لم يعد مقبولاً على مشارف الألفية الثالثة أن يقال إن سقوط عشرات الآلاف من البشر صحايا زلزال، كما حدث في تركيا في منتصف آب أغسطس الجاري، هو أمر لم يكن منه مفر، ويتعين قبوله كقضاء وقدر، وأن نغفل ما يتيحه العلم والتكنولوجيا من وسائل في عصرنا للحد من الآثار الضارة للكوارث الطبيعية. ليس معنى ذلك أنه أصبح في مقدورنا الحيلولة دون وقوع هذه الكوارث، ولكن بيدنا على وجه اليقين تجنيب انفسنا ما تحدثه من فتك ودمار على نطاق واسع للإنسان. لم يكن مجهولاً أن تركيا كانت عرضة لزلزال كبير، وأن الزلازل تتابعت في شمال الأناضول طوال هذا القرن، بدأت شرقاً واتجهت غرباً، وكان هناك في العام 1939 زلزال "إرزنكان" المدمر الذي راح ضحيته 45 ألف نسمة، أي عدد من الضحايا مماثل لعدد ضحايا الزلزال الذي دمر مدينة إزميت القريبة من اسطنبول منذ ايام. ولا أعلم هل كان لكسوف الشمس أثر في وقوع الكارثة، فقد تختلف قواعد الجاذبية مع وجود الشمس والقمر والأرض على خط مستقيم هذا هو الذي يحدث عند وقوع كسوف للشمس أو خسوف للقمر، بدلا من وجود الأجرام السماوية الثلاثة في صورة رؤوس اضلاع مثلث، كما هي الحال عادة، وقد يترتب على الكسوف، بصفته وضعاً استثنائياً، اضطرابات في أعماق القشرة الأرضية تفضي الى زلازل. والجدبر بلفت النظر، أن زلزالاً في اليابان وآخر في المكسيك تزامنا مع زلزال تركيا وإن كانا أقل حدة في أعقاب كسوف الشمس مباشرة، والمؤكد، على أي الأحوال، أن الزلازل من الممكن التنبؤ بها بدرجة أو أخرى من الدقة سلفاً، وأن الزلازل تسبقها اعراض تؤذن بوقوعها، وأن حواس بعض الحيوانات اكثر حساسية لهذه الاعراض من أذن الانسان وبصره، ومتابعة ردود افعال الحيوانات في هذا الصدد "فن"- بل جاز وصفه ب"العلم"- يتقنه الصينيون بالذات، وهو خليق بالتعميم. والمطلوب، في الحقيقة، تنظيم عالمي يكفل استثمار المعلومات التي اصبح بوسعنا رصدها وجمعها عن طريق إجراءات وقائية تسبق وقوع الكارثة الطبيعية، بدلا من تحمل عبء انقاذ ما يمكن إنقاذه بعد فوات الأوان. وقدّر البنك الدولي ان التدخل المسبق لتجنب آثار الزلازل الكبيرة التي وقعت في القرن العشرين كان سيجنب البشرية انفاق 280 بليون دولار تم انفاقها فعلا على اصلاح الحال بعد حدوث هذه الكوارث، وأن التدخل وقائياً لمنع وقوع آثار الزلازل كان سيحمل الاقتصاد العالمي سُبع ما انفق، فضلا عن تجنيب البشرية المأساة الانسانية الناجمة عن مئات الآلاف من القتلى والجرحى. الغريب أننا كثيرو الحديث عن "العولمة". ولكن "العولمة" الاقتصادية التي ننتمي اليها تعني زيادة الأثرياء ثراءً على حساب الفقراء، وهي زيادة تركز رأس المال والسلطة في أيدي اقليات تتضاءل عدداً وتزداد نفوذاً وجاهاً وقوةً. ولم تمتد "العولمة" لتصبح عولمة تخطيط، واستباقاً للكوارث قبل حدوثها. إن العالم الطبيعي هو بطبيعته "معولم"، ولا تقف الزلازل والأعاصير واضطرابات الجو والارض عند حدود الدول، ومن هنا تأتي اهمية توظيف "العولمة" من اجل تخطيط افضل لسبل تحاشي الكوارث، وحشد كل الامكانات المتاحة للتنبؤ بها قبل وقوعها وتجنب آثارها المدمرة. كانت الكوارث الطبيعية من قبل، كوارث لم يكن بمقدور الانسان التأثير فيها، لا إيجاباً ولا سلباً، ومازالت الكوارث الطبيعية تتسم بهذه السمة. غير انه برز عامل جديد لم يكن موجوداً من قبل، إذ اصبح الانسان بوسعه، ونحن على مشارف الألفية الثالثة، أن يفاقم من شأن هذه الكوارث، كما اصبح بوسعه أن يخفف من وطأتها. اصبح العامل الانساني، لا العامل الطبيعي وحده، عنصراً فاعلاً في تقرير مصير الكوارث الطبيعية. ثم أصبحنا بصدد واقع عالمي لم يعد ممكنا قصر الاهتمام فيه على الكوارث التي تصيب الشعوب من جراء نشوب الحروب، واستعانة المجتمعات البشرية بأسلحة بالغة الفتك في الصراعات التي تخوضها، بل إن هناك أمراً لا يقل عنها اهمية هو مواجهة ضحايا الكوارث الطبيعية، بعد ان زادت هذه الاخيرة خطورة مع انتشار التكنولوجيا الحديثة، بصرف النظر عما تملكه هذه التكنولوجيا من قدرة - أيضا - على الحد من اضرار هذه الكوارث. هناك، فيما يؤذن بحال سوف يزداد تفاقما، عوامل من صنع البشر، اذكر منها على سبيل المثال، متغيرين بالغي الأهمية، هما أثر التكاثر السكاني، وبالذات في العالم الثالث، ثم أثر استمرار تفشي الفقر في العالم. فمن شأن هذين العاملين - معا - دفع الناس الى الإقامة في المدن، واكتظاظ اعداد كبيرة من الفقراء في عشوائيات على تخوم المدن الكبيرة، ان بليون نسمة يعيشون الآن في عشوائيات على هذا النحو في مختلف ارجاء الارض، والعدد بصدد ان يزداد، لقد كان 38 في المئة من سكان العالم يعيشون في مدن العام 1975، وزادت النسبة الى 45 في المئة في العام 1995، ومن المتوقع ان تزداد الى 54 في المئة أي اكثر من نصف سكان العالم في العام 2015، والحقيقة المقلقة في هذا المضمار هي ان أربعين من مدن العالم الخمسين الأسرع نمواً، هي مدن تقع في مواقع عرضة لحدوث زلازل فيها، وهذا أمر معروف، ولكن ليست هناك هيئة تملك صلاحيات التدخل لمعالجة الحال تحاشياً لوقوع كوارث. ثم علينا ان نضيف الى ذلك أن تحولات كثيرة باتت تنال من البيئة هي من صنع الانسان مباشرة، مما يزيد من احتمالات حدوث كوارث طبيعية. ومن الأمور الجديرة بلفت نظرنا في هذا الصدد ظاهرة التصحر، فضلا عن ظواهر اخرى من صنع الانسان مثل زيادة كمية الطرق المطلية بالاسفلت وتقوية مجرى الانهار والقنوات بجدران من الاسمنت، إن كل هذه "الانجازات" البشرية تعوق تسرب المياه وانتشارها في اعماق الارض، وتعرض خريطة الارض المائية والجيولوجية الى اضطرابات داخلية لا ينبغي الاستهانة بها في الإكثار من إحداث زلازل. ورغم تفاقم "العدوان" على الطبيعة، فإن القدرة على التنبؤ بحدوث زلازل تعاظم شأنها هي الاخرى، إن هناك ما يدعو الى الاعتقاد، مثلا، أن الزلازل التي تتابعت في شمال الاناضول، سوف تمتد الى منطقة بحر مرمرة التي وارد أن تشهد زلزالاً كبيراً في مستقبل قريب. حدوث هذا الزلزال يكاد يكون امراً مؤكدا، وما هو ليس معلوماً هو فقط متى يقع. والحال ذاتها تنسحب على مواقع عالمية اخرى، منها أن يقع زلزال كبير في كاليفورنيا، ومنها في اليابان، أي لدى اطراف تملك اكثر من غيرها القدرة على التخطيط واتخاذ خطوات وقائية تتحاشى الكارثة قبل حدوثها، غير ان هذا المنطق لا يستقيم في غياب سلطة ممركزة كفيلة بإلزام الدول عموما بالتدخل قبل فوات الأوان، ذلك ان آثار الزلازل لا تقتصر على الدولة التي يقع فيها الزلزال، وإنما يتحمل العالم كله هذه الآثار، بشكل مباشر أو غير مباشر. إن الزلازل اليوم تختلف عما كانت عليه من قبل، كان من الممكن، في الماضي حتى في الماضي القريب أن يقع زلزال دون ان يعلم به احد .. وأكبر كارثة طبيعية اصابت الكرة الارضية في القرن العشرين، هي سقوط نيزك ضخم أحرق الغابات على امتداد مساحات شاسعة من سيبيريا العام 1908 ولم يُصب انسان واحد بل ظل الحدث لوقت طويل شبه مجهول. اما الآن، فلقد اصبحت وسائل الاعلام كفيلة بنشر انباء مثل هذه الأحداث على اوسع نطاق، بل اصبح من الممكن رصدها مهما ابتعد الحدث من موقع المرصد، بالذات بفضل الاقمار الاصطناعية، وكما قال كوفي أنان، الامين العام للامم المتحدة في خطاب له في جنيف في حزيران يونيو الماضي: "إن سُبل التخفيف من حدة هذه الظواهر متوفرة من الناحية العملية، ومن الناحية العلمية والتكنولوجية، وأصبح في مقدور الانسان التصدي لها باقتدار، إن ما ينقصه هو الارادة السياسية". وأزعم شخصيا ان الذي ينقصه هو امر يتعلق بما هو اخطر شأناً. اننا اصبحنا نتلاعب مع الطبيعة فوق طاقتنا، وأصبحنا ننطلق في مشاريع عملاقة من دون ان نعلم دائما ما قد يترتب عليها من آثار جانبية لا تحكم لنا فيها، واحيانا لا علم لنا بها، علينا ان نتساءل مثلا: ما هي آثار بحيرة اصطناعية بحجم بحيرة ناصر في جنوب مصر على البيئة الجيولوجية المحيطة بها في الأمد الطويل؟، قد يكون هناك ما يبرر الثناء على مشروع توشكى، ليس فقط لمزاياه في توسيع الرقعة الزراعية في مصر، ولا لحيلولته دون تبديد الفائض من مياه النيل، وإنما ايضا لترسيخ حوض البحيرة ضد خطر الزلازل وذلك بتوزيع الماء الفائض على مساحات اوسع. لقد حان الوقت كي تكون هناك سلطة مركزية تتبع الاممالمتحدة وذات صلاحيات مناسبة لمواجهة مثل هذه الأخطار، وللحرص على إجراءات وقائية قبل وقوع الكوارث، إن الكارثة التي اصابت تركيا تدعونا الي التفكير جدياً في هذا كله، ذلك ان الطبيعة تتعرض، في ظل التطورات العصرية، الى مزيد من الانتهاكات من قِبَل الانسان، وان الكوارث الطبيعية ستزداد فاعلية في التأثير في مقدرات الانسان. لقد حان الوقت لمواجهة هذه الأخطار ب"نظام عالمي بيئي جديد" كفيل بالحد من مفعول الكوارث الطبيعية، ويجنب آثارها الفتاكة، ويدشن مع حلول الألفية الثالثة، ويعبر عن قدرة الجنس البشري على مواكبة مستجداته. * كتاب مصري.