يسدل الستار مساء اليوم على الدورة الأولى من مهرجان "جاز في لبنان" الذي استضافته زوق مكايل طوال الأسبوع الماضي. وكريم غطاس الذي خاض مغامرة جريئة هي اطلاق تظاهرة - بعد انتهاء موسم الصيف ومهرجاناته الكبرى - متخصصة بموسيقى الجاز على اختلاف تجلياتها وتوجهاتها ومشاربها الثقافية، خبأ لجمهوره مفاجأة ستكون مسك ختام برنامج راهن على الجودة والتنوع والعالميّة. بعد موسيقى ديوك إلينغتون، ورباعي أرشي شيب أحد آخر الكبار في عالم الجاز، وموسيقى ظافر يوسف التأملية الصوفيّة، يختتم مهرجان "جاز في لبنان" هذا المساء في زوق مكايل شمال بيروت، بأمسية استثنائيّة للموسيقي التونسي، العالمي، أنور براهم بعنوان "خطوات القط الأسود". ليست المرّة الأولى التي يعزف فيها أنور براهم في لبنان، إذ سبق أن حلّ ضيفاً على "مهرجانات بعلبك"، لكنّه هذه المرّة يأتي ببرنامج خاص، يعتبر نقطة تحوّل في مسيرته الفنية على مستوى التأليف الموسيقي. في "خطوات القط الأسود"، وللمرّة الأولى، تخلّى أنور عن عوده قليلاً، ليكتب لآلة البيانو... وحينما رجع إليه إذا بنا أمام مقطوعات مسكونة بنغمية شفيفة، قائمة على حوار الآلتين... وكانت النتيجة أسطوانة مفاجئة، لا تشبه ما حولها وما سبقها، موسيقى حميمة تجعل منها أنجح أعماله ربّما، وعلى الأقلّ أكثرها تماكساً، ومقدرة على خلق توازن هارموني وأسلوبي دقيق، بين عناصر متباينة، من الجاز والتانغو والفلامنكو، إلى الموسيقى الهندية والفارسيّة والعربيّة. ويتسرّع بعضهم ويرى في تلك الموسيقى تجسيداً لحوار الشرق والغرب... لكنّ براهم تجاوز في عمله هذه المرحلة، من زمن بعيد، ليحمل شرقه الى العالم أجمع، من دون انشغال في أسئلة الهويّة والخصوصيّة. وتمكّن الفنان التونسي من تحقيق حضوره الخاص على الساحة العالميّة، فإذا به أحد المؤلفين القلائل القادرين على فرض العود، كآلة حيّة، معاصرة، تنتمي الى زمانها من دون تنازلات أو مركّبات نقص، وتحافظ على تجذّرها في ثقافة عريقة تتميّز بشدّة تماسكها وتعقيدها النغمي. وقد اتهمه بعض النقاد ظلماً بتقديم تنازلات للانسجام مع طابع موسيقي سائد في الغرب تحت راية ما يسمّى ب"موسيقى العالم". وها هو عازف العود والمؤلف التونسي يعود اعقابه على خطى أليسار، فيقوم بالرحلة معكوسة: من قرطاج الى بيروت، بحثاً عن أسرار تلك العلاقة الخاصة بينه وبين الجمهور اللبناني. يعود براهم، هذه المرّة، برفقة عازف البيانو فرنسوا كوتورييه، وعازف الأكورديون جان - لوي ماتينييه، ليقدّم "خطوات القط الأسود"، وقد سجّل هذه الموسيقى في أسطوانة صدرت قبل عامين عن شركة ECM. واستعمل السينمائي جان لوك غودار جزءاً من مقطوعة "خطوات القط الأسود" تحديداً، في فيلمه الأخير "موسيقانان" الذي يتطرّق الى القضية الفلسطينية، وقد أثار نقاشات حادة لدى عرضه في مهرجان "كان" الماضي، ولدى عرضه في بيروت قبل أيّام. ولعلّ براهم معروف عربياً من خلال المسرح والسينما، إذ وضع موسيقى مسرحيات محمد إدريس، وعدداً من أبرز تجارب السينما التونسيّة التي عرفت نهضة لافتة أواخر القرن الماضي، من "عصفور السطح" الذي أطلق فريد بوغدير، إلى شريط مفيدة التلاتلي "صمت القصور" الذي حقق نجاحاً في "مهرجان كان" قبل سنوات، مروراً ب"صفائح من ذهب"، أحد أجمل أفلام نوري بوزيد... أما أعماله الموسيقيّة التي سرعان ما صنّفت اختزالاً ولضرورات تسويقيّة في خانة الجاز، فأنتجت كلّها في الغرب، ما جعل رحلتها الى العالم العربي طويلة وشائكة بعض الشيء. ولادة أنور براهم الفنيّة تعود رسمياً إلى أواسط الثمانينات حينما أطلّ على جمهور "مهرجان قرطاج" الصيفي، فحقق نجاحاً منقطع النظير. وكان لقاؤه مطلع التسعينات بالمنتج مانفريد ايشر مفترق طرق في حياته الفنيّة. إذ أنتج مؤسس شركة "إي سي أم. ريكوردز" EMC Records ألبومه الموسيقي الأوّل "برزخ"، وكان هذا العمل بداية مرحلة جديدة، أثمرت حتّى الآن ست أسطوانات هي "حكاية حب لا يصدّق"، "مدار"، "خِمْسة"، "ثمار"، "مقهى استراخان"، "خطوات القط الأسود". وعزف أنور براهم، وسجّل أسطواناته، مع موسيقيين بارزين يمارسون أنماطاً مختلفة وينتمون إلى ثقافات متباينة أمثال التركي بربروس ايرزكوزي، والنروجي يان غربريك، والبريطانيين جون سورمان ودايف هولاند، والفرنسي ريشارد غاليانو، وأخيراً فرنسوا كوتورييه، وجان - لوي ماتينييه. كما رافقه على الدوام عازف الإيقاع التونسي الأسعد حسني. وتندرج المحطّة اللبنانية ل"خطوات القط الأسود"، ضمن جولة عالميّة انطلقت من تونس في الربيع الماضي، وجالت على فرنسا، وبلجيكا، وايطاليا، وسويسرا، والنمسا، والسويد، وإسبانيا، وهولندا، وصربيا، وبلغاريا، والبوسنة، وستتواصل بعد لبنان في الولاياتالمتحدة الأميركيّة وكندا...