي الكبير تحت وطأة الانقسامات القومية والطائفية. 5- إننا نسلم بأن السنة العراقيين استأثروا بمقاليد الحكم في بغداد لسنوات طويلة، وبدا الشيعة العراقيون غالبية محرومة من بعض المواقع السياسية الكبرى، ما أدى إلى شعور دفين بالظلم خصوصاً وأن معظم الثروة العراقية يربض في الجنوب الشيعي وأيضاً في الشمال الكردي، وكأن أهل السنة كانوا يتحكمون في السلطة ويشاركون في الثروة خلال العقود الماضية. ويجعلنا ذا الأمر نقول أن الإنكليز مكنوا لسنة العراق منذ بداية عشرينات القرن الماضي، بينما مكن الأميركيون لشيعة العراق منذ سقوط نظام صدام. 6- إن الأكراد يمثلون قومية ملتحمة مع الوجود العربي ومرتبطة بالمنطقة منذ مئات السنين، وهم يشعرون بحقهم في التعبير عن هويتهم وإظهار مكانتهم، وهو أمر لم يتيسر لهم في الظروف الطبيعية على النحو المطلوب، لذلك يجب أن يكون لهم الحق الآن، وفي ظل ظروف استثنائية، في أن تبرز هويتهم ويتأكد وجودهم. 7- لا أعترض أنا أو غيري على وجود كيان عراقي متعدد الأعراق متنوع الطوائف، شريطة ألا يؤدى ذلك إلى تمزيق نسيج ذلك الوطن أو العبث بوحدته وتماسكه وسلامة أراضيه. ولعل هذا التصور هو أصدق ما يكون تطابقاً مع الظروف الحالية التي يمر بها الوطن العراقي، وهو أمر يسبب قلق لجيرانه ويعطي انطباعاً عاماً بأن العراق مقبل على رحلة غامضة قد تنتهي بالتأثير في هويته وسلامته الإقليمية وتؤدي إلى مزيد من الخلل في التوازن الاستراتيجي في المنطقة كلها. 8- إن الأوضاع الداخلية في إيران تضيف هي الأخرى بعداً شديد التأثير في الأجواء المحيطة ودول الجوار. ولا زلنا حتى الآن لا نعرف إن كان التشدد الإيراني سيستمر، أم أن حالاً من الاعتدال يمكن أن تسود بعد فترة، وإن كان وصول رئيس متشدد مثل أحمدي نجاد إلى موقع رئاسة الجمهورية في طهران يوحي بأننا مقبلون على مرحلة صعبة تتباعد فيها الرؤى وتتفاوت الاتجاهات، خصوصاً مع تصاعد المواجهة بين إيرانوالولاياتالمتحدة حول الملف النووي وهو أمر تحول إلى قضية كبرياء قومي بالنسبة للإيرانيين. ولا شك أن ارتفاع أسهم المتشددين في طهران سيكون من شأنه زيادة التوتر في المنطقة مع مخاطر حقيقية تحيط بشعوبها. .. إن هذه الملاحظات السابقة تبقى ناقصة ما لم نطرح السؤال الأساس: لماذا تقدم الولاياتالمتحدة الأميركية على دعم شيعة العراق بصورة تعزز من وضع طهران إقليمياُ ودولياً فيما تبدي واشنطن قلقها المستمر من سياسات إيران الإقليمية والدولية؟. إنه أمر يبدو متناقضاً ويوحي بأننا أمام معادلة صعبة تلعب فيها واشنطن دور اللاعب الأساسي الذي يحارب إيران سياسياً ويدعمها استراتيجياً في الوقت نفسه. إنه بحق ذلك الخلل الذي طرأ على موازين القوى في الساحة الخليجية، وهو أمر يدعو الخبراء والمتخصصين لمتابعة ما جرى والبحث فيه. وسنظل راصدين للتطورات في تلك المنطقة الحساسة حتى نشعر ذات يوم بعودة التوازن الاستراتيجي المفقود في منطقة حيوية من العالم العربي الإسلامي والشرق الأوسط أيضاً. * كاتب مصري.