كنت في الرياض عندما هممت في الكتابة عن دون كيشوت. ولي في هذه المدينة شيخ أستفتيه كلما ضاقت عليّ الأرض. قال لي قبل أن أسأله: إن أردت معرفة دون كيشوت فعليك أن تعرف ثربانتس. فالمخلوق في الأدب لا يُعرف إلا بمبدعه. قلت له: السؤال هو لو كان لك أن تتخيل دون كيشوت في صورة جديدة، فكيف تتخيله؟ فأنشد:"يا ويلكم مقبلاتْ أيامْ/ عسّره وفيها حموضيّه/ هذي السنة نبكي زمان العام/ والدايرة نبكي على ذِيّه". ليس في دون كيشوت ما يغريني لكنني أجيب عن سؤالك:"لقد كان غارقاً في قراءاته الى حد أنه كان في الليل يقرأ من المساء الى الصباح، وفي النهار من الصباح الى المساء. ولقلة نومه وكثرة قراءاته جفّ دماغه حتى مسّه طيف جنة وامتلأ خياله بكل ما قرأ في هذه الكتب - أي كتب الفروسية - عن ألوان السحر والخصومات والتحدي والمعارك والجروح ولفتات المجاملة، والعشق والعذاب والغرائب المستحيلة، وامتلأ وهمه يقيناً بأن هذا المخزن الهائل من التهاويل والأحلام هو الحقيقة بعينها ولم يكن ثم في الدنيا أصدق من هذا التاريخ. وكان خداعه لنفسه في البدء خفياً ولكنه كان يزداد كلما اصطدم بالوقائع في مغامراته فلم يكن على شعور واضح بشخصيته وبمدى قدراته". قلت له: كأنك يا سيدي تقرأ من كتاب، قال: البدوي لا يقرأ. البدوي يحفظ. وأضاف: دون كيشوت هو الابن الشرعي لضفة البحر الأبيض المتوسط الشمالية - تلك الضفة المتعالية التي جعلت من هذا البحر جداراً بين ما يعتقدون انه الجان الأسود في هذا العالم وبينهم، ولا تفتح كوّة في هذا الجدار إلا لمن يؤمن بدينهم ويتقن لغتهم. وهنا أذكر حكاية أسيرة مغربية اسمها"للا ثريا"إن كان ما زال لي ذاكرة. قالوا عنها في دون كيشوت"إنها مسلمة زيّاً ومولداً لكنها في داخل روحها نصرانية صميمة وفيها رغبة شديدة في أن تصير كذلك". والمغرب في هذا الكتاب هو ما نعرفه اليوم بالمغرب العربي. ولإخواننا هناك جدار مماثل، حيث ان في البحر الأبيض ممراً يسمونه"القحبة الرومية"لا يعبرونه أبداً. وبعضهم يتهادى ويسمي هذا البحر كله وما وراءه شمالاً بالقحبة الرومية، وتروي الأخبار ان المرأة التي أضاعت اسبانيا على المسلمين مدفونة في هذا المكان، والقحبة هي المرأة الفاسدة والرومية تعني المسيحية وهذا الموضع مشؤوم عند المسلمين فلا يتوقفون عنده أبداً إلا إذا اضطروا، لكنه كان بالنسبة الى المسيحيين مرفأ أميناً ضد العواصف. ولو قرأت التاريخ التقليدي لهذا العالم، فستجد أن لكل هزيمة كبيرة"قحبة"الى يومنا هذا، حتى ليخيّل إليك ان هذا التاريخ كله ابن... غير انه ظهر في عصرنا هذا رجل من الضفة الشمالية لهذا البحر اسمه"فيرناند بروديل"كتب أجمل وأعظم ما كتب عن تاريخ المتوسط وحضارته. هذا هو دون كيشوت الذي أحلم به. عليك أن تقرأه لكي تعرف ان التاريخ ليس كما وصفته لاحقاً. دون كيشوت الذي أتصوره لا بد من أن يكون عاشقاً. لا بد من أن يكون امرأة. وهذا القول ليس لي. انه لدون كيشوت نفسه، وقد وجدته في وصيته التي كتبها ثربانتس وهو معتقل في الجزائر. هذه الوصية لم تكتشف إلا في الخامس من تشرين الأول اكتوبر عام 2004، وهي أمانة لديك و"الغالي وديعة الغالي".