على خلاف المسافر الأول الى القمر وزائره الإنسي البكر، وهو اقتصر كلامه على إعجاب باهت ورمادي، يزعم بعض علماء الأرض الأميركيين اليوم، غداة الزلزلة البحرية في المحيط الهندي، ان الزلزلة العظيمة ادت الى"ترنح الأرض على محورها"، وإلى تسارع دورانها على المحور هذا. ف"أكل"الدوران المتسارع جزءاً من كسور الوقت الذي تدومه دورة الأرض على نفسها وهي تستقبل الشمس بشطر منها بينما يغرق الشطر الآخر في عتمة الظل والليل. فما اصاب قلب المحيط الهندي وقاعة العميق، قبالة سومطرة الأندونيسية، وطوّح غرباً وشمالاً ليبلغ سواحل الصومال، في القرن الافريقي، من طريق بحر عمان وشاطئ اليمن، اصاب الأرض اليابسة والمعمورة كلها. ولم تقف الإصابة عن نواة الكوكب الكونية، اي عن مبنى عملها، ودورانها على محورها وعلاقتها بمجرتها والكواكب الأخرى والوقت والمكان والنور والعتمة. ومثل هذه الحال تتطاول آثارها وأصداؤها الى اهل الكوكب، وهم على هذا الوجه من التكوكب والأرضية، او سكنى الأرض. وهي تتعدى العولمة التي تنسب الى عمل البشر، وإلى جزء اقتصادي واتصالي من عملهم يتصدره ويتقدمه. ولكن ما يكوكب اهل الأرض اولاً، وينبههم الى ارضيتهم المشتركة والواحدة، إنما هو ما يصيب امثالهم من مصائب وكوارث. وهذه لا تجرف الحرث والزرع والضرع وحدها، وهي من نتاج البشر، وإنما تجرف"حياة البشر"معها، على قول سياسي وهذه لا دواء لخسارتها، ولا عوض لهذه الخسارة او عنها. فنحن، اهل الأرض، ارضيون، ربما على نحو النبات والحيوان والماء والرمل والضوء، من طريق البشرية ومصابها اولاً، ثم من طريق"الطبيعة"التي ننزل بين اظهرها على مقادير متباينة من الرفق والثقل. والمصاب هو مصاب البشرية وليس مصاب الطبيعة. فهي تتولى"أمرها"، تدميراً وإنشاء وتعويضاً وتبديداً، اي ما يحمله البشر على هذه الوجوه ويقسرونها عليها وهي،"في نفسها"، لااسم لها ولا معنى نعرفهما، او ليس في مقدورنا معرفتهما، ولا نزعم لأنفسنا القدرة على معرفتهما، منذ نيف وقرنين على التقليل. فنحن بإزاء المد المزلزل، ولو اصاب جزءاً من البشرية، واحد اي بشرية مجتمعة. ويجمعنا المصاب لأن الواقعة الطبيعية تهددت اجزاء منا، وتتهدد آخرين. لكن تضامننا، بعضنا مع بعض، لا تبعث عليه الطبيعة وكارثتها إلا جراء انتشار الخبر و"العلم"في ارجاء الكوكب من أدناه الى أقصاه، لا يحجز بينهما وبين البشر وفهمهم حاجز لغة او ثقافة، وتأويل. فالإنسانية انسانية واحدة، وليست بشرية نوعية او حية "حيوانية"من الحيوان او الحياة، من طريق يدها، اي صنعها وعلمها وتقانتها ولغاتها. فلا سبيل لنا، على رغم كوكبيتنا وأرضيتنا، وهي على مراتب ومقادير متباينة -، الى وحدتنا الجامعة والعامة والكونية إلا من باب انسانيتنا الجزئية وتفرقنا شعوباً وعشائر وأقواماً ومجتمعات. فلما وقع المصاب، وقّت صوره ومعانيه وآلامه ابواب البشر ولم تستثن باباً، لم يقع له فهم واحد او مشترك. وانقضى اسبوع تام على الزلزلة المدمرة الأولى قبل ان ينتبه رئيس تحرير صحيفة كويتية يومية،"القبس"، الى"تقصير"قومه وأهله. وندد وليد عبداللطيف النصف، رئيس تحرير الصحيفة، ب"مبررات التقصير". وقال: إننا اغنياء وثروتنا"تضاعفت"مع زيادة اسعار البترول اضعافاً، والمتضررون"ينتمون الى البلدان التي بنى ابناؤها الكويت ورعوا اطفالها". وذهب فهد عبدالرحمن الناصر، على موقع الصحيفة، الى ان المسؤولية عن"تقديم المساعدة على دول الخليج اكبر من الدول الغربية، والدور الآن على الأسر والأهالي الذين يوظفون تلك العمالة المتضررة"، وعليهم اداء"التسهيلات للفئات المتضررة مثل الاتصالات التلفونية للاطمئنان أو تقديم تذاكر السفر ... وأن تقوم مؤسسة الخطوط الجوية الكويتية بالإعلان عن مصير التذاكر المفقودة... ومصير الصناديق المشحونة...". واستفتى آخرون اهل الفتوى من"علمائهم"في جواز إغاثة الضحايا من غير ملتهم. ورد بعض المفتين بضرورة الإغاثة، وحملوها على نظر الإسلام الى الإنسانية"جسماً واحداً"، ووجوب شركة البشر في"الدفاع عن هذا الجسم وحمايته من كل ما يمكن ان يتعرض له من كوارث على قول احد المفتين. ويذهب بعض هؤلاء، بعد إثبات هذا الأصل وقبل ان يلتقطوا انفاسهم الى ان الواجب هذا يترتب عليه التداعي جميعاً، وعلى مرتبة احدة من الضرورة والوجوب العيني،"لمواجهة الكوارث السياسية التي تصنها دوائر الاستكبار العالمي والتي تشكل عبئاً ثقيلاً يتجاوز كل الأعباء الطبيعية للكوارث...". وسبق لبعض اهل الفتوى في إيران"الإسلامية"الخمينية ان تداولوا في شأن قبولهم معونة"المستكبرين"، اي الأميركيين، غداة كارثة ايران في مدينة بام، وأودت الكارثة بنحو اربعين ألف ضحية والمفتي العتيد صادق في مقارنته ضحايا الكوارث الطبيعية بضحايا"الكوارث السياسية": فزلزال الأرض ببام لم يود"إلا"بواحد من خمسة عشر من عدد ضحايا الحرب الإيرانية - العراقية التي رعى صاحبه دوامها ستة اعوام تامة بعد فرصة انهائها في 1982. وهم انتهوا الى قبول متحفظ، واستعجلوا إجلاء من حملوا المعونة، وكف ملاحظتهم على معالجة المصاب والمصابين. ولعل المسألة نفسها تستوقف اليوم اهل الفتوى والرأي في بعض المناطق المنكوبة مثل اتشيه. فهل يقدمون"مقاومة"الكارثة الطبيعية، وأعراضها قد تطول عقوداً، على مقاومة"الكارثة السياسية"، وعرضها البارز إسهام طواقم عسكرية ومدنية اميركية في اعمال إغاثة لا طاقة لغير هذه الطواقم، عدداً وكفاية وموارد، بها؟ فإذا قدم المفتون احتياجات البشر المنكوبين على احتياجات السياسة المناهضة"للاستكبار"، وأقروا على خلاف مفتينا المحلي والبلدي على رغم طموحه الكوني وأصحابه الإيرانيين الخمينيين، بأنها ليست واحدة وقد"ينقض"بعضها بعضاً ويدفعه، إذا وقع ذلك ترتب عليه إزاحة السياسة عن"موقع القيادة"، على ما كان يرطن الشيوعيون الصينيون الثقافيون وأشباههم من الخمير الحمر، اسلاف راديكاليين من مذاهب كثيرة. وترتب عليه تقديم الرابطة الإنسانية، بإطلاق، على روابط القبائل وأجسامها. ولا تلمّ مسألة الإسهام في الإغاثة بمسألة اخرى تتصل بها وتفوقها خطراً ومكانة، هي مسألة سبل الإسهام ووسائله. فالتبرع بالمال، وهو ما قصّر فيه بعض اصحابه الأثرياء قد لا يكون شيئاً قياساً على وجوه اخرى من"الإنقاذ"مثل الوصول الى المنكوبين، ونقلهم الى ملاجئ آمنة وطبابتهم وإعادتهم الى مواطنهم، وتأهيل هذه المواطن، وحمايتها بواسطة اجهزة إنذار مبكر. والإسهام في هذه الأمور بعيد من متناول اهل الفتوى ومجتمعاتهم ودولهم. وبُعدها وجه من وجوه عزلة المجتمعات والدول هذه، وانكفائها على نفسها وسياساتها و"ثقافتها"الأهلية والبلدية. فقصورها العلمي والتقني والصناعي والاتصالي والطبي مرآة لقصورها الكوني والأرضي والكوكبي، ولضعف سهمها ودورها في التكوكب والتعولم، وفي الاضطلاع بتبعاتهما ومسؤولياتهما مثلاً في صورة كارثة طبيعية ام في صورة قضية اجتماعية او انسانية كبيرة. فالمجتمعات والدول هذه، على وجهها الغالب، ليست من هذا العالم، على قول الشاعر. وهلي ليست منه لأن افقها لا يتطاول الى ما وراء"الكارثة السياسية"التي تلح على نخبها وأهل"فتواها"، وتحملها على انهيار سلطان النخب والأهل هؤلاء. كاتب لبناني.