هل نحن مقبلون على ثورة علمية في الدراسات القرآنية؟ هذا السؤال ربما للمتتبعين لما كتب من الابحاث والدراسات القرآنية خلال العقود الأخيرة، اذ نقف على نتاج كبير لم يسبق ان ظهر مثله في مدة زمنية مماثلة من قبل، كما اننا للمرة الاولى امام تعدد منهجي يخرج عن المناهج التقليدية المألوفة في التفسير ودراسات علوم القرآن، اضافة الى ذلك نجد أنفسنا ايضاً امام استخدام لمناهج أجنبية وافدة جديدة ومتنوعة لم تنبث في ارض المعرفة الاسلامية وثقافتها الخصبة، ثم ان هذا النتاج الجديد من الابحاث والدراسات اسهم فيه غير المسلمين المستشرقون في شكل واضح، وذلك بغض النظر عن تقويم ما قدموه. ويعود هذا الاهتمام المتزايد بدراسات القرآن الكريم لدى المسلمين اساساً الى قضية"النهضة"، التي اصبحت الشاغل الاكبر للفكر الاسلامي خلال القرن ونصف القرن الماضيين، حيث بات مسلماً ان مشروع النهضة الاسلامي يمر من قناة الاصلاح الديني، وكون القرآن الكريم المصدر الاول لكل فكر اسلامي فإن العودة اليه هي حاجة معرفية وتاريخية لتجاوز ثقل الثقافة التاريخية وفهومها التي تفصل بيننا وبين النص الكريم وتعوق"الفهم الصحيح"للدين، ومن ثم تعوق نهضته. ثم ان دراسة القرآن وتفسيره هي"تقليد"سارت عليه كل حركات الاصلاح الديني والسياسي في تاريخ الحضارة الاسلامية، فكل تفكير بالنهضة لا بد له من ان يتخذ موقفاً تجاه النص الكريم وفهماً يسوِّغ رؤيته للحاضر والمستقبل. أضيف الى ما سبق ان الحاجات المتزايدة للمعرفة الدينية وطريقة عرضها ومقاربتها وفق التطورات المتسارعة لايقاع العصر الحديث وطروحاته الفكرية، كل ذلك أجبر المشتغلين في الاصلاح الديني على البحث عن مناهج جديدة قادرة على تقديم رؤية كلية للقرآن وموضوعاته وتاريخه، وقادرة ايضاً على مساعدة المسلمين في مواجهة اشكالاته المعرفية من خلال تقديم تصورات متماسكة منطقياً في فهم القرآن، وعلى مدهم بالاطمئنان الكافي لخوض هذا العالم الجديد بقوة ومن دون خوف، بله الدعوة الى الاسلام والتبشير بهديه بين العالمين في زمن حضارة الحداثة الغربية الجديدة. اما الدراسات الاستشراقية فقد كانت موظفة لأغراض امبريالية، اذ نشأت اساساً بصفتها فرعاً علمياً مستقلاً لخدمة الاستعمار الغربي للعالم الاسلامي، وعندما انتهت الحقبة الكولونيالية الاولى لم تعد عموماً كذلك، وبعد ان أصبحت فرعاً علمياً مستقلاً أفرزت كثيراً من الدراسات الجادة وخصوصاً في مجال الدراسات القرآنية ذات الاهمية الخاصة لنا، ولكن الاهم في موضوع الدراسات القرآنية الاستشراقية انها جلبت الى العالم الاسلامي مناهج جديدة في دراسة القرآن الكريم، وقدمت خدمات جليلة للباحثين المتخصصين في مجال الفهرسة والتوثيق، ولكنها في المقابل ايضاً جلبت معها كثيراً من الاشكالات والتفسيرات الغريبة، بل و"المطاعن"الجديدة في القرآن، وقد كان لذلك كله اثر مهم في تحفيز الدراسات القرآنية الحديثة. ولكن الدراسات الغربية المعنية بالاسلام الآن تتحول شيئاً فشيئاً نحو الدراسة الانثروبولوجية، فيما يبدو توجه لتصنيف الحضارة الاسلامية ضمن مفهوم"الثقافة"الخاصة بالمجتمعات غير العربية، ودراسات القرآن الجديدة الآن اذا لم تكن تدرس في اطار الفيلولوجيا التاريخية مثل دراسة كريستوف لوكسمبورغ عام 2000 فانها تصب في توجه الدراسات الانثروبولوجية. وفي سياق الصراع الايديولوجي مع الماركسية والاتجاهات العلمانية الحداثية في العالم الاسلامي لجأ بعض المفكرين الماركسيين والحداثيين بدءاً من سبعينات القرن الفائت - وتحت ضغط الاحساس بفشل هذه الايديولوجيات في النفوذ والانتشار في العالم العربي والاسلامي - الى محاولة خلخلة ثقة جمهور المسلمين بالقرآن الكريم، واعادة تفسير القرآن بما يفضي الى نتائج تلائم الايديولوجيا التي يؤمنون بها، وفي كلا الامرين تم الاستعانة بمناهج جديدة، ضمت الى جانب المناهج الاستشراقية مناهج من العلوم الاجتماعية الغربية الحديثة، ولكن هذه الدراسات والبحوث - التي لم تكن نزيهة على الاطلاق - لم تستطع ان تحقق هدفها بعد، الا انها استنفرت الباحثين المسلمين لمواجهتها والدفاع عن القرآن، مما حدا بهم الى دراسة المناهج الغربية والاتصال بالعلوم الاجتماعية الغربية الحديثة، فسعى هؤلاء الباحثون للكشف عن المشكلات العلمية والمنهجية الكامنة في هذه الدراسات، وتبين لكثير منهم - في ما بعد - ان التلويح بالمناهج الحديثة الذي تضمنته كان في معظمه نوع من الارهاب الفكري لا اكثر. والملاحظ ان الابحاث والدراسات القرآنية المختلفة بتأثير هذه الظروف تركزت في محورين رئيسين، الاول: توثيق القرآن ونقله تاريخية القرآن، والثاني: الدلالة الكلية للقرآن. في توثيق القرآن فإن من اوائل الدراسات الفيلولوجية النصية المقارنة بالقرآن كانت عام 1856م، للمؤلف ثيودور نولدكه، بعنوان"أصل وتركيب سور القرآن"والذي نشره بعدما أعاد النظر فيه وطوره عام 1880 بعنوان"تاريخ القرآن"ترجم الى العربية 2004. وفي العالم العربي تصب جهود مثل جهود محمد أركون عموماً في قصد ما يسميه"أرخنة القرآن"واعادته"بشكل علمي الى قاعدته البيئوية والعرقية - اللغوية والاجتماعية والسياسية الخاصة بحياة القبائل في مكة والمدينة في بداية القرن السابع الميلادي"، بدءاً من بحثه"نسبة القرآن الى الله"- 1969، مروراً بكتابه"قراءات في القرآن"- 1982، وأخيراً كتابه"القرآن: من التفسير الموروث الى تحليل الخطاب الديني"-2001. ويندرج في هذا السياق دراسة نصر حامد أبو زيد في كتابه"مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن"- 1990، ودراسة عبدالمجيد الشرفي في كتابه"الإسلام بين الرسالة والتاريخ"- 2001. وطالعنا هذا العام الكاتب والطبيب الليبي كامل النجار بكتاب يتجه الى المنحى نفسه، ولكن بعدة غاية في البساطة، بعنوان"قراءة منهجية للاسلام"- 2005، وباستثناء محمد أركون ونصر حامد أبو زيد فإن الكتابات العربية هي كتابات ايديولوجية او كتابات لا تتسلح بعدة معرفية حقيقية تستحق الاهتمام. لكن اللافت للانتباه ان ليس هناك اهتمام جاد بقضية أرخنة من قبل المؤسسات الاكاديمية وبحوثها، ربما بسبب خطورة البحث في هذا الموضوع، الا ان المسألة لا تحتمل التأخير وعلينا بذل الجهد لذلك، وأذكر ان صديقاً لي اراد ان يسجل اطروحة دكتوراه في احدى الجامعات المصرية بعنوان"النسبي والتاريخي في القرآن الكريم"فاتهم بأنه من"أذيال الاستشراق واعداء الاسلام من امثال أبو زيد واخوانه المرتدين"! على رغم ان الرجل كان يريد ان يبحث في المسألة في سياق الدفاع عن القرآن الكريم. وفي صلب الدلالة الكلية جاء الاهتمام بدلالة المفردات القرآنية باعتبارها مدخلاً في غاية الاهمية لهذا التحليل الكلي، فقد اعتمدت معظم الدراسات على المفردة كأداة لتحليل الخطاب القرآني، تارة وتحت تأثير المنهجيات الحديثة في اللسانيات، مثل دراسة توشيهيكو ايزوتسو"الله والانسان: دلاليات تصور العلم القرآني"باللغة الانكليزية 1963، وعائشة بنت الشاطئ في"التفسير البياني للقرآن الكريم"مطلع ستينات القرن الفائت، وشكري عياد في دراسته"يوم الدين والحساب: دراسات قرآنية"- 1984، ومحمد اركون ايضاً في كتابه"القرآن"- 2001، ودراسة تلميذته جاكلين الشابّي بالفرنسية بعنوان"رب القبائل: إسلام محمد"- 1997. * كاتب سوري.