في ما يأتي تحقيق من مدينة تارودانت المغربية التي شهدت أخيراً انكشاف مأساة راح ضحيتها تسعة أطفال قُتلوا بطريقة وحشية بعد اغتصابهم على يد "بائع ساندويشات" يعمل في محطة المدينة. يقول الفقهاء ان "اسم الشيء فرع من تصوره". ولولا وقائع جرائم "سفاح أطفال تارودانت" المتهم عبدالعالي حاضي لما ثار الانتباه الى دلالات اسم هذه المدينة المنزوية شرقاً على بعد حوالى 80 كلم عن أكادير، العاصمة السياحية للساحل الاطلسي. إنها مثل أي مدينة مغربية عتيقة تحيط بها أسوار تاريخية تستحضر حقب المتعاقبين على حكم البلاد. يقول المسنون ان سبب تسمية تارودانت بهذا الإسم، أن إمرأة خرجت من المدينة صباح يوم مشمس برفقة إبنها الوحيد في اتجاه السوق لاقتناء ما تحتاجه. وفي طريق عودتها هطلت أمطار غزيرة على المنطقة تسببت في اتلاف الزرع وحدوث فيضانات عند وادي "الأمازيغ"، فأمسكت بطفلها الذي حاول ان يقطع الوادي سباحة لكنه أفلت منها وجرفه التيار، فجلست على ضفة الوادي تندب المأساة وتصيح "تارو" - أي الطفل بالأمازيغية - ثم "دان" - أي غاب، باللهجة نفسها. فأطلق على المدينة إسم تارودانت من فرط التكرار، ومعناه "الأطفال الذين غابوا". كانت المدن المغربية خلالها تقتبس اسماءها من وقائع معينة، وتعيد جرائم سفاح تارودانت الذي حوّل غياب الأطفال الى ظاهرة مخيفة بعد اغتصابهم وقتلهم، أصل تسمية المدينة الى الأذهان، خصوصاً ان وادي الأمازيغ في الحكاية اصبح في الواقع "الواد الواعر" الذي عُثر فيه على الهياكل العظمية للأطفال الضحايا، مع فارق ان الوادي الأول كان رمزاً للخصوبة والعطاء، فيما الواد الواعر الذي ضربه الجفاف منذ سنوات عدة، أصبح مجرد أخاديد محفورة في الأرض زاد في وحشيتها قربها الى مقبرة المدينة التي دفن فيها سفاح الأطفال جثامين ضحاياه فجر يوم حزين. لكنه بسبب بدء اعمال حفر وترميم كان يقوم بها عمال بسطاء في المنطقة، اكتفى برمي الهياكل العظمية عند منحدر الواد الواعر، وعاد مسرعاً الى كوخه على متن دراجة هوائية استعارها من شخص آخر. كأي مدينة عريقة يتحدث السكان عن تاردودانت، مدينة العلم والزوايا الدينية والطرق الصوفية، من منظور تمتزج فيه الأساطير بالحقائق والخيال بالواقع. ويكتب رجل دين من أبناء المنطقة ان تنظيم شؤونها في أزمان مضت كان يخضع للأعراف والتقاليد وانها شهدت تجربة "ديموقراطية" على قدر كبير من التضامن بين السكان وتوزيع الاختصاصات. وتُعرف تلك التجربة باللهجة الأمازيغية "إنفلاس" وبالعربية "مجلس آيت أربعين" وقوامها انتقاء أهل العلم والشيوخ والأعيان ورؤساء العشائر للنظر في المنازعات وإقرار قوانين عرفية في تنظيم العلاقات. وكانت تلك الوسيلة الملاذ أمام الناس في الاحتكام وفض الخلافات وعقاب المتهمين. بيد ان التنصيص على أنواع الجرائم كان يشمل السرقة والاعتداء والعبث بالبساتين والرعي خارج المساحات المخصصة لذلك، واقتحام البيوت في غياب أصحابها. لكنه لم يشمل الجرائم الجنسية. ففي حال السرقة، مثلاً، يُغرّم المدان قيمة المسروق مضاعفاً ثلاث مرات، ومن فقأ عين أحد تُفقأ عيناه أو يمنح الضحية مبلغاً يحدده "مجلس آيت أربعين"، ومن آذى أحداً أو شتمه يذبح بقرة أو شاة لجبر الخواطر. ومن لم يستطع أداء الغرامة، في حال كانت جريمته مخلة بالأعراف، يُقتل ان لم يؤد عنه أهله الغرامة. كانت تارودانت الى جانب مناطق أخرى عند سفوح جبال الأطلس الصغير بمحاذاة وادي الأمازيغ تشكل مواقع مهمة للرعي والزراعة والتجارة، كونها تربط بين مسالك الأطلس ومسالك الصحراء وتعتبر منطقة عبور القوافل التجارية، وتتعايش ضمنها القبائل والسلالات. وفي حكايات متداولة حول نبش القبور أن احدى الساحرات طلبت الى حاكم الإقليم حمايتها من مضايقات حاكم آخر يراودها من أجل ان تقوم بالسحر لمصلحته. وبعد الموافقة ذهبت لجلب الماء من سبعة منابع مختلفة، ووضعت اناء من طين وسط الماء، بعد احراق الصمغ والتوابل. ثم توجهت الى مقبرة المدينة بعد الاستحمام وأخرجت منها جثة ميت أزاحت عنها الكفن وشرعت في تهيئة وجبة "الكسكس" عبر فتل حباته بواسطة يد الميت. وكانت خلال فترة الإعداد تقرأ التعاويذ. ثم طلبت الى حاكم الاقليم اقامة وليمة كسكس. وتقول الحكاية ان كل من أكل من الوليمة أصبح يدين بالولاء لذلك الحاكم. ولا تزال هذه الحكاية مسجلة في بطون كتب ومخطوطات تحفل بها خزانات تقليدية في المنطقة. ولعله بسبب الموروث الثقافي في منطقة تعايشت فيها الأديان والأعراق وامتزجت فيها التقاليد، ذهبت تقديرات نحو ربط جرائم سفاح تارودانت، قبل اكتشافه، باستحضار المتخيل في العادات. لكن المجتمع المحافظ مهما بلغت درجات يقينه يبقى عرضة لظهور الانحراف. وهناك رقصة تقليدية يشارك فيها الاطفال، يحملون الاعلام ويخفون وجوههم بالأقنعة ويرتدون أرثّ الثياب ويتجولون عبر القرى يقرعون الطبول وينفخون في المزامير، لكنهم حين يصلون الى بيت عُرف عن صاحبه الانحراف يشرعون في ذمّه بأقدح الصفات ولا يستحون في تلفظ عبارات جنسية نابية بأصوات تحاول اخفاء هوية أصحابها. ومن نتيجة هذه العادات ان المنحرفين يكفون عن ارتكاب المعاصي. والأرجح ان بعض ضحايا سفاح تارودانت كان من بين أولئك الأطفال الذين شاركوا في مواسم الرقص، غير انهم لم يدركوا ان النعوت لن تثني سفاح المدينة عن تنفيذ خطاياه. تحولت صدمة تارودانت الى مخاوف. يقول رجل السلطة انه لولا اعتقال المتهم قبل بدء الموسم الدراسي لكان صعباً اقناع الناس بتسجيل اطفالهم في المدارس. وكأي قضية ملتبسة، ينسج أهل المدينة حكايات عن السفاح وعن ظروف اختفاء الأطفال، وعن الرجال الملثمين الذين يزورون الحقول لإغراء الأطفال بالعمل في مناطق أخرى، وعن قصص ألف ليلة وليلة التي يتردد انها تُنسج من جديد في فضاءات المدينة. لكن حركة غير عادية لرجال الأمن المنتشرين في كل مكان تحيل الى ظروف سابقة كانت فيها المدينة في شبه عزلة لا تفكها سوى أفواج السياح القادمين بحثاً عن الشمس والحرية والغرابة. بيد إنها حين تكون على موعد مع حضور شخصيات متنفذة من مشاهير أهل السياسة والفن ورجال الأعمال الذين أقاموا في مساكن فخمة فيها مثل الرئيس جاك شيراك والأميرة فرح ديبا أرملة شاه ايران الراحل رضا بهلوي، تسترخي أمام سحر المكان بين القصبات وبساتين البرتقال تحرسها جبال تتراءى من بعيد، ويستحب لأهلها ان ينعتوها "الشقيقة الصغرى لمراكش الحمراء" التي تشترك معها في الوان البيوت والعادات والظواهر. جرائم جنسية وشذوذ لم تكن جرائم سفاح أطفال تارودانت استثناء في جرائم الجنس والشذوذ في المنطقة. اذ سبقتها وقائع مسجلة في محاضر الشرطة ووقائع جلسات المحاكمة. وربما ان اللحظات القوية في جرائم من هذا النوع تمثلت في اعتقال أجانب كانوا يقيمون في تارودانت وعرف عنهم ممارسة الشذوذ الجنسي مع الأطفال. وثمة من يذهب الى ان بعض الأماكن المنزوية استخدمت لتصوير اشرطة سينمائية فاضحة حول الجنس والشذوذ مع الأطفال. وعلى رغم ان القوانين المغربية ترهن تصوير الأفلام السينمائية بالحصول على تراخيص من المركز السينمائي، فإن الترخيص يعتمد على تقديم سيناريوهات ووقائع التصوير التي يمكن ان تتحول الى قصص من نوع آخر في غفلة عن العيون. ويبدو ان طبيعة البلاد التي تمتزج فيها الفصول والجبال والأنهار والمآثر ومظاهر الحداثة، لا تغري السينمائيين فقط، بل تدفع ببعض المغامرين الى استغلال سذاجة الناس وحاجتهم الى المال والثروة والهجرة. احصاءات كشفت جرائم سفاح تارودانت احصاءات تطال مظاهر الشذوذ الجنسي الذي يكون ضحاياه من الأطفال وفاق عدد حالاته اكثر من 500، وفق افادات. إلا ان هذا الرقم يبدو مهولاً نظراً الى ما يمكن ان يترتب عليه من تداعيات، أقربها اتساع نطاق الظاهرة التي عزاها بعضهم الى اقبال السياح الشاذين، كونهم يرون في اطفال المنطقة القاصرين فرصاً لممارسة الشذوذ من دون الخوف من الإصابة ب"الإيدز" وغيره من الأمراض. وثمة من يقول ان هذا النوع من الممارسات يزداد بفعل انتشار بؤس الأوضاع الاجتماعية للأطفال المحرومين، خصوصاً ان التقديرات اكدت ان الأطفال المشردين أو الفارين من أسرهم أو الباحثين عن عمل ما بعد فشلهم في الدراسة يشكلون غالبية الحالات ذات الخلفية الاجتماعية البائسة، والذين يكونون ضحايا الانفلات الاجرامي. وثمة تقارير تشير الى ان الأطفال المغاربة يأتون في مقدم ضحايا استخدام العنف والتعرض للاغتصاب والسرقة والعمل المضني الممنوع قانوناً على القاصرين. لكن الجرائم الجنسية لا تحتل سوى حيز صغير مقارنة مع الجرائم المرتبطة بالسرقة والمخدرات والانحراف الاجتماعي والتي تشكل ما يزيد على نصف السجناء المدانين. لكن الجديد في جرائم سفاح تارودانت انها أماطت اللثام عن "تابوهات" كان الاقتراب منها محظوراً اجتماعياً وأخلاقياً وثقافياً. قد يكون للمكان سحره الخاص في تكييف الجرائم. فالحي العتيق في المدينة استفاق يوماً على قدوم سياح ورجال اعمال ومشاهير يسعون الى اقتناء بيوت قديمة ومعاودة ترميمها لتصبح صالحة للإقامة في أوقات العطل. والظاهرة لا تشمل تارودانت فقط، لكنها تنسحب على أحياء وروض وقصبات في مراكش وطنجة وفاس والرباط وأصبحت مغرية لدى فئات من هواة الإقامات التقليدية. بل ان مهندسين وفنيين في الديكور والتزيين اهتدوا الى هذه الطريق التي تعيد الحياة الى البيوت القديمة عبر إعادة تأثيثها والإفادة من اتساع رقعتها نظراً الى ان البيوت التقليدية في المدن العتيقة تتميز عادة بفناء واسع تقام فيه النافورات المتدفقة بالمياه داخل المسكن، فيما تحيط به الحدائق اليانعة عبر الجهات الأربع. إلا ان أسرار ما يحدث فيها يبقى حكراً على تاريخ المكان. ولولا فضائح جنسية تورطت فيها شخصيات مرموقة في مراكش وفاس، لما كان انكشف "سر" الرغبات التي تُمارس في هذه الأمكنة الساحرة. وحتى تموز يوليو 2000 كانت محكمة في أكادير تقلب صفحات ملفات ذات ارتباط بالشذوذ الجنسي الذي مورس في أحد البيوت العتيقة في تارودانت، ابطالها أجانب وأطفال مغاربة. وقتها شنت السلطات حملات ضد أماكن الدعارة والفساد واعتقلت عدداً كبيراً من المتورطين. لكن سفاح المدينة لم يكن يمارس طقوسه في بيوت تقليدية راقية، وإنما في كوخ أقامه بين جدران مكان خال تحيط به بيوت وتلتصق به مظاهر اجتماعية عادية لا تبعث على الارتياب. ولولا اكتشاف جرائمه لظل حاضي مجرد نموذج لإنسان انعزالي يأتي الى كوخه فجر كل يوم بعد انتهاء عمله في محطة في المدينة، يوزع المأكولات على المسافرين الذين يقتنونها من "بائع سندويشات" لا يثير انتباه احد. وثمة حالات مشابهة لوضعه في أحياء أخرى وفي مدن أخرى ينظر فيها الناس الى هؤلاء الرجال بنوع من الشفقة، اذ يبدون مسالمين يرضخون لقساوة الأيام. ولو تحدث صاحب دكان مجاور لمكان اقامة حاضي لاكتفى بالقول أن لا شيء يثير الريبة في حياة الرجل عدا وضعه الاجتماعي المتدني، حيث يعيش وحيداً بين اشيائه الخاصة، وقد لا يهتم برد السلام على المارة ذهاباً واياباً أمام مكان عمله. "حاضي" أم "هادي"؟ بين اكتشاف الهياكل العظمية المرمية صباح 20 آب اغسطس والاعلان عن اعتقال حاضي في السابع من الشهر الجاري سادت اعتقادات وتباينت سيناريوهات عدة حول طبيعة الجريمة ودوافع المتورط أو المتورطين فيها. لكن ضابطاً في الاستخبارات المدنية أوعز الى رجال الأمن بتركيز التحقيق حول محطة الطرقات في المدينة. كان قد توقف طويلاً أمام الورقة التي عُثر عليها وكتب فيها المتهم رغبته في "الانتقام"، كونها تحمل اسمه "هادي" بالفرنسية. وبين استحضار الضابط لشخص يحمل اسم "حاضي" يعمل في المحطة وفحص كافة الأسماء والنعوت التي تحمل الأسم عبر اجهزة الحاسوب الأمني، صدرت أوامر باحكام الرقابة على شقيق المتهم وطبيعة علاقاته ونوعية سلوكه. وتحولت المحطة في تارودانت الى "عيون" مندسة في كل مكان، بينما ارتدت التحريات طابع التقصي في حياة الشواذ والسياح والمغامرين، وكذلك المشعوذين والسحرة. ويقول أحد ضباط الأمن ان فكرة القتل المتسلسل لم تكن بعيدة عن أذهان المحققين، غير ان حوافزها تأرجحت بين القتل من أجل اخفاء جريمة الاغتصاب أو القتل بهدف الانتقام أو تحت تأثير حال نفسية مضطربة. لكن نبش القبور واستخراج الجثامين منها شكّل نقطة الظل في التحريات، خصوصاً ان المقبرة الوحيدة في المدينة التي ضرب عليها الحصار والحراسة، لم تعرف أي حركة غير عادية. لذلك اتجه البحث نحو المداشر المتناثرة في ضواحي المدينة ومقابرها والأماكن المهجورة فيها، بهدف التوصل الى أي مؤشر يمكن ان يقود الى استجلاء الحقيقة. لكن الصعوبات برزت على صعيد تحديد هوية الضحايا، اذ على رغم ان التشريح الطبي اكد انهم اطفال تراوح اعمارهم بين العاشرة والخامسة عشرة، وان آثار التعذيب بدت على معاصم الهياكل العظمية، بما يعنيه ذلك من تقييد الأيدي، فإن مشكلة الهوية شكّلت المركز السلبي في البحث. لذلك كان الحرص على استكناه فضاء محطة الطرقات، من جهة لأن اسم حاضي هو اسم واحد من العاملين فيها، ومن جهة أخرى لأن المحطات مثل الموانئ ومناطق العبور المختلفة تشكل ملاذات للمشتبه فيهم الباحثين عن الهرب من شيء ما الى مكان ما. احتاج حاضي الى ربع قرن لتحقيق رغبة دفينة في الانتقام. فعندما كان عمره لا يزيد على 14 سنة تعرض لاغتصاب جماعي في ضواحي اكادير. كان وقتها انقطع عن الدراسة لأسباب اجتماعية أبرزها طلاق أبيه من أمه التي اقترنت بزوج آخر قبل وفاتها. وبسبب توالي مظاهر فشله في الدراسة وفي العمل تحول الى منبوذ من طرف الأسرة التي انتقلت الى الاستقرار في مدينة انزكان على بعد حوالى 60 كلم غرب تارودانت. حاول العمل في قطاع البناء لكنه لم ينجح. حاول امتهان التجارة من دون جدوى. واستقر به المقام في تارودانت مجرد رقم بين الناس، ووجد في المحطة الطرقية ملاذاً أخيراً يبدأ من الحلم بالسفر في كل الاتجاهات من دون مغادرة المكان فعلاً. لكن عيونه على الأطفال الذين يتحركون في المحطة لعرض خدمات على المسافرين، كانت تختزل المأساة المقترنة بالرغبة في الانتقام. وإذ يقول جيرانه ان لا شيء في سلوكه الظاهري كان يوحي بالوحش الآخر المختبئ داخله، فإن قدرته على الاخفاء والتستر كانت ملازمة للصورة التي يقدمها، إذ يعرض خدماته على الناس وعلى الأطفال ويبدو اكثر خجلاً وانطوائية. في تفاصيل جرائمه انه حين يطمئن الى انه أغرى الضحية في المحطة الطرقية بتقديم ساندويشات وقطع من الحلوى وبعض النقود، يطلب اليه المساعدة في حمل أمتعة ويعده بتقديم هدية. لكنه يتجنب في الطريق المؤدية الى كوخه، السير الى جانب الطفل ويراقبه من مسافة قريبة. ويختار العبور عبر بعض الطرق الخالية تجنباً لاثارة انتباه أحد. لكن مظاهر المودة والتقرب الى الضحية تتحول الى تهديد عندما يصل الى مكان الجريمة، وهو عبارة عن قطعة أرض خالية محاطة بأسوار لها باب حديي. وفي ركن منها أقام كوخاً من الاخشاب والبلاستيك. يبدأ باخراج سكين في مواجهة ارتعاشات الضحية الذي يقبل استسلاماً تقييد يديه ورجليه ووضع قطعة بلاستيك في فمه الذي يكممه بشريط لاصق. ثم يبدأ في ممارسة نزواته الشاذة بلذة يمتزج فيها العنف بالانتقام واللذة بالوحشية. وقبل بلوغه ذروة اللذة تكون يداه طوقتا عنق الضحية لا تفارقانه إلا وقد أصبح جثة. والأرجح ان المزج بين اللذة والقتل سيطر على ذهن السفاح في لحظة يدرك وحده تفاصيلها. فقد صار مفهوماً اقتران غريزة الاشباع بالمتعة طالما ان ذلك يستجيب حاجة انسانية. لكن اقترانها بالقتل يزيد على كونه انعكاساً لحال مرضية نحو ضرب انسانية الإنسان. فقد سئل عميد الاستخبارات المغربية مصطفى ثابت الذي أعدم في منتصف التسعينات، عن السر وراء تسجيل مغامراته الفاضحة على أشرطة فيديو، فقال ان شخصاً آخر كان يسكنه وكان يجد نفسه ضعيفاً أمام ضرورة اقتران المتعة بالصورة، وإطلاق العنان لأوهام جنسية ارتبطت لديه بالسلطة والقوة. غير ان حاضي لم يكن رجل سلطة وربما ان مفهومه للقوة اختزله في القتل للدلالة على رجولة كان يتصورها ناقصة بغير وأد ضحاياه. ولانه كان يعيش وحيداً ومنعزلاً لا يشاركه أحد أسراره ولا يشارك أحداً همومه، فقد انتقل من ممارسة الشذوذ على اطفال قاصرين دون قتلهم، كما جاء في افاداته، الى رهن المتعة بالقتل، اذ تصبح متعتين جنسية ونفسية. وساعده في تكرار التجربة القاسية ان أولى خطواته نحو القتل بقيت دون آثار ولم تُكشف على رغم مرور أربع سنوات على اختفاء الضحية الأولى. وبعد الانتهاء من خنق الضحية وتحقيق الاشباع الغريزي الوحشي يتمدد المتهم على أرضية كوخه في استرخاء، يقلب صفحات اللحظة الماجنة الضعيفة. ثم يغادر الى أقرب بائع سجائر بالتقسيط. يقتني منه سيجارتين ويعرج نحو أقرب دكان لاقتناء زجاجة مشروب غازي ويعود بسرعة الى كوخه. يدخن السيجارتين في هدوء واحدة قبل دفن الجثمان والثانية بعده، ويغادر المكان مرة ثانية نحو نوم عميق لا مكان فيه لأي أحلام مزعجة، بعد ان يكون استعرض شريط ذكريات ما، أقربها تعرضه للاغتصاب حين كان طفلاً على يد ما يزيد على عشرة شبان. وعلى خلاف معطيات علم الاجرام التي تفيد ان بعض القتلة يتمركز عند نقطة شبه محددة وسط دائرة محيط ارتكاب الجريمة، فإن حاضي يسعى الى اخفاء جريمته عبر التعايش معها في المكان نفسه. إنه، بحسب الخبير في علم النفس عبدالرحيم صادق، يخشى اكتشاف الجريمة في حال كان الجثمان بعيداً عنه، وهو يفضل لذلك أن يكون حارسه من عيون الآخرين. غير أن اختياره الطرائد من المكان نفسه الذي يعمل فيه محطة الطرق، يشير الى علاقة موهومة مع المكان والاحلام. اذ يسافر عبر المحطة ذاتها الى عوالم تكيّفها الغريزة الوحشية والرغبة في الانتقام، وكذلك الزهو والانتشاء بأن في امكانه ان ينتقم لطفولته وان يبقى طليقاً. ويرى الخبير النفسي انه لهذا السبب بدا سفاح تارودانت وكأنه استراح من الاعباء التي يحملها بعد اعتقاله وردد القول امام الشرطة "وأخيراً وصلتم". والأرجح، بحسب تحليلات نفسية، انه لم يغادر المكان بسبب انه ظل محاصراً بجرائمه التي رأى فيها مبرراً لوجوده. وحين اضطر الى التخلص من الجثامين بعد رميها في الواد الواعر لم يقدر على التخلص من هواجسه التي تراءت له - بحسب افاداته في التحقيقات - بمثابة اشباح وأصوات مزعجة تعود الى المكان كلما سقط الظلام. والمفارقة في حال حاضي انه لم يكن يسمع هذه الأصوات حين كان ينام في كوخه الذي حوّله الى مقبرة أطفال، ما يعني ان علاقته وجثامينهم بلغت درجة من الاضطراب النفسي الذي يفضحه السلوك الاجرامي، وإن كان التباعد الزمني بين تنفيذ الجرائم يشير الى مواطن الخلل في شخصية المتهم، خصوصاً ان الجريمة الاولى تولدت عنها ثانية وثالثة قطعت مع أي شعور بالندم أو الخوف أو الانتحار. وثمة من يذهب الى انه كان يحوم حول مواقع اصطياد ضحاياه وحول مراكز الأمن، لكن ذلك لا يعدو ان يكون تجسيداً للعلاقة المرضية بين المجرم وانواع جرائمه. والارجح بحسب مسؤول أمني انه من خلال تنفيذ جرائمه وحيداً ومنعزلاً في كوخه اطمأن الى امكان الاستمرار في السلوك الاجرامي، وقد يكون أفاد من تجربة اصطياد أول طفل طريد ليعمق ذلك السلوك، من جهة لاخفاء معالم جريمته ومن جهة ثانية لاغراء الأطفال القاصرين الذين كان يطلب منهم المساعدة في حمل بعض الأمتعة بعد كسب مودتهم، مما يفسر التباعد الزمني بين أول وآخر جريمة. وحدها عتمة المكان الذي أصبح الآن مهجوراً كانت الشاهد على جرائمه. فقد كان يتسلل الى كوخه ليلاً وكان يحفر قبور ضحاياه ليلاً بعد ان يجردهم من كل ملابسهم إلا في حال نادرة كانت الطريق الى كشف هوية الضحية. ومن المفارقات انه كان يجمع ملابس اولئك الاطفال ويحولها الى فراش ووسادات تختلط فيها رائحة الموت والعرق، بيد انه استطاع ان يحول المكان الذي لا يزيد اتساعه عن مئة متر مربع الى مقبرة بلا شواهد. وعلى رغم انه كان في وسع جيرانه - إن هم صعدوا أسطح منازلهم - ان يعاينوا تلك المقبرة، فإن نظرتهم اليه بوصفه مجرد شخص مشرد بلا أهل أعمت العيون عن إبصار الحقيقة، الى درجة ان ذويه ذهلوا حين تناهت جرائمه على علمهم للمرة الأولى. بدت أسرة حاضي بمنأى عن الاتهامات. ففي جرائم فاضحة وقاسية من هذا النوع تدفع الأسر ثمن الانتساب اليها. لذلك فان قريبين الى اسرة حاضي التي تعيش في مدينة انزكان، احتموا بالصمت، وبما يُفهم منه انه كان منبوذاً من الأسرة ولا يرتبط معها بأي علاقة. تقول سيدة مكلومة انها انتظرت عودة ابنها الذي اختفى في نهاية العام الماضي وكان عمره 13 سنة، لكن شخصاً عرف قصتها كان يطرق بيتها في كل مرة طالباً قدراً من المال، وكان يقول لها ان نجلها انتقل للعمل في اكادير وانه أصبح مرشداً للسياح وسيعود قريباً. بيد ان العثور على الهياكل العظمية للأطفال بدد آخر يقين لها في العودة حين سمعت الجيران يتحدثون عن بقايا سروال قصير أزرق وجاكيت باللون نفسه الذي كان يرتديه ابنها عالقة بأحد الجثامين. ويتذكر رجل تمكنت قساوة الحياة من تقاسيم سحنته الملفوحة بأشعة الشمس الحارقة ان ابنه غادر البيت في صيف 2001، وكان عند كل مساء حزين يرقب دقات تبشر بعودته. غير انه على اثر مذبحة تارودانت كان الطارق رجال أمن تمنوا عليه المساعدة في تحليلات طبية للتأكد إن كان ابنه واحداً من الضحايا. وكانت الفجيعة التي زادت حرقة الأب أهوالاً. ويروي أب آخر لضحية مفترض انه ناول ابنه بضعة دراهم في صيف يوم قائظ كان طلب اليه الذهاب الى مسبح المدينة. وحين لم يعد فكّر في انه غرق هناك. وإذ يتحدث بحسرة عن فقيده الصغير لا يُخفي انه كان يستسيغ ان يغيّب الموت فلذة كبده غرقاً وليس اغتصاباً، إذ يرتبط الفعل الشنيع بأكثر من الفجيعة. يحكي ذوو الضحايا بحسرة عن فقدان ابنائهم. ويقول أحدهم "لم أفقد ابني فقط، لكنني فقدت ذاكرتي". فقد اضطر تحت إلحاح أم الطفل ان يغيّر مسكنه الذي كانت ترى في جزئياته ذكريات عن طفلها، إذ يمشي ويضحك ويعبث بأشياء البيت أو يتسمر عند النافذة يرقب عودة الأب. وفي كل مرة يحل فيها العيد يتحول البيت الى مأتم لكن من دون القاء النظرة الاخيرة على الجثمان المسجى. طفل واحد استطاع الافلات من قبضة السفاح الذي استدرجه الى كوخه. حاول اغتصابه بالطريقة نفسها بعد تقييد يديه. إلا ان رغبته في الحياة كانت أقوى من رغبة القتل، اذ تمكن من الفرار. قطع المسافة الى المحطة الطرقية مترنحاً وبدا له المكان اشبه بوحوش تريد افتراسه فقرر الهجرة الى الدار البيضاء على بعد حوالي 400 كلم من تارودانت. والارجح ان افاداته ستكشف مناطق الظل المتبقية في الظاهرة الاجرامية. بيد ان صدمة اللحظة كانت اكبر من ان تجعله يقدم افادات بعد محاولة اغتصابه. ففي حالات كهذه تصعب المواجهة بخاصة لدى الاطفال. وربما الطفل الوحيد الذي استطاع ان يواجه السفاح كان ذلك الذي اختير للمساعدة في تشخيص جرائم المتهم. ولعله اطمأن الى ان السفاح مقيد اليدين في حضور الشرطة والادعاء العام والجمهور، على عكس ايدي بقية الضحايا. ثمة رابط بين الكلمات التي سطرها حاضي على ورقة علقت بأحد الجثامين كتب عليها: "أقسم بالله أن انتقم" وقادت الى اكتشافه وبين ولع مدفون لم يكن يستطيع الافصاح عنه. فقد كتب "هادي" باللغة الفرنسية الى جانب علامة تجارية لشركة مختصة في بيع الاحذية والألبسة الرياضية الى جانب رقم 3303. لكنه حين ظهر مقيد اليدين لمعاودة تشخيص جرائمه الممتدة من المحطة الى كوخ اقامته والى منطقة الواد الواعر، كان يرتدي قميصاً رياضياً، في حين بقي رقم آخر على الورقة ذاتها "55" موضع تأويل. هل كان يرمز الى المنطقة التي تعرض فيها للاغتصاب عند الكيلومتر 55 مثلاً، أم انه كان يعتزم المضي في تنفيذ جرائمه لتصل الى هذا العدد، ام انه كان يتخيل نفسه سجيناً تحت رقم 55.