مركز الملك سلمان للإغاثة ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير المقبل    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    السعودية تستضيف الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    أوروبا تُلدغ من جحر أفاعيها !    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    الطفلة اعتزاز حفظها الله    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العراق عشية الانتخابات ... أحزاباً ومدناً ونواحي . تكريت المتوسعة في كل الاتجاهات وصولاً الى بغداد ... تنكفىء الى خارج المحافظة والمثلث 6
نشر في الحياة يوم 28 - 01 - 2005

بمجرد الحديث عن انتخابات لاختيار رئيس للجمهورية، أو حكومة، أو مجلس وطني جديد في العراق، ستبدو مدينة تكريت معنية أكثر من غيرها بهذا الأمر، على طريقة بيت طرفة بن العبد:"إذا القوم قالوا من فتى خلت إني عنيت"، ذلك أنها لم تعتد أن تخضع مقاييس الرئيس، أو حكومته، لإرادة الآخرين، فهي المدينة التي قدمت للعراق آخر رئيسين عرفهما في السنوات الخمس والثلاثين الماضية. وهي المدينة التي قدمت للمجلس الوطني السابق في كل دوراته أعضاء من مناطق انتخابية عدة، تسابقوا على لقب التكريتي حتى وهم يمثلون بغداد أو الموصل أو كركوك. فلقب التكريتي أضحى في عراق العقود الثلاثة الماضية بديلاً نوعياً لا منازع له، ولا يتوقف عند حدود الوجاهة الاجتماعية لتراث لقب الباشا والبيك في أبسط الأحوال.
وهذه المدينة دفعت في العقود الماضية، بأكثر من عشرة وزراء للدفاع، حتى إنها جعلت من نائب عريف، ومن عريف في القوات المسلحة، وزيرين للدفاع، بعدما كان القائد العام للقوات المسلحة، صدام حسين، أحد المواطنين الذين لم يؤدوا خدمة العلم الإلزامية.
أما قادة الفرق وضباط الأركان وقادة الصنوف، فأعدادهم يصعب حصرها أو إحصاؤها وسط موج الإقالات الجماعية والتنقلات الدورية، والإعدامات والإقصاءات التي طالت العشرات منهم، لكن تكريت في كل الأحوال لم تخطئ حصة الأسد في هذا الجانب كذلك.
بيد أن الموضوعية تستدعي أيضاً أن نذكر بأن كل الضباط الذين دفعت بهم تكريت إلى الجيش العراقي، حتى أولئك الذين نالوا رتبهم بالتدرج العسكري قبل 1968، وجدوا أنفسه يلعبون دوراً واحداً في القوات المسلحة، هو تدبير الانقلابات، والتآمر على نظام الحكم من داخله. سنرى أن أكثر الضباط الكبار المتحدرين من هذه المدينة والذين قتلوا، لم يقضوا في المعارك، المكان الطبيعي لمقتل القادة الميدانيين، لكن غالبيتهم، إن لم نقل كلهم، قتلوا في حلبة الصراعات الداخلية بين أجنحة العشائر التكريتية في تنازعها على السلطة.
ومنذ ما يعرف لدى معظم فئات المجتمع العراقي بثورة الرابع عشر من تموز أو ما يعرف لدى بعض الفئات السياسية بالانقلاب الجمهوري الذي جاء بالضباط لحكم العراق، مروراً بكل الانقلابات التي شهدها العراق بعد ذلك، كان للضباط المتحدرين من تكريت دور واضح، في كل تلك الانقلابات، وعلى رغم الدور البسيط الذي لعبه أحمد حسن البكر، في قيادة إحدى الوحدات الصغيرة تحت إمرة عبد السلام عارف في 14 تموز يوليو عام 1958، إلا إن ذلك كان بداية لعهد من فاعلية اليد التكريتية في تقويض أو تغيير الأنظمة المتعاقبة من خلال البندقية والدبابة، وحتى الخنجر في أحيان أخرى. وتناوب على هذه الأدوار عدد من كبار الضباط التكارتة بينهم طاهر يحيى التكريتي ورشيد مصلح التكريتي وحماد شهاب وحردان عبد الغفار التكريتي.
وتكاد العقلية الانقلابية تصبح نوعاً من الصورة النمطية للتكارتة من دون أن يعني ذلك إلحاق عسف ما، بالعديد من الأهالي المتحدرين منها، ففي المؤسسات التعليمية والصحافية والعلمية والمهنية، كان وجود منتسب تكريتي، لا يعبر فقط عن هيبة السلطة ومنعتها التي تظهر في تصرفاته ويشدد عليها بلهجته، بل يعني أنه يستعد للإطاحة بكل من حوله حتى وإن كانوا تكارتة من نواحي أخرى غير الناحية التي يتحدر منها.
لهذا سيبدو من الصعب على هؤلاء الذين اعتادوا أن يمشوا إلى السلطة على طريق من دم يسفح على الجانبين، أن يقتنعوا بسهولة ان السلطة في العراق، يمكن أن يجري تداولها بورقة مكتوبة بالحبر، أو بجرة قلم، لا بتجريد السيوف!.
لا تبدو ثمة أهمية كبيرة لتكريت في كتب التاريخ، سوى ما يجري تواتر نقله عن قلعتها ذات الأهمية العسكرية في مواجهة الغزو الخارجي، على رغم أننا لم نتعرف عليها كعقبة صعبة في طريق الغزاة. فعلى رغم ما أثبتته من شراسة غير معهودة في أي منطقة عراقية أخرى في ما يتعلق بغريزة السلطة وإخضاع الآخرين، إلا أن العراقيين لم يعرفوا عنها مثل هذه الشراسة في مواجهة الاحتلال الأميركي للعراق، فقد وقعت عشائر تكريت وثيقة استسلام المدينة للأميركيين من دون قتال، بعد سقوط بغداد، شرط أن يدخلها الجنود الاميركيون وحدهم من دون أي عراقي غريب عن المدينة! في توصيف غريب هو الآخر لمعنى الغرباء!.
ربما وجد البعض تفسيراً لهذا يتمثل في أنهم يتحسبون من انتقام العراقيين المتضررين من حكم أبناء هذه المدينة، أو من أولئك الباحثين عن وتر ضائع لهم في أحياء هذه المدينة، ولعل هذا ما يفسر جانباً من موقف تكريت الراهن بكونها أقل المدن السنية مقاومة الاحتلال. ومثلما وجد الكثير من العراقيين ان الاحتلال، على مرارته، أرحم بالنسبة اليهم من صدام، فإن عدداً من التكارتة سيجدون، في اتجاه آخر، أن الاحتلال قد يشكل ضمانة لهم من انتقام العراقيين الذين يتوق الكثير منهم إلى إدراك ثأره من المدينة.
لا يمكن اختزال محافظة صلاح الدين بتكريت، بالتأكيد، لكننا نعرف ان النظام اختزل العراق كله بقرية صغيرة في جنوبها، وفي شخص واحد يتحدر منها، ومن هنا أهمية أن تتكئ هذه المدينة اليوم على ضفتي نهر دجلة، وترمي ببصرها أيضاً نحو الفرات، لتستعين على نفسها بما حولها وتمضي إلى صناديق الاقتراع من دون يقين للمرة الأولى، ومن هنا أيضاً أهمية أن يجري تفكيك القلعة المفترضة، وتعرية سياجها الهش، لنكتشف المدينة من داخلها، كونها تندرج في عراق لها فيه ما للمحافظات الأخرى، وليس لها العراق كله موصوفاً بها ومكتملاً من أجلها.
القلعة المهزومة
يمكن القول ان محافظة صلاح الدين هي واحدة من استحداثات نظام البعث في العراق، وها هي اليوم ميراث لا غنى عنه في العهد الجديد، حتى بدت، مثل أشياء كثيرة في العراق، عصية على التغيير، أو إعادة هيكلة أو بناء في مستوياتها كافة، فهي من المحافظات التي تم إنشاؤها إدارياً خلال حكم البعث، ولذلك ستبقى مدينة له مرتبطة به، ولعلها تصطدم اليوم بهذه الحقيقة وهي تراقب غروبها، أو بالأحرى عودتها إلى حجمها الطبيعي بعد انتهاء عهد البعث.
فقد جرى اقتطاع وحدات إدارية من بغداد والموصل وكركوك وضمها إلى محافظة صلاح الدين لتبدو بين المحافظات الأكبر مساحة والأكثر نفوساً، فهي أكثر نفوساً من محافظات كربلا والنجف وميسان وبابل والديوانية والمثنى، كل منها على حدة، ولا تضاهيها في النفوس من مدن الجنوب والفرات الأوسط سوى البصرة والناصرية، لكنها في واقع الأمر لا تملك مقومات قضاء من أقضية العراق الكبرى، إذا أعيد إلحاق الأقضية التي جرى ضمها إليها خلال العقود الماضية إلى حدودها الإدارية الأصلية.
فقبل أن تلحق بها قرى تركمانية وكردية شكل تعداد نفوسها أكثر من نصف سكان محافظة صلاح الدين، لم يكن يتجاوز عدد سكان تكريت حتى منتصف السبعينات سوى بضعة آلاف، إضافة إلى آلاف أخرى في القرى المجاورة لها شكلت طبقة اجتماعية ستكون لها هالة وهيبة مستمدتان من طبيعة السلطة التي تحكم البلاد ومعبرتان عن مستوى العلاقة مع الآخرين، وتتمثل هذه العلاقة أساساً في اللهجة التكريتية المعبأة بقوة الأوامر، والتي تحمل أقصى ما يمكن من نبرة القسوة في جميع مناحي الحياة، ولهذا سيبدو التكريتي محتلاً لبغداد وليس منتمياً إلى السلطة التي تحكمها، فهو يفرض لهجته كرمز للقوة، ولباسه وخصاله كذلك.
لذلك فإن عبارات مكتوبة على الجدران في مختلف مناطق بغداد، كانت تنتشر بشكل لافت فور دخول القوات الأميركية لبغداد، تلخص جانباً من المرارة التي عاشها سكان العاصمة على يد التكارتة. فعبارة من قبيل"ألف أميركي ولا تكريتي"تعقد مقارنة ما بين محتل داخلي ومحتل خارجي، لكنها ترجح الخارجي، على أمل ألا يبقى خمسة وثلاثين عاماً أخرى في العاصمة، كما فعل التكارتة.
لقد أوجدت تكريت شرخاً في مفهوم المواطنة والوطن لدى العراقي، حتى بدت لدى العديد من المتضررين من حكم هذه المدينة وكأنها لعنة تقف في وسط العراق، ورمحاً في ظهر المدن الأخرى وليس بيد صلاح الدين التي حملت اسمه وأخطأت عن قصد، ربما، اتجاهه إلى القدس فمضت بقسوة نحو بغداد.
وإذا كان ثمة من يتحدث عن مخاطر حرب أهلية في العراق، فليبحث بدقة عن أثر مسؤولين بعثيين تكارتة في تجذير تلك المخاطر وتأجيجها على مدى سنوات من حكم البعث. كانت بغداد لا تمثل لدى عدد كبير من التكارتة الذين زحفوا عليها خلال العقود الماضية وسكنوا أبرز المناطق على نهر دجلة، كصدامية الكرخ وشارع حيفا ومساكن مجمع القصور الرئاسية الذي يعرف اليوم بالمنطقة الخضراء، أكثر من مجرد مستوطنة أو ثكنة خدمة غادروها تحت القصف المركز، لهذا نرى الكثيرين منهم وقد انكفأوا بعد عودتهم الى قراهم، أو عبروا الحدود ليمتلكوا العقارات الفخمة والشركات في دول عربية مجاورة، بما جمعوه من سنوات الحصار! فيما انخرط بعض منهم في مجموعات"المقاومة"التي تضم خليطاً اجتماعياً متداخلاً في مساحات جغرافية لا تعبر في الغالب عن تطابق سوسيولوجي منظِم لطبيعة دورها في مواجهة الأميركيين.
بيد أن تكريت وهي تضم بغداد، مجازاً، أو تحتلها، استعارة، لم تفقد رمزيتها لدى السلطة، وأهميتها عندما تنفصم عرى هذا المجاز مع بغداد، أو مع المحافظات الأخرى. فبعد انتفاضة العام 1991 وبقاء بضع محافظات تحت سيطرة النظام بينها تكريت بالتأكيد، كان ثمة خطة أمنية يجري الإعداد لها كحلقة أخيرة في التشبث بالسلطة عندما تبدأ بالتفلت من قبضة صدام، فكانت خطة العاصمة البديلة، تتجه نحو جعل تكريت القلعة الأخيرة التي يجري من خلالها التحضير لمرحلة استعادة السلطة عندما تفقد بسقوط بغداد، ولعل مجمع القصور الرئاسية في تكريت، وشبكة الطرق السريعة، ومهابط الطائرات ومستودعات الذخيرة الضخمة، عند تخومها الشمالية حيث سلسلة حمرين وجبل مكحول، تلخص إحداثيات بسيطة من تلك الخطة الغامضة.
لكن القلعة اختزلت، هذه المرة، بحفرة في منطقة الدور قبض فيها على صدام، وهو ما يلخص أيضاً قصة مدينة نالت حظوة أكبر مما تستحقها، وعلى حساب كل مدن العراق الأخرى، وتجد اليوم صعوبة بالغة في التكيف مع استحقاقات حجمها الحقيقي، حجمها المتجرد من نعمة السلطة، ومن تضاريس ولمعان المستقبل الزاهر لها وحدها فوق الخرائط، ولهذا قد تجد تكريت في الانتخابات نفسها، نوعاً من تغيير الخريطة الداخلية للبناء الهرمي، والتوزيع الشرفي للعشائر أو الأفخاذ التي تقطنها، إذ لم تكن خريطة العشائر والأفخاذ التي تقطن هذه المدينة ونواحيها سوى كناية عن الانتماء الباطني الذي ينطوي على تناقضات داخلية تنام الفتنة خلف عباءتها، ذلك أن ألقاب المدن والنواحي التي ينتمي اليها المسؤولون في نظام صدام كانت نوعاً من الغطاء الذي يخفي حقيقة تلك التناقضات الداخلية، فبرزت ناحية الدور، مثلاً، والتي تبعد بضعة كيلومترات إلى الجنوب من تكريت في الطريق إلى سامراء، كواحدة من المدن الصغيرة التي تضخ شخصيات ضخمة، تلمع سريعاً في جسم المؤسسة الحاكمة وهيكل أجهزتها الأمنية. فيما ظلت ناحية العلم التي تقطنها أكثرية من تآلف عشيرة الجبور، تحمل نوعاً من الضغينة الداخلية ضد التكارتة على رغم إنها في علاقاتها الخارجية تبدو مستفيدة من امتياز انتسابها إلى تكريت.
خلاصة الأمر إن عشائر البو خطاب والبيجات والبوناصر وسواها كانت العالم الغامض للعراقيين متدثراً بعباءة التكريتي، وبنجوم ورتب عسكرية وأنواط شجاعة تمنح بلا عدد، وبلا زمن أيضاً.
ومن هذه العشائر، ومن ناحية العلم وناحية الصينية وناحية العوجة والدور وبيجي، تشكلت تكريت السلطة، واختزلت صلاح الدين الجديدة، حيث احتل أبناء هذه القرى أماكن بارزة في الدولة وفي الأجهزة الحساسة بخاصة قيادات الحرس الجمهوري وما كان يعرف بالحرس الخاص وقوات الطوارئ.
يقظة المدن النائمة... هل تستعيد سامراء ما اخذته منها تكريت؟
كان كل من لقبي التكريتي والدوري بمثابة أسماء حركية أو رديفة لمجموعة من منتسبي هذه العشائر، التي تملك مصائر الناس قبل كل شيء. والواقع أن لقب التكارتة يخص العشائر التي تقطن تكريت وما حولها شمالا، فيما لا تدخل ضمن هذا المصطلح العشائر التي تقطن على الجنوب من تكريت ومن بينها قرية العوجة مسقط رأس صدام، حيث عشيرة البو ناصر التي ينتمي إليها صدام حسين، وآل عبد الغفور الفخذ الأخص. بيد أن التنازع الداخلي بلغ العصب الأعمق، فأوغل في عظام الرقبة، ولم يقف عند حدود الفخذ، أو البطن، فكان قطع رأس حسين كامل وأشقائه ووالدهم ليلخص، لا مجرد صراع عائلي فحسب، بل منازلة نوعية بين وزيري دفاع سابقين أيضاً هما العم وابن أخيه! وهي أيضاً منازلة بين ضباط كبار في جهاز حماية القصر وهم أبناء العمومة والأخوة الأعداء في صراع بغداد.
لكن اللافت إن دوران عجلة الزمن وتبدلاته، أوصلت البعض من التكارتة بعد سقوط صدام إلى التبرؤ من انتمائه إلى المدينة، معلنين إن الكيلومترات العشرة، التي تفصل مدينتهم عن قرية العوجة، مسافة كافية لإثبات ان العوجة ليست تكريت وإن لقب التكريتي انتحله صدام ولم يستحقه!. بيد إن الأمر يستدعي هنا أن نذكر بأن تكريت كانت هي لقب الانتماء الأبرز إلى جانب لقب الدوري، تماماً كما هو الترتيب الحزبي في السلطة موزعاً بين"القائد صدام التكريتي" ونائبه عزت الدوري، بل ثمة من يذهبون اليوم إلى تفسير اسم العوجة نفسها بوصفها الاعوجاج الذي طال سيرة مدينة تكريت، وليس هو الاسم الذي يستمد من اعوجاج نهر دجلة عن تلك المنطقة فحسب.
ومع هذا فإننا نتحدث اليوم عن محافظة صلاح الدين، وثمة رغبة حقيقية، لدى كتلة اجتماعية واسعة في العراق، في أن تعيد انتخابات ما، أو إحصاء دقيق، صياغة المحافظة وفق حقيقتها الديموغرافية، التي تشير، من بين ما تشير إليه، إلى أن ثمة أكراداً وتركماناً عراقيين يشكلون نسبة ستبدو مفاجئة حقاً، وقد تجعلهم الأغلبية في محافظة صلاح الدين التي يقترب عدد سكانها اليوم من نحو مليون نسمة.
إن تعداد نفوس محافظة صلاح الدين اليوم، ومساحتها التي تبدو واسعة، لا يعبران عن حقيقة إن تكريت نفسها التي لا تصلح عادة أن تكون اكثر من مدينة لأبنائها، بل إن إلحاق الأقضية الأخرى من المحافظات المجاورة، بخاصة تلك التي تشهد استقراراً اجتماعياً أو قومياً، مثل طوزخورماتو التي تقطنها غالبية تركمانية واقتطعت من كركوك لتلحق بتكريت، يلخص الطبيعة التي تغذت فيها المدينة على ما حولها لتتحول من أرض جرداء، إلى مركز لحاضرة لا تخلو من تنوع!.
وفي زحفها نحو بغداد، كانت تكريت ابتلعت في طريقها من الوديان الجرداء والأرض الرعوية شبه المتموجة، نحو بساتين النخيل على نهر دجلة في مداخل بغداد الشمالية، المحيطة بمدينة سامراء، التي كانت مركز الناحية وتتبع ولاية بغداد، والتي استأثرت بكونها المدينة التي تضم رفات إمامين لدى الشيعة، وسرداباً لغيبة المعصوم الثاني عشر، والمنتظر"ليملأ الأرض عدلاً".
وتضم مدينة سامراء عدداً كبيراً من العوائل التي ليس من السهولة أن تنسى إدراك أوتارها لدى تكريت، ولعل مناسبة صعود صدام للسلطة كانت أكبر مناسبة دموية للسوامرة، الذين أعدم من بينهم عدد من القياديين ممن كانوا يعترضون صدام السلطة، لعل أبرزهم عبد الخالق السامرائي الذي اقتيد من السجن ليعدم بتهمة التآمر على الرئيس.
لكن سامراء لا يمكن أن تنسى بسهولة أيضاً أنها يجري النظر إليها اليوم من خلال كتلة اجتماعية ومناطقية ترتبط بالنظام السابق في وقت تستطيع أن تقدم فيه مرافعة ادعاء مهمة في سياق محاكمة صدام، ومع هذا لا يمكن لسامراء في كل الأحوال أن تستمر بهذا الوضع البرزخي: إما دريئة لتكريت أو ممراً سالكاً نحو بغداد.
ف"سر من رأى" أو"ساء من رأى"كما يجري تأويل اشتقاق اسمها، بتضاد دلالاته، تريد أن تتذكر إنها كانت في يوم من الأيام عاصمة لإمبراطورية تمتد حدودها من أوروبا إلى الصين، وذلك خلال خلافة المعتصم والمتوكل العباسيين، كما إنها لا تريد أن ينظر إليها من خلال ثلاثة عقود، فليس واقعها القومي المبرز هو من يمثلها، كما يبدو، لكن طابعها الإسلامي الذي ينظر كثيراً إلى التاريخ، سيكون مفصلاً مهماً في صياغتها الجديدة.
وعلى العموم فإن سامراء وتكريت ستكونان معاً هذه المرة، في انهما من المدن التي قد تواجه فيها قضية الانتخابات معضلة حقيقية ليست المقاطعة مكمنها الأساسي، بل حتى نتائجها التي قد تكون في بعض المناطق أخطر من مقاطعتها!.
عدد نفوس سامراء يتجاوز خمسة أضعاف نفوس تكريت كما هو إحصاء العام 1987، وأغلب الظن ان الانتخابات المقبلة إذا ما تم إجراؤها في محافظة صلاح الدين، ستشهد عودة سامراء الغائبة، مثلما شهدت مرحلة ما بعد صدام انكفاء تكريت على نفسها وبروز سامراء بوصفها عقبة صعبة ليس في الطريق بين العاصمة وعموم شمال البلاد، بل بين شعارات قومية تنحل تدريجاً وشعائر إسلامية تتسارع في الظهور.
الأرجح أن ثمة مدناً أخرى، في محافظة صلاح الدين، غير سامراء، كانت مغطاة تحت وقع اسم تكريت، ستنوب بأصواتها فوق تلك اللهجة التي طالما علت نبرتها على ما سواها.
كاتب وباحث عراقي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.