الأنبار أو الرمادي في ثنائيات تبدل أسماء المحافظاتالعراقية لا تتشكل في أذهان العراقيين الا كصورة للصحراء الغربية. يعزز هذا التصور أنها مترامية الأطراف، ولا يلوح أمام كثير من المواطنين ما قد يجدونه فيها للتواصل مع مدنها، زيارة أو سياحة، أو حتى عملاً، مما ضاعف من سمة الصحراء وأضفى عليها صفات نمطية جعلتها تطغى على ما فيها من مياه وبحيرات تمتاز بها عن بقية المدن. لكن الرمادي بلونها الأصفر على خريطة العراق، لم تبق يوماً أسيرة دلالة اللون الذي حملته، سواء باسمها أو بكتلتها على الخريطة، إلا بالقدرالذي يجعلها تنقلب فجأة عليهما معاً وترتمي في ألوان أخرى. سماها صدام المحافظة البيضاء عندما انتفضت ضد حكمه إحدى عشرة محافظة عراقية في ربيع العام 1991، فزج بعدد من ابناء الأنبار في مواجهة مواطنيهم. ومنها أطلق عيارات نارية في الهواء معلناً"انتصاره"في معركة بقائه في الحكم فيما كان العراق كله يعود إلى العصور الوسطى، إلى ما قبل العصر الصناعي كما أكد جيمس بيكر في تحذيره لطارق عزيز خلال اجتماع جنيف الشهير. وعندما عادت القوات الأميركية إلى العراق لإسقاط صدام في"حرية العراق"كانت"الرمادي" هي اللون الوقائي الذي ارتداه رجال الكوماندوس الأميركيون وهم يبدأون من الصحراء عملياتهم الخاصة التي سبقت بدء الهجوم الواسع في انطلاقه من الجنوب، الطريق الأنكلو سكسوني التقليدي لاحتلال العراق. لم تصطدم القوات الأميركية في طريقها نحو بغداد ب"عقدة رمادية"في الصحراء، إذ لم تلجأ الرمادي نفسها إلى تحصين نفسها لمواجهة خطر الاحتلال والاجتياح. ربما لهذا كانت الأنبار بكاملها، ممثلة بالوجهاء وشيوخ القبائل فيها، أول منطقة تعلن اتفاقاً مع الأميركيين يشبه الاستسلام من دون قتال بعد هول ما جرى في بغداد. ثمة من رأى أن ذلك الإتفاق هو التكتيك الأول لإعادة تنظيم مقاومة مسلحة ضد الأميركيين بعد سقوط النظام بصورة دراماتيكية، بيد أن ثمة من رأى أن الأنبار فعلت ذلك لانها كانت من المدن المحكومة من تكريت، وليس من شأنها أن تربط مصيرها بها في هذه اللحظة الحرجة على الأقل. هنا بدأت مرحلة لونية أخرى للرمادي. وعلى رغم أن أحداً لا يعرف على وجه الدقة متى دخلها الأردني"أبو مصعب الزرقاوي"، أو ما إذا كان قد دخلها فعلاً! إلا أنها عرفت بعد ذلك بأنها معقل"الزرقاويين"في دراما التحول اللوني ذي الدلالة للمدينة. لكن دماء الفلوجة القانية صبغت كل المحافظة تقريباً بلون آخر، ليس من السهل التخلص منه. فهو ذو طعم ورائحة لا تزال تتصاعد في العديد من أحيائها. انها اليوم المحافظة الحمراء التي تتوزع على ضفتي الفرات في الخرائط الأمنية التي يجري تعديلها من المنطقة الخضراء على شاطىء دجلة. وربما لهذا ترفض هذه المحافظة اليوم ان تستبدل دماء الآلاف من أبنائها بحبر أسود تخط فيها صوتها في الانتخابات. تضم الأنبار أو الرمادي، عدداً من القرى والمدن التي دارت على ثراها الكثير من الأحداث المهمة وتحديداً في العهد الإسلامي بأطواره الراشدية والأموية والعباسية. فهي في التوصيف التاريخي العام"سواد الكوفة"، بيد أنها في أهم فترات الصراع الأموي العباسي وانتقال مقاليد الحكم إلى العباسيين كانت القاعدة المتقدمة بفعل قربها من الشام وكونها صلة الوصل بين الكوفة وعاصمة الأمويين، حتى أن أول عاصمة اتخذها العباسيون بعد تولي أبو العباس السفاح الحكم كانت في الهاشمية في الانبار، وهي العاصمة الموقتة في فترة انتقال مركز الدولة العباسية من الكوفة إلى بغداد بعدما أنشأها المنصور. وعلى هذا الواقع التاريخي يمكن أن ننظر إلى دور مدن الأنبار وقراها في تاريخ العراق المعاصر وفي شكل أكثر تحديداً لدورها في حكم البعث خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. فعلى رغم أن تكريت لم تبرز إلا بوصفها واجهة لتحدر عائلة استأثرت بحكم العراق، إلا أن الأنبار، ومعها الموصل، تشكلان الرافدين الأساسيين للنخب المدنية والقيادات العسكرية التي قادت المؤسسات المهمة في الدولة العراقية. فقبائل الدليم والجبور والجميلات تقاسمت القيادات الرئيسية والثانوية لمؤسسات الأمن الداخلي والمخابرات، وإن بقيت الوجوه التكريتية تمثل الواجهة المبرزة لها. قد يبدو مثل هذا الأمر طبيعياً إذا ما وصف نظام صدام بكونه نظاماً عصبوياً، ينفذ مشروعاً طائفياً في هذا السياق. لكن واقع الحال يشير إلى غير ذلك تماماً، فالرمادي فقدت الكثير من أبنائها في محرقة الصراع الداخلي على السلطة من جهة وصراع السلطة مع عموم الشعب العراقي من جهة مقابلة، ابتداء من تولي صدام حسين السلطة عندما أقدم على إعدام عدد من قيادات البعث وكانوا في جلهم من السنة وكان نصيب الأنبار منها كبيراً تمثل في محمد عايش الذي اتهم بقيادة المجموعة إضافة إلى مرتضى الحديثي وشقيقه كردي الحديثي وخالد الكبيسي، وعدد آخر من قيادت البعث في ذلك الوقت، وصولاً إلى أهم محاولة انقلابية جرت عام 1995 وانتهت بإعدام اللواء الطيار الركن محمد مظلوم الدليمي والعشرات من كبار الضباط غالبيتهم من محافظة الأنبار. مدن الموصل وسامراء والرمادي على سبيل المثال تعزز قناعة مفادها أن صدام ديكتاتور غير معني بقيادة الحزب الذي استلم السلطة باسمه، ولا الطائفة التي يجري اتهامها اليوم به من دون تدقيق كثير في الوقائع. ولكي لا نبخس الرمادي حقها نذكر بأن قراها ومدنها التي تشبه الواحات في الصحراء، أفرزت رغم صغرها نخباً سياسية ودينية واجتماعية وقيادات عسكرية. فآلوس التي تشبه جزيرة في صحراء حيث تحيط بها مياه الفرات وتستدير عليها في مساحة صغيرة لا تصل إلى خمسة كيلومترات مربعة، أضحت نسباً معروفاً كمدينة، وليس كتحدر عشائري، للعديد من الشخصيات الفكرية والأدبية وعلماء الدين. وينطبق الحال أيضاً على هيت، فيما شكلت قرية كبيسة الحدودية طبقة مهمة من التجار الذين دانت لهم السيطرة على أسواق بغداد التجارية عبر مرحلتي تهجير اليهود في الخمسينات والأكراد الفيلية في السبعينات والثمانينات. لكن الفلوجة حين تحولت إلى عقدة كبرى للأميركيين، إنتزعت المجد كله، واختزلت الصحراء وألوان المدينة في اسمها الذي يعني الخصوبة التي تتقبل كل زرع كما في المعاجم. وهي أكبر المدن في الأنبار من حيث عدد النفوس، لكن قربها من بغداد حرمها من أن تغدو مركزاً للمحافظة بموجب التقسيم الإداري الذي يشترط في مركز المحافظة أن يبعد بمسافة لا تقل عن مئة كيلومتر عن الحدود الإدارية للعاصمة وهو ما لا ينطبق على الفلوجة التي تكاد نواحيها تختلط مع النواحي الإدارية التابعة لأمانة بغداد. قد يكون من المهم هنا الإشارة إلى إن للرصافي قصيدة عن الفلوجة يدين بها المجزرة التي ارتكبها البريطانيون ضد المدينة خلال ما عرف بحركة مايس أيار/مايو عام 1941، وراح ضحيتها أكثر من مئتين من أهل المدينة التي لم يكن عدد نفوسها يتجاوز آنذاك السبعة آلاف. المهم في هذا الجانب ما يشير إلى أن الفلوجة، والأنبار عموماً ذات توجه قومي اصطبغ خلال العقود الأخيرة بصبغة إسلامية وهو ما تجلى واضحاً في هوية المقاتلين الذين قاتلوا الاميركيين فيها. وفي ظل غياب التمثيل الإسلامي السني، والأحزاب القومية العربية بشكل واضح، يبدو الأمر أكبر من مجرد مشكلة أمنية تمنع الناخبين من التوجه إلى صناديق الاقتراع"الشفافة"التي جرى استيرادها من كندا. وقد يلخص استيراد معدات الاقتراع نموذجاً تقريبياً لطبيعة العملية الديمقراطية في العراق، فالصناديق والاستمارات وحواجز التصويت وأجهزة المكاتب الخاصة بالإقتراع شحنت إلى العراق جواً على دفعات، مثل أشياء عدة يجري شحنها من دون النظر كثيراً إلى الأرض، وبينها الديمقراطية التي يحلم بها الرئيس الأميركي في العراق. وفيما تشير التقديرات إلى أن الرمادي من المدن التي ستشهد نسبة إقبال قد تكون هي الأقل وقد لا تتجاوز العشرة في المئة ممن يحق لهم التصويت، فإن هذه النسبة قد تنحسر إلى فشل تام، مع عدم تسجيل أسماء الناخبين حتى الآن ووجود نية لدمج تسجيل أسماء الناخبين، والإدلاء بأصواتهم في يوم واحد. ومما يعزز من احتمال الفشل، او بالأحرى يجسده بوصفه واقعاً متشكلاً لدى المرشحين أنفسهم، انخفاض عدد القوائم المتنافسة في المدينة إلى أدنى نسبة بين عموم المحافظاتالعراقية، إذ لم يتجاوز الثلاث قوائم حتى الآن، فيما تعد الرمادي ثاني أكبر مدينة سنية في العراق بعد الموصل إذ يصل عدد سكانها بحسب التقديرات إلى حوالي 1.2 مليون نسمة. وهنا تبدو قائمة كل من غازي الياور وعدنان الباجه جي، بل وحتى قائمة اياد علاوي، الذي يشدد على نظرية القوة والأمن في برنامجه الإنتخابي فقط هي المتنافسة في الأنبار، إذا ما جرت الإنتخابات في الرمادي، بعد إنسحاب الحزب الإسلامي العراقي الذي يتمتع بوجود واضح في المحافظة. ولن يرسم التنافس بين القوائم المحدودة في الأنبارصورة ما يمكن ان تشهده المحافظة، فليس ثمة حملات تذكر في مدنها وقصباتها. بل إن حملات المسلحين الذين يسيطرون على غالبية المدن فيها هي الأوضح. وهم قد يجدون في الزخم الإعلامي الذي توفره الإنتخابات مناسبة نموذجية لإرسال إشارات شتى تعلن استمرار وجودهم، كأنهم بذلك يطورون حملتهم التي تفتقد الزخم الإعلامي المطلوب، على الطريق ذاته الذي أراده الآخرون نوعاً من الدعاية المضادة عن صورة المدينة. أكثر من ذلك قد تكون الرمادي خلال أيام الإنتخابات قاعدة لحملة عنف تصدر إلى مدن أخرى، فانحسار عدد القوائم المتنافسة في المدينة، وضآلة الإقبال على المشاركة، سيجعل من المسلحين يتطلعون لنقل دائرة معركتهم إلى محيط أوسع تبعاً لتزايد القوائم المتنافسة في المحافظات الأخرى. داخلياً لا تعرف غالبية العراقيين الكثير من أسماء المرشحين أو سيرهم، أما لمجهولية الأحزاب التي ينتمون لها بالنسبة للناخب، أو لسمة التخفي التي طبعت سير أسماء الكثيرين منهم بسبب المخاوف الأمنية، وهو ما أثر كثيراً في التواصل المعتاد في الحملات الانتخابية. وتعد المرأة سيدة التخفي والغياب في هذه الحملة، فعلى رغم إن قانون إدارة الدولة الذي تجري الإنتخابات بموجبه خصص للنساء حصة 20 في المئة من مجمل المقاعد في البرلمان وكذلك في مجالس المحافظات، فإن المعلن من أسماء النساء إلى الآن لا يكاد يشير إلا الى عدد ضئيل من المرشحات. ولعل طغيان لغة الأرقام في القوائم الانتخابية على أسماء الكيانات السياسية المتنافسة يضفي تجريداً إضافياً على العملية برمتها، ولنا أن نتصور بعد ذلك صورة هذه المشكلات مجتمعة عندما يتعلق الأمر بمدينة كالرمادي. هذا التجريد والضبابية التي لم يجر تثقيف جدي ومناسب لها على رغم الزخم الإعلامي ل"الديمقراطية"كفكرة، لا كممارسة تستدعي عملاً أكثر، دفع القائمين على الانتخابات إلى تجريب المزيد من وسائل الإيضاح لإنجاز العملية. وتعد"الورقة الوردية"، وهو اللون الذي اختير لاستمارة التصويت للجمعية الوطنية من أهم الأوراق الثلاثة أو الألوان الثلاثة التي وزعت عليها استمارة كل من مرشحي الجمعية الوطنية، ومجالس المحافظات اللون الأزق والمجلس الوطني الكردستاني التركواز. غير أن مهمة البرلمان المنتخب تتلخص في كتابة الدستور ولن يكون أمامه عملياً سوى تسعة أشهر، تعادل الفترة التي بقي فيها مجلس الحكم في الواجهة، ليكون بعدها حكومة دائمة. ولهذا لن تبدو البرامج المعلنة للحركات السياسية من قبيل تحقيق الحرية والعدالة والمساواة، وتحسين الخدمات، وضبط الأمن، سوى نوع من الخيبات اللاحقة للمواطنين البسطاء وسواد القاع الذين لا يكادون يعرفون التشريعات الأساسية التي تحدد عمل البرلمان المقبل. انه تمرين أميركي في التثقيف على أصول لعبة يعترف مبتكروها أنفسهم بأن الطريق لإنجازها لا تزال في بدايتها. كركوك ... المعضلة في صناديق شفافة ! إذا كانت الرمادي بمدنها التي تشبه الواحات في الصحراء وبتاريخها الذي يرتبط بالتحولات الأساسية في تعاقب أنظمة الحكم في العراق، تبدو غائبة أو مغيبة، بفعل عوامل عدة، عن تحديد دورها في الانتخابات الحالية، فإن النار الأزلية التي تتصاعد من أرض كركوك لا يمكن لأحد أن يحدد هويتها القومية أو مزاجها الإقتراعي بوضوح، تماماً كالمدينة التي تبدو اليوم وستظل حتى إلى ما بعد الانتخابات غير قابلة لتمثيلها لأغلبية صريحة وسط تداخل الشعارات التي جعلتها تغدو أبعد من مأوى بشري قلق، لتتحول إلى رمز سياسي وطني وقومي مكثف. فهي"قدس كردستان"أو"قلب كرستان"في الأدبيات الحزبية للحزبين الكرديين الرئيسيين، وهي محافظة"التأميم"في أدبيات القوميين العرب بوصفها ترمز إلى الإنجاز الأهم في الصراع النفطي مع الغرب، وهي مدينة"التآخي"في الشعار السياسي الذي يؤكد على وحدة العراق، وفوق هذا وذاك هي بالنسبة للتركمان المدينة التي تمثل أكبر تركز سكاني تاريخي لهم، وتحمل في اسمها الحالي كيمياء لأبجدية ليست عربية ولا كردية بل تركمانية، مع أن تسمية المدينة تبتعد كثيراً عن اسمها"كركوك"وعن فترة حكم دولة الخروف الأسود التركمانية قره قوينلو في القرن الخامس عشر، وتتقلب في مختبرات لغوية أخرى بينها"بابا كركر" و"شهرزور"و"كرخيني". لكن اللغة ليست حاسمة هنا، والحديث عن كركوك اليوم متداخل مع جغرافيا مختلفة تماماً. فعلى رغم أن مركز المدينة الحالي لا يزال يجسد الوجود التركماني بوضوح، فإن هذا التمركز بدا مهدداً بالتشتت خلال العقود الماضية بفعل تداخل الأقضية والنواحي ذات الديموغرافيا العربية والكردية المحيطة بالمدينة والزحف المقدس وغير المقدس نحوها، حتى بدت الملامح الواضحة لكركوك غير محسومة مطلقاً. وبالتأكيد فإن التوافقات التركمانية العربية الكردية والتحالفات الطائفية والدينية في المعركة الانتخابية في المدينة لن تحل العقدة الديموغرافية للمدينة لا سياسياً ولا ديمقراطياً، فالديموغرافيا هي"القدر والمصير"كما يؤكد أوغست كونت في فلسفته الاجتماعية، من هنا تبدو القوائم الإنتخابية ذات الصبغة القومية الخالصة سواء كانت كردية أم تركمانية أم عربية كمن يحاول أن يمزج بين اليوتوبيا الأيديولوجية وما قد يفرزه الراهن من ظواهر بشرية في المدينة. إنها المعركة الانتخابية الحقيقية المرتقبة في العراق، وهي اختبار لقدرة الصناديق المصنعة خصيصاً لانتخابات"نزيهة"على فرز نتائج تلائم التقديرات المتنازعة في أدبيات كل من الأطراف الثلاثة، بخاصة ذلك المتعلق بالتعداد السكاني لكل قومية في المدينة. والمخاوف التي يشعر بها الجميع في هذه المحافظة النائمة على جغرافيا من نار، لا تتعلق بمبدأ الانتخابات ذاتها، بل بنتائجها، فكركوك ليس فيها الكثير ممن سيقاطعون الانتخابات كما هو الحال في الموصل أو الأنبار أو ديالى، وحتى عرب الحويجة الذين قد لا يؤيد أغلبهم إجراء الإنتخابات، سيجدون أنفسهم إزاء معركة من نوع آخر في كركوك، على الأقل لإثبات وجودهم قبل أن يثبتوا"عروبة المحافظة". وهي مكان الصراع الأبرز للأكراد في"قدسهم"وحسم"حكاية التعريب والتكريد"، فمن الواضح إن الحزبين الكردييين الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود البارازني والاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة جلال الطالباني لم يتوحدا في قائمة إنتخابية واحدة إلا من أجل"قدس كردستان"، وهما اللذان ظلا طيلة الثلاثة عشر عاماً الماضية بحكومتين وعلمين وبرلمانين، بل خاضا أشرس المعارك من أجل السيطرة على المنافذ الحدودية وطريق النفط المصدر عبر تركيا، مما دفع الذاكرة الشعبية الكردية إلى إطلاق اسم"أم الجمارك"على المعارك التي دارت بين الطرفين، قبل أن يجتاح الجيش العراقي عاصمة الإقليم أربيل أواخر آب اغسطس عام 1996، على رغم أن المنطقة عرفت آنذاك ب"الجيب الآمن"الذي وفرته الولاياتالمتحدة للأكراد. وعلى النقيض من الأكراد الذين جمعتهم قائمة قوية، وتجمعهم طائفة رئيسية في المناطق الكردية، في كون غالبيتهم الساحقة من السنة، فإن التركمان يتوزعون قومياً في قائمتين، هما قائمة الحركة القومية التركمانية، وجبهة تركمان العراق، وطائفياً ما بين شيعة وسنة، إضافة إلى توزع حركات تركمانية عدة في تنظيمات حزبية تتبع تيارات إسلامية كحزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق. كما إن إلحاق النظام السابق لوحدات إدارية كبيرة تسكنها أكثرية تركمانية بمحافظتي صلاح الدين وديالى، سيشكل واقعاً ليس في صالح مطالب بعض الأحزاب التركمانية بإنشاء فيدرالية قومية في كركوك. بيد أن مقاعد التركمان قد تبدو شبه محسومة من حيث عدد المقاعد في البرلمان المقبل، إذ قد تصل إلى خمسة عشر مقعداً، وهي نسبة لن تغري أياً من الأحزاب الرئيسية على تشكيل غالبية عبر تحالف ثنائي معها في البرلمان المقبل، فيما ستتصارع تلك الأحزاب من أجل التحالف مع الأكراد، بخاصة قوائم علاوي والباجه جي والياور، إذ من الواضح أن التوجه العام للعملية الإنتخابية لن يفرز غالبية واضحة المعالم، بل أن ثمة تحالفات وتوافقات لاحقة - لن تكون بمنأى عن التأثير الأميركي - هي التي قد تحدد الكثير من المواقع، بخاصة في موقع رئاسة الجهورية والحكومة. ولعل هذه القضية هي محور تفكير الكثير من الأطراف التي لا تشغلها الغالبية البرلمانية التي تبدو صعبة المنال في هذا الزخم والعدد الهائل من اللوائح المتنافسة، لكنها تسعى إلى تحقيق تكتلات لاحقة تمكنها من الظفر بمناصب مهمة وفق تقسيمات ومحاصصات ستكون الترويكا الطائفية القومية إحدى سماتها التقليدية في تلك المناصب، وسيجد التركمان أنفسهم مرة أخرى بعيدين عن الترويكا الرئيسية. فقائمة عدنان الباجه جي التي تعد قائمة علمانية ذات سمة ليبرالية، ولا يبدو أنها نجحت في تشكيل دائرة تحالف عشائرية أو دينية، نجحت من جانب آخر في تأليف"قائمة علمانية نموذجية"هي مزيج من التكنوقراط الذين يشغلون حقائب وزارية أو مناصب وكلاء لعدد من الوزارات في الحكومة الحالية، وكذلك من الشخصيات التي تنتمي إلى مناطق معارضة للحكومة الحالية كتكريت والفلوجة والموصل. ومع هذا تكاد قائمة الباجه جي، بشعارها الانتخابي"عراق ديمقراطي موحد"واختيار ملوية سامراء رمزاً لها بما تحمله من دلالة، جامعة لأطياف وظلال طائفية وتاريخية وحضارية، تقترب من قائمة علاوي في كونها تستمد أهميتها من الشخص وليس من القائمة. فالباجه جي الذي كان حتى اللحظات الأخيرة مرشحاً لرئاسة الجمهورية، قبل تسمية الياور رئيساً، يدرك تماماً ان غالبية أصوات الناخبين لن تكون حاسمة في تحديد اسم الرئيس المقبل للبلاد، بل ما يحسم ذلك هو مكان آخر غير الصناديق الشفافة : كواليس المداولات الإقليمية والدولية، والتوافقات السياسية في الجمعية الوطنية المقبلة. وفي العودة للمخاوف المتعلقة بانتخابات كركوك سنجد أن تعداد سكان المحافظة الذي لا يكاد يبلغ المليون نسمة لا يختزل في واقع الحال المعضلة، فثمة ملايين أخرى من عرب وأكراد وتركمان وآشوريين وكلدان، يتعللون بالجغرافيا والتاريخ وبسجلات عثمانية وبريطانية وعراقية لتأكيد جذورهم القومية فيها، ولن يوفر أحد من هؤلاء ما بحوزته وبمستطاعه لإقناع الآخرين بأن حكايته القديمة عن المدينة هي الأوثق، وإن حكايات الآخرين محض باطل وقبض ريح، بيد أن لا أحد أيضاً يستطيع أن ينسى حكايته بهذه السهولة. وإذا كانت قضية هبات الأراضي التي وزعت في العهد السابق لتغيير ديمغرافيا المدينة، وبيع القومية في السجلات العقارية، من المورثات التي فاقمت من معضلة كركوك، فإن ردود الأفعال المضادة التي أعقبت سقوط النظام اتسمت بتقليد التراث ذاته في معالجة هذه المعضلة. وفي كل الأحوال فإن لكركوك بورصة أخرى، لا يمكن لسوق بغداد وحدها ان تتحكم بها، وليس يوم الاقتراع الموعود إلا افتتاحا لها وسط مخاطر انهيارات لا تحصى. كاتب وباحث عراقي.