يقبل الاتحاد الأوروبي وشركاؤه العرب على تحديات بارزة في السنوات المقبلة، تتمثل في قدرة الطرفين على صوغ تقدم في مفهوم الشراكة الأورو - متوسطية في ظل التطورات السياسية الدراماتيكية التي تعيشها المنطقة منذ بداية هذا القرن. فالقرب الجغرافي بين اوروبا والشرق الأوسط لا يوازيه التقارب السياسي والثقافي والاجتماعي الذي يفترض ان تختصره المسافات، على رغم ان الشراكة التي أطلقتها"عملية برشلونة"حققت بعض التقدم الذي ينقصه الكثير في عالم يزداد انتقال مشكلات المناطق المتخلفة منه الى المناطق المتقدمة اكثر من السابق، وفي شكل غير متوازن مع انتقال وسائل التقدم الى المناطق الأولى. في 11 آذار مارس 2003 ابتدع الأوروبيون"سياسة الجوار"الجديدة، كرديف للشراكة الأورو - متوسطية التي يعترض استكمالها كمٌّ من المشكلات التي تعيق تعميق هذه الشراكة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على رغم ان الاتحاد الأوروبي انفق 10 بلايين يورو مساعدات منذ عام 1995 في علاقته مع شركائه الاثني عشر في المنطقة. وإذا كان الشرق الأوسط مختبر سياسات جديدة حول الانتقال الى الديموقراطية، او تعزيزها في دوله بسبب تداعيات احداث 11 أيلول سبتمبر 2001، فإن"سياسة الجوار"هي واحدة من الاختبارات التي يمر فيها، اضافة الى مبادرة وزارة الخارجية الأميركية"للشراكة الشرق اوسطية"، التي اطلقها وزير الخارجية الأميركي المستقيل كولن باول استناداً الى"وعد بوش"بنقل الديموقراطية الى المنطقة، وإلى"مشروع الشرق الأوسط الكبير"الذي طرحته واشنطن وتبنته مجموعة الدول الثماني في حزيران يونيو الماضي ثم دول حلف شمال الأطلسي. وإذ تحرص الديبلوماسية الأوروبية على إبعاد صفة الفرض عن الإصلاحات التي تتوخاها في دول الشرق الأوسط لا تريد الإيحاء بأنها بديل ل"الشرق الأوسط الكبير"الذي تحفظت عنه عندما طرحته واشنطن ثم عادت فوافقت عليه بعد تعديله، بل باتت تعتبر"سياسة الجوار"مكملة له، خصوصاً بعدما وضعت ألمانيا وفرنسا مبادرة مشتركة تحت عنوان"شراكة استراتيجية لمستقبل مشترك مع الشرق الأوسط". ولعل مراهنة الأوروبيين على نجاح مبادرتهم، قياساً الى الآخرين تقوم على انهم الجار الأبدي، على رغم ان الولاياتالمتحدة باتت جاراً قريباً جداً للعرب بعد احتلالها العراق، لكنها جار موقت مهما طال وجودها... إلا ان التحدي يقع على الدول العربية المتوسطية المعنية بجيرة اوروبا هذه: كيف تستفيد من العرض الذي تقدمه إليها القوة الأوروبية الصاعدة في رسم مستقبل العلاقات الدولية القائمة الآن على أحادية القطب الدولي، والتي هي احد الأسباب الرئيسة لهزال تأثيرهم في الساحة الدولية في ظل التماهي الأميركي - الإسرائيلي؟ وهل يمكن للدول العربية المعنية بسياسة الجوار، ان تفيد منها بحيث تكون شريكاً فعلياً لأوروبا المتزايدة التوسع ولا تترك الساحة للشريك الخصم اسرائيل باعتبارها واحدة من الدول الاثنتي عشرة المتوسطية الشريكة للاتحاد الأوروبي؟ حين عقد المستشار السياسي والاقتصادي في سفارة الاتحاد الأوروبي في بيروت فرنشيسكو اكوستا ندوته الصحافية مع الإعلام اللبناني عن سياسة الجوار، لم يجد بداً من التذكير بمدى قرب اوروبا من العالم العربي. فأشار الى اسبانيا والمغرب في الخريطة التي ظهرت امامه على الشاشة قائلاً:"أقرب نقطة هي 14 كلم". شرح اكوستا الإطار السياسي والوقائع التي احاطت بطرح الشراكة الأورو - متوسطية، بدءاً بسقوط جدار برلين عام 1989 مروراً بعقد مؤتمر مدريد للسلام العام 1991 ثم التوصل الى اتفاقات اوسلو عام 1993، وصولاً الى توسيع الاتحاد الأوروبي في العام نفسه. فجاءت صيغة برشلونة للشراكة بهدف تحويل الشرق الأوسط منطقة سلام واستقرار وتطوير التعاون الإقليمي... وفيما وقعت دول عربية اتفاق الشراكة مع الاتحاد وبدأ تطبيقه، وقعت دول اخرى وما زال التنفيذ متأخراً... فقد حدد اكوستا معوقات ترجمة اتفاقات الشراكة في مشكلة رئيسة: اللاتوازن بين مؤسسات الاتحاد والدول المعنية. سلبيات التجربة واعتبر اكوستا ان درس التجربة بعد سنوات افضى الى سلبيات منها استمرار صعوبة الحياة في معظم الدول الشريكة، وانعدام الاستقرار والتوازن، وتدفق المهاجرين بالآلاف الى اوروبا وغياب التسويات السياسية الداخلية في هذه الدول وعدم تحسن الديموقراطية وحقوق الإنسان فيها، في مقابل ايجابيات اهمها"اننا بتنا نعرف بعضنا اكثر...". وقال اكوستا ان احد الأجوبة على هذه الصعوبات كان"سياسة الجوار"التي تهدف الى تقاسم منافع توسع الاتحاد وعدم خلق انقسامات جديدة مع اوروبا، عبر التزام مشترك بقيم ومصالح متقاطعة. وأضاف:"المطلوب تقارب مع منطقتكم وليس ان ترتفع هذه الى مستوى اوروبا. وما نطرحه هو خيار سياسي لأي بلد من الشركاء الاثني عشر، عبر قيم مشتركة تتعلق بالديموقراطية وحقوق الإنسان واقتصاد السوق والتنمية المستدامة وحرية تنقل الأشخاص والبضائع وعبر بناء مصالح مشتركة والتصدي لتحديات مشتركة مثل مكافحة الإرهاب وانتشار اسلحة الدمار الشامل. وتشير بطاقة التعريف للسياسة الجديدة الى انها رد على التغيير الذي طرأ على حدود الاتحاد الخارجية بعد التوسيع لرسم حلقة من الجيران في الجنوب الشركاء المتوسطيون، وفي الشرق اوكرانيا ومولدوفيا، الذين يتقاسمون القيم والأهداف الأساسية الخاصة بالاتحاد الأوروبي. ويشكل هذا العرض خياراً استراتيجياً سياسياً اساسياً بالنسبة الى جيران الاتحاد، فيحتم على كل منهم ان يلتزم بعلاقة مع الاتحاد الأوروبي تتخطى حدود التعاون، لتصل الى مستوى من الاندماج السياسي والاقتصادي الذي يرتكز على المشاركة في السوق الداخلية الأوروبية وفي سياسات الاتحاد الأوروبي. وترتكز هذه العلاقة المميزة على التزام الطرفين القيم المشتركة، لا سيما تلك المتعلقة بدولة القانون والحكم السليم واحترام حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب وانتشار اسلحة الدمار الشامل ومبادئ اقتصاد السوق والتنمية المستدامة. ولا تحل السياسة الأوروبية للجوار محل الشراكة الأوروبية - المتوسطية. فتبقى هذه الأخيرة واتفاقات الشراكة التي تلحظها الأدوات الرئيسة التي يرتكز عليها الاتحاد في علاقاته مع جيرانه في الجنوب. وليست سياسة الجوار"وصفة جاهزة"بل هي a la carte ترتكز على مبدأي:"الملكية المشتركة"التي تعني ان التطبيق يجرى على نحو تضامني مع كل من البلدان المعنية. و"التمييز"الذي يأخذ في الاعتبار الوضع الخاص بكل بلد. وتحدد اولويات التعاون بالتشاور مع الدول الشريكة، فيؤدي تطبيقها الى تقريب هذه الدول من مكتسبات الاتحاد الأوروبي وسياساته. وتشكل خطط العمل مرجعاً لبرمجة المساعدة لمصلحة الدول المعنية، وستكتمل هذه المساعدة بدعم في اطار الأداة الأوروبية للحوار الملحوظة للفترة 2007- 2013 . ويجرى تحديد مبالغ هذه المساعدة ودوريتها وفقاً للالتزامات الخاصة بكل بلد وللتقدم الذي يحرزه في تنفيذ خطط العمل. اما حقل تطبيق خطط العمل فيغطي المجالات الآتية: - تعزيز الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، حسن إدارة الشؤون العامة ودولة القانون. - سياسات التنمية الاقتصادية والاجتماعية: الولوج الى سوق الاتحاد الأوروبي الداخلية، المشاركة في بعض برامج الاتحاد التربية، البحوث، الخ، تحسين روابط الوصل الخارجي مع الاتحاد الطاقة، النقل، البيئة، مجتمع المعلومات. - التجارة: مزيد من الانفتاح في الأسواق بالتوافق مع مبادئ منظمة التجارة العالمية وتقارب مع معايير الاتحاد. - القضاء والشؤون الداخلية: ادارة الحدود، الهجرة، مكافحة الإرهاب والإتجار بالأشخاص والمخدرات والسلاح والجريمة المنظمة والجرائم الاقتصادية. - تعاون اجتماعي وثقافي. وإذ يرتب التوصل الى خطط عمل بين الاتحاد وكل دولة التزاماً طويل الأمد، فإن مجلس الوزراء الأوروبي وافق منتصف الشهر الماضي على خطط العمل المشتركة لسبع دول هي: الأردن، المغرب، تونس، السلطة الفلسطينية، اسرائيل، مولدوفيا وأوكرانيا، ويفترض ان يدخل لبنان في الموجة الثانية من خطط العمل مع مصر. وعلى الحكومة اللبنانية ان تتخذ قراراً في جلسة مجلس الوزراء في 27 الجاري بتشكيل فريق العمل الوزاري الذي يفترض ان يضع خطة العمل لاتفاق سياسة الجوار مع فريق عمل الاتحاد بعدما شكِّل فريقٌ من الموظفين في عهد الحكومة السابقة بمبادرات وزارية، على ان يتم التوافق على هذه الخطة نهاية السنة الجارية. وتراوح مدة تنفيذ الخطة المشتركة بين ثلاث وخمس سنوات. وتبقى للمرحلة الثالثة دولتان عربيتان هما الجزائر التي يجرى التحضير معها لفريق عمل يضع خطة العمل، وسورية التي لم تبدأ معها بعد إجراءات وضع خطة العمل نظراً الى ان اتفاق الشراكة بينها وبين الاتحاد لم يوقع بعد، ووضع خطة العمل لا يمكن ان يتم من دون وجود اتفاق شراكة اساساً. عرض مصلحي يقول سفير الاتحاد الأوروبي في بيروت باتريك رينو ان اتفاقات"سياسة الجوار"عرض مصلحي وليست مجرد عرض سخي."فمصلحتنا تقتضي ان يكون جيراننا مستقرين ومزدهرين. وهو ليس مجرد نشاط اقتصادي، بل سياسي: هل تريدون شراكتنا؟ ففي النهاية تحصلون على منافع عضوية الاتحاد في المجالات التي يتفق عليها من دون ان تكونوا اعضاء في مؤسساته. مثلاً، إن وزراء النقل في الاتحاد الأوروبي، ووزراء النقل من الجيران سيكونون إلى الطاولة نفسها حينما يجتمعون للبحث في خطط هذا الميدان، وهذا يعني الإفادة من التمويل وبالتالي من موازنة الاتحاد في هذا المجال". ويشير رينو الى ان المساعدة المالية للدول الشريكة مرتبطة بالتوصل الى التوافق على"خطة العمل"فإذا تأخر التوافق مع بيروت عليها هذه السنة، لن يحصل لبنان على محفظة تمويلية للعام 2006 في الميادين التي تعتبر اولوية بالنسبة إليه. ويقول رينو ان بعثة الاتحاد الأوروبي في كل بلد معني تلتقي مع كافة الأفرقاء السياسيين"وسنلتقي في لبنان مع الجميع ونشرح لهم فوائد الاتفاق على خطة العمل، لإشراك اطياف المجتمع في قرار سياسة الجوار، ولأن على من هم في المعارضة، او خارج الحكم ان يكونوا متهيئين لاتخاذ الموقف منها في حال عرضت عليهم". ويوضح رينو وأكوستا ان خطة العمل المتوافق عليها تخضع كل مدة لمراجعة حول ما نفذ منها وما لم ينفذ، والبعد المتعلق بحقوق الإنسان اساسي في تقويم التنفيذ"من دون ان يعني اننا ننسخ المبادئ الأوروبية في كل بلد". اما عن كيفية ربط المساعدة المالية بتنفيذ بنود خطة العمل، فيقول اكوستا ان آلية ذلك تتحدد اثناء المراجعة. ويعطي رينو مثالاً بالقول:"اذا كانت خطة العمل بالنسبة الى لبنان لم تتضمن شيئاً عن الحكم الصالح، فالأرجح ان لا مساعدة في شأن البيئة. فالمقصود ليس ان تكون لنا سياسة مساعدة، بل سياسة تقاطع مصالح وتقارب. وتجربتنا تفيد بأنه يصعب التطرق الى موضوع اقتصادي من دون التطرق الى الحكم الصالح والسليم. وفي لبنان شاهدنا كيف ان بعض الوزراء اضطر الى إقامة ادارة موازية لإدارة وزارته كي ينتج فاعلية في مشاريع تنموية". وماذا اذا لم يتجاوب الجيران؟ يقول رينو:"لا حل سحرياً. لذلك فإننا نأمل في ان تحمل هذه التجربة على تحرك سياسي في المجتمع كله. وفي معظم الأحيان نحن امام انظمة جمهوريات ملكية ولا نرى ان استخدام قوة الفرض هو الوسيلة الفضلى. ولذلك نحن نطرح دوافع ونطرح خيار استراتيجية سياسية يعطي مؤشراً الى إمكان ديمومة النظام عبر اكتسابه صدقية الالتزام بمبادئ يشاطرنا اياها، تؤدي الى نشوء آلية تعاون اقتصادي مالي. وعلى المعنيين التفكير بالأمر، إذا كان مصدر المال من المجتمع الدولي مهدد بسبب فقدان الصدقية، في وقت نحن في مرحلة تحولات اقتصادية هائلة...