أخيراً جاءت اللحظة التي كنّا ننتظرها... على درج "المجلس المصري الأعلى للثقافة"، عند أبواب "مركز الابداع الفنّي" تلك الصالة المخصصة للأحداث الثقافيّة والفنيّة المميّزة... أخيراً جاءت المفاجأة، من فرقة "ألكسندرا جيركي" البولندية التي حملت الفرحة، فرحة المسرح الشعبي، وجاءت تقدّم نصاً شكسبيرياً هو "كل شيء من أجل الحب" في التقاليد الاليزابيثية، مرتدية حلّة البهجة والكرنفال. كان ذلك في الليلة الثالثة من ليالي "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" الذي تستضيفه حالياً العاصمة المصرية. جاء "المشخصاتيون" البولنديون على "حنطور"، أي عربة يجرّها حصان، بالمشالح السود والأقنعة الكرنفالية والدفوف، وزعوا على المشاهدين الذين كانوا ينتظرونهم في الخارج أقنعة أيضاً، كي يشاركوهم الاحتفال... وفي الليلة الثالثة من المهرجان كان الملل بدأ يتسلل الى القلوب، فيلتفت بعضنا الى البعض الآخر سائلاً: ماذا يجري هنا؟ كل هذه الحشود والفرق والملصقات والعناوين... فأين المسرح؟ الذنب طبعاً ليس ذنب ادارة هذه التظاهرة التي تحوّلت موعداً عربياً وعالمياً أساسياً، ولعبت دوراً في تنشيط حركة الابداع المسرحي في مصر خلال العقد الماضي. لكنّها قاعدة المواسم، أحياناً تأتي وفيرة فتفيض الخصوبة، وأحياناً تأتي شحيحة ومخيبة. وأقلّ ما يمكن أن نقوله هذا العام في القاهرة... إن المسرح العربي ليس في أفضل حالاته. وفضل "التجريبي" على الأقلّ أنّه يأتي ليسلّط الضوء على هذه الحقيقة المرّة التي يرفض معظم مبدعي الأجيال السابقة والحالية، مشرقاً ومغرباً، أن يعترفوا بها... ويواجهوها. هناك هذا العام فرق كثيرة. بل ان المشاركة العربية الى ازدياد: 36 فرقة في مقابل 21 في أفضل الدورات الماضية بحسب احصائيات المهرجان. لكننا بحثنا بصعوبة عن "حدث"، عن تجربة يضج بها المهرجان، عن مفاجأة... بل حتّى عن ومضات قليلة هنا وهناك في ظلام القاعات الكثيف! الوجوه والأسماء والتجارب والاشكال والنقاشات تتكرر، لا أحد يجرؤ على قلب الطاولة... على اثارة الدهشة... على التخلي عن الكليشيهات والقوالب المستهلكة التي قطعت المسرح عن نفسه، وعن عصره، وعن جمهوره، وابتكار قوالب وأشكال مغايرة، وطرح الاسئلة الجمالية والفكرية والسياسية الصحيحة... طبعاً الافتتاح جرى كعادته تحت الاضواء بحضور وزير الثقافة فاروق حسني ومدير المهرجان الدكتور فوزي فهمي، وحشد من المبدعين والمثقفين والاعلاميين، الى جانب ضيف المهرجان. ووجهت مصر رسالة واضحة ضدّ كل اشكال الحقد والعنصريّة، باختيارها رئيساً للجنة التحكيم الدولية من الولاياتالمتحدة الاميركية، هو المسرحي جليبرت نيل لازير. وطبعاً جاء عرض الافتتاح تجريبياً، ليثير النقاشات التي نسمعها ونقرأها كل عام: هل هذه الاشكال تناسب ثقافتنا وحضارتنا؟ هل التقنيات وحدها تكفي؟ أين النصّ؟ "جزء من الداخل" هو عنوان العرض الذي قدمته فرقة "أوليهارب" الفرنسية، من اخراج جيل كونستان. والعرض حركي بصري، يقوم على الجسد والإضاءة والسينوغرافيا وشتّى المؤثرات، يتميّز بالمهارة التقنية والبشرية، يجمع بين عناصر صوتية وأدائية وبصرية متعددة، ويمزج الموسيقى بالأصوات البشرية وصوت الآلات... لكنّه باختصار، كما قالت الكاتبة فتحية العسال في نشرة المهرجان، يبهر فقط، ولا ينفذ الى الاعماق... وطبعاً بدأت في اليوم التالي ندوة المهرجان، وكانت هذا العام حول "صورة الحداثة وما بعد الحداثة في المسرح العالمي" في شكل عام، والمسرح العربي في شكل خاص. فانهال الكلام المكرور حول تحديدات الحداثة، وما بعدها، وعلاقة هذه المفاهيم بالمجتمعات الصناعيّة. رجع المحاضرون الى الفيلسوف الفرنسي ليوتار، عرجوا على غي دوبور، وهنري لوفيفر وروبرت فنتوري... وصولاً الى ألفريد جاري وأرتو. ثم ناقشت الندوة "موقع المسرح العربي في زمن الحداثة وما بعد الحداثة فنياً وفكرياً"، بمشاركة أحمد زكي المخرج وبول شاوول وخالد أمين وسعد يوسف عبي وسليمان البسام وعواطف نعيم، وفرحان بلبل ومصطفى يوسف والمنجي بن ابراهيم وسعد أردش ونهاد صليحة... وجاء بين المشاركين العرب من اعتبر أن خطورة ما "ما بعد الحداثة" على المسرح العربي... تكمن في "تغليب الصورة على النصّ"! وكل ذلك جيّد ومفيد ومسل في النهاية، ولعلّه من فولكلور المهرجان منذ تأسيسه... لكن أين المسرح العربي؟ طال انتظارنا وترقبنا... فحصدنا الخيبة، واكتفينا بمتابعة عروض عادية... فيها بعض اللمعات احياناً، أو عروض مملّة وبليدة... لا مفرّ من أن يخرج منها المرء باستنتاج واضح: إن "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي"، من حيث لا يدري ولا يقصد ربّما، نعى هذا الموسم المسرح العربي الى جمهوره وأهله والى أهل الثقافة والاعلام. في كافيتيريا الفندق الذي يسكن فيه ضيوف المهرجان، يؤكد بول شاوول هذا الانطباع الذي يحاصرنا: "كأن المسرح العربي لم يكن طوال العقود الماضية سوى طبقة خارجيّة من الطلاء، مرّت عليها الايام فامّحت وتشققت"، يقول الشاعر والناقد الذي رافق المسرح العربي منذ سبعينات القرن الماضي. حتّى الرموز التي قدمت أعمالاً مميزة في العقدين الماضيين، جاءت الى القاهرة تحمل لنا الخيبة. المسرحي العراقي عوني كرّومي وقّع مخرجاً مونودراما "فاطمة" التي مثلتها الفلسطينية ساميا بكري قزموز عن نص لخليل عبد ربه. فإذا بالعمل يشكو من وهن مدهش، في كل الجوانب الدرامية والفنية. اداء ساميا بكري التي عرفناها سابقاً في أعمال لافتة غير مقنع، النصّ بليد وقائم على البكائيّات وهو غير مقنع في وقائعه الزمنيّة، الوثائق التي تعرض على شاشة العمق دخيلة ولا علاقة لها بالبنية والسياق العام... هل سننتظر قرناً كاملاً لنفهم ان المشاعر النبيلة والعواطف الوطنية لا تكفي لصوغ عرض جيّد... وان العمل المسرحي منظومة صارمة من المفردات والقواعد؟ العرض البحريني "عذاري" هو الآخر يشكو من سوء تفاهم أساسي في بنية المسرح العربي السائد: العرض الناجح لا يقوم على اختراع مؤثرات وحركات... وعلى الصراخ والإلقاء الرخيم وبعض الليونة الجسدية... النصّ الذي كتبه الشاعر علي الشرقاوي يتمتع بشفافية اكيدة، ومتعة لفظية أدبية لغوية لا تترك مجالاً للشكّ. لكن الحكمة السياسية تثقل العرض، وتحركات المجموعة ضمن اطار لعبة القماش الذي يخفي أو يظهر الممثلين تبدو ثقيلة ومستهلكة ومعادية لمنطق الفرجة القائمة على الخفّة والمتعة وعلى بلاغة مشهديّة لا تترك مجالاً للملل بذل جمعان الرويعي جهداً واضحاً لاعداد النص وتصميم السينوغرافيا والاخراج، ويشارك في العمل بعض الممثلين اللافتين، لكن ذلك وحده لا يكفي. كما لا يكفي ان يسدد العرض اصبع الاتهام الى التسلّط السياسي، والاستئثار بالسلطة، وتجاهل مصالح الشعب ومتطلباته التي هي في النهاية مصالح الوطن ومصالح الامّة. المسرح لمسة فنية، وحالة سحرية تنقلنا - او لا تنقلنا - الى عالم من الدهشة والمتعة والتأمّل. وتكثر الأمثلة التي تجسد سوء التفاهم هذا، بين الابداع المسرحي، وتجميع مؤثرات وتراكمات وكلمات وتحركات لنقل عظة سياسية. وأغلب العروض هذا العام متمحورة حول الحريّة. من العراق تشارك "ورشة فضاء التمرين المستمر" في نصّ من تأليف عواطف نعيم بعنوان "اعتذر استاذي لم اقصد ذلك"، ومن اخراج هيثم عبدالرزاق. ومن فسلطين تأتي ايمان عون بعرض "جبابرة الأرض" مسرح عشتار المأخوذ عن جبران خليل جبران. ومن المغرب يقدّم يوسف الريحاني نص عبدالكريم برشيد "الناس والحجارة"، فيما يقدّم "نادي المسرح في جامعة الملك عبدالعزيز في جدّة" مسرحية لفهد الحارثي بعنوان "الناس والحبال". وتقدم فرقة قطر المسرحية نصاً من تأليف العراقي القصب بعنوان "ذهب الموسيقى" اخراج ناصر عبدالرضا. ويتمثل الحضور المصري في 14 عملاً بعضها جدير بالاهتمام، مثل مسرحيّة ناصر عبدالمنعم "ثورة الشطرنج" تأليف نبيل خلف. أما العرضان المصريان المشاركان في المسابقة الرسمية، فهما "هبوط اضطراري" إنتاج ورشة ارتجال استديو مركز الإبداع، ويتعرض لأفق الحياة اليومية والمشاكل التي يعيشها المواطن. العرض من إخراج خالد جلال. والمسرحية الثانية بعنوان "صدى"، وهي تجربة ذاتية لمخرجها محمد شفيق برز مع "فرقة الرقص المسرحي الحديث" تكشف من خلال التمثيل العلاقات الإنسانية المفقودة، ويعتمد الأداء على الإحساس، مع احتفاظ كل ممثل بشخصيته وثقافته وفكره. والعرض من إنتاج "مركز الهناجر للفنون". ويضيق المجال عن استعراض كل التجارب العربية المشاركة في القاهرة. لكنّ لا بدّ من الاشارة الى عمل مغربي بعنوان "أهل المجابئ" من تأليف واخراج كريم الفحل الشرقاوي. العمل يشكو من ثقل الامثولة السياسية: شعب كامل يعيش في المخابئ ويواجه شتّى أشكال القمع، تحت ستار المهزلة الديموقراطيّة والمؤتمرات الكلاميّة. لكن شغل الممثلين لافت والاطار السينوغرافي والاضاءة من العناصر التي تخدم رؤية اخراجية - كافكاويّة - متماسكة. من السعوديّة ايضاً نشير الى "مسرحية نصوص" التي يقدمها زكريا مومني انطلاقاً من اقتباس مشاهد مسرحية كلاسيكية مثل "عطيل" شكسبير، و"أوديب" سوفوكليس وغيرهما... يجمع كل هذه الاقتباسات تحت ثيمة الحلم... ومن الكويت يتجرأ عبدالعزيز الصايغ على نصّ للاسباني فرناندو ارابال هو "مدفن السيارات" الذي صار عنوانه العربي "الكرافة"... وتحاول الفرقة الكويتية تطويع مفردات المسرح العبثي... لفضح الديكتاتورية على اشكالها في لغة مسرحية ساخرة وهاذية. ومن لبنان يكتشف الجمهور مسرحياً شاباً هو رافي ابو ماجدية كوميديا سبوت غروب الذي يقدم "روميو وجولييتان" على شكل قراءة "لبنانية" خاصة لنص شكسبيري شهير هو "روميو وجولييت"... يتناول الحب بين شخصين من مذهبين مختلفين، ويتطرق الى علاقة الرجل العربي بالمرأة. ولعل احدى المفاجآت العربية القليلة في المسرح التجريبي هذا العام، إضافة الى استعراض وليد عوني الجديد "كلارا والرمال المتحركة"، ستكون مسرحيّة اللبنانية سهام ناصر "كلن هون" انهم جميعاً هنا. تستحضر صاحبة "الجيب السري" على طريقتها شخصيات من مسرحيات صموئيل بيكيت، وتتركها تعيش حياتها وصراعاتها في اطار بوليفوني متعدد اللغات المسرحية. ولا بد من الاشارة أخيراً الى أن مهرجان القاهرة المسرحي صار له موقع على الانترنت، يقدم مختلف المعلومات والتفاصيل عن العروض والشخصيات المشاركة.