يجيب الإسلامي الأردني ابو مصعب الزرقاوي في رسالته الى "اخويه" اسامة بن لادن وأيمن الظواهري عن سؤال داهم يلح على الناشطين "المناضلين" هو "ما العمل؟" "الحياة" في 12 شباط/ فبراير الجاري. وليست استعارة الصيغة اللينينية - وكان لينين استعارها من تشيرنيشيفسكي - على سبيل التقريب اللغوي والخطابي، ولا غمزاً من قناة من تستعار الصيغة منه ومنهم. وأول عناصر البنية السياسية والفكرية، اللينينية، هو الاهتداء بأمر "وعلم" ثابتين، ثبتا مرة واحدة، وقطع كل متعلق له بحوادث وأحوال متغيرة ومتقلبة. فما يصدر عنه صاحب الكتاب لا يُمتحن، ولا يقبل الاختبار. والمصدر هو خارج متعال ومفارق: "نور العلم" و"ركن وثيق". ويستوي الاثنان على ثلاثة: "روح الجهاد وفقه الاستشهاد والبراءة من الكافر". ويقضي "العلم" بأن "تقف الكثرة الكاثرة في صف الحق". ولا بد لأجل هذا من "التضحية ... ولتُرَقِ الدماء: "فمن كان على خير أرحناه وعجلنا به الى جنته ومن كان غير ذلك فشرٌّ قد استرحنا منه" اي ان القتل هو الأصل، وتمييز الأخيار من الأشرار يعود الى خالقهم جميعاً وليس شأن المخلوق المقاتل. ولا يتخوف الداعية الإبادة، ولا هي تدعوه الى التردد او الإحجام: "لو اقتتلت الحاضرة والبادية ]اي الناس كلهم[ حتى يفنوا عن بكرة ابيهم على ان يوحّد الله، لكان خيراً". فالإنسانوية، على ما يسمى ببلاد اخرى تقديمُ حياة البشر وحقوقهم على العمل بمقتضيات العقيدة او النظرية، فكرة ضعفاء و"منافقين" و"إصلاحيين" مترددين. وحمل بعض "كبار" الكتاب ماركسيتهم على "نقيض الإنسانوية"، وهلل تلامذة ومريدون كثر للفتح "العلمي" هذا. وثاني عناصر البنية السياسية والفكرية اللينينية هذه يصف، مرة واحدة وأخيرة كذلك، الطينة الإنسانية والاجتماعية التي جُبل منها الناس وصنعوا، ويسوغ صنعُها على هذه الحال صدورَ الأمر الثابت عن خارج مغاير مثل الخارج الذي يقول الزرقاوي وأصحابه انهم يصدرون عن إرادته وفرائضه. فعامة العراقيين، ولو من الجماعة التي ينتخبها الداعية ويخصها بحظوته، من "الدهماء وهم الكثرة الصامتة، والحاضر الغائب، همج رعاع اتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا الى ركن وثيق"، وعلة "رعاعيتهم"، الى بُعدهم من "العلم" و"الثقة"، هي ما يسميه لينين في "ما العمل؟" "اقتصادويتهم"، وميلهم الغافل الى مكاسب عاجلة، تكتيكية، تحجب عنهم "الأفق السياسي او بعد النظر والإعداد لوراثة الأرض" على قول "المستضيء" بالأركان الثلاثة، والاستيلاء على الأمر. ويسخر صاحب "ما العمل الجهادي الثوري في العراق اليوم؟" من جمع العامة "بين كراهة الأميركان" و"تمنيهم زوالهم"، وبين تطلعهم "الى غد مشرق ومستقبل زاهر، وعيش رغيد، ورفاه ونعمة"، على رغم الاحتلال، في آن، ومشايخ العامة الرعاع هؤلاء "حظهم من الدين مولد ينشدون ويرقصون فيه على حداء الحادي، مع وليمة دسمة في الختام". فهم اشبه بفقهاء "الحيض والنفاس"، على وصف روح الله خميني علماء زمانه "الصامتين"، في "ولاية الفقيه" "ما عمل". و"الاخوان المسلمون" العراقيون، شأن قادة النقابات "التريديونيونية الساعية في فتات الوليمة الدسمة، "كل سعيهم لبسط السيطرة السياسية والاستحواذ على مناصب التمثيل لأهل السنة في كعكة الحكومة المزمع انشاؤها". ولا يستثنى "المجاهدون"، من اهل البلد، من النقد الجهادي الصارم الذي يَصْليه الداعية العراقيين. فأكثر المجاهدين هؤلاء، على قوله، "قليلو الخبرة والتجربة ... في العمل الجماعي المنظم". ويحمل المجاهد الزرقاوي حالهم هذه على ملابسات "انتاجهم" الاجتماعية والسياسية: فهم "نتاج نظام قمعي عَسْكَرَ البلد، ونشر الرعب ... ونزع الثقة بين الناس"، على مثال "الموجيك" الفلاحين الأقنان الروس، والبورجوازيين الصغار، في الأدبيات اللينينية والستالينية. ويأسف صاحب الكتاب لكون "الجهاد هنا ... ألغاماً تزرع، وصواريخ تطلق، وهاوناً يضرب من بعيد". فعلى مذهبه، "السلامة والنصر لا يجتمعان"، و"شجرة النصر والتمكين لا تبسق شاهقة إلا بالدماء والاستبسال، والأمة لا تحيا إلا بأريج الشهادة، وعطر الدماء الفواح المهراق ... ولا يفيق الناس من سكرتهم إلاا ذا صار حديث الشهادة والشهداء وهو سميرهم وهجيراهم"، و"العنف الثوري" ملتهم ومعتقدهم. وأما إيثار السلامة، والانقلاب "الى احضان الأزواج"، والمباهاة "فيما بين المجاميع" "انه لم يقتل منها احد او يؤسر"، فلا تليق بمن غايتهم "وراثة الأرض"، وتقديم السياسة السلطة، و"إخراجها" من فوهة البندقية، اي ارساؤوها على فوهة البندقية، على قول ماوتسي تونغ، "لينين" الحزب الشيوعي الصيني ومهديه. فإذا كانت العامة على هذا القدر من الانقياد لعلاقات الإنتاج السياسية والإيديولوجية السائدة، وتغلب مصالحها ومكاسبها الجزئية على "الأفق السياسي" العام المترتب على "العلم" و"الثقة"، فما السبيل الى بث الوعي السياسي والنظري الثوري "روح الجهاد وفقه الاستشهاد والبراءة من الكافر" في المادة الخاملة والمسترسلة هذه وانتشالها من "سكرتها" و"أفيونها المخدر" و"رادة كذبتها"؟ وتلح المسألة على مجاهدي مراسل بن لادن والظواهري آن يمتنع عليهم "الكمون" في "جبال يأوون إليها او غابات يبيتون فيها" ويهاجرون إليها، على قول الزرقاوي مقلداً فقه سيد قطب في "معالم في الطريق" وهو "ما عمل"ه، كذلك. وهذا تحليل "الظرف السياسي"، او العنصر الثالث في الرسالة. فهم، اليوم، بإزاء قوات اميركية تأمل في "ان تتوارى في قواعدها آمنة مطمئنة لتسلّم سوح العراق لأيدي حكومة لقيطة بجيش وشرطة يعيدون في الناس سيرة صدام وزبانيته". وهذا تعليل قوي لاستحالة اجتماع حركة "جهادية" وسلطة استبدادية، قومية او دينية، تحت عباءة واحدة. ويلقي هذا القول بعض الضوء على علاقة الأنظمة العروبية بالحركات الإسلامية، وعلى خبرة الأولى بالإرهاب، على قولها. وعلى نحو ما اعتزال العراقيين في "بؤر" غيفارية او كاستروية او جماعية مسلحة جزائرية منيعة، ممتنع وعسير، فالوقت المتاح للحسم الجهادي محسوب: بالأمس كان الوقت مبكراً، وغداً يكون الوقت فات، فاليوم اليوم، او ابداً، على ما كان ينشد ماياكوفسكي في لينين. "ولا شك ان رقعة الحركة بدأت تصغر، وأن الخناق بدأ يضيق على رقبة المجاهدين، ومع انتشار الجنود والشرطة العراقيين صار المستقبل مخوفاً". فإلى المكان والوقت المنكمشين تدريجاً، ثمة عامل آخر عملاني إذا جازت العبارة. وهو يترتب على حال الجماعات العراقية، وخروجها من قبضة صدام حسين، وعلى انقسام العراق جماعات مذهبية ودينية وقومية "متناثرة". فهؤلاء "الجيش والشرطة" المنتشرون في "المثلث السني"، "قد يرتبطون بالنسب والدم والعرض مع سكان هذه المنطقة"، وهي "قواعد الزرقاوي التي منها ينطلق وإليها يرجع". فإذا قاتلهم اصحاب الزرقاوي وبن لادن والظواهري "ستحصل بينهم وبين اهل الأرض فجوة". إذ كيف يقاتلون، اي جماعة الزرقاوي وأنصاره، "أبناء عمومتهم وأبناءهم، وتحت اي مبرر بعد ان تراجع الأميركان ... وأصبح ابناء هذا البلد هم الذين يحكمون الأمر بتجربة، وها هي الديموقراطية قادمة، فلا عذر بعد"؟ وتكاد تكون هذه مشورة متأخرة الى السياسة الأميركية بالنهج الذي كان عليها ان تنهجه في إعدادها لخلافة صدام حسين. فينبغي مباغتة الأميركيين والعراقيين قبل "قدوم" الديموقراطية ونقل السلطة الى العراقيين. والزرقاوي يقر للديموقراطية بسد ذرائع الاقتتال والحؤول دونه، على خلاف مذهب دول الجوار، او معظمها، في المسألة، وعلى مذهب دول الائتلاف وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الأميركية. وآلة المباغتة ووسيلتها هي الحرب الأهلية، المذهبية والقومية. فعلى رغم ان العراق "فسيفساء سياسية وخلطة عرقية وتباينات مذهبية طائفية"، ليس الاقتتال تلقائياً، ولا يأتي عفو خاطر الجماعات. وهذا رابع عناصر البنية السياسية والفكرية اللينينية في مقالة أخي "الأخوين". فهو يدعوهما الى التوسل ب"الحزب المجاهد"، الفولاذي والمركزي التنظيم، وإعماله في الموضع الضعيف، "الحلقة الأضعف"، من نسيج العراق بعد سقوط صدام حسين، وقبل قيام حكومة مركزية وديموقراطية مستقلة ووطنية. فإذا استُدرج العراقيون الى الاقتتال جماعات ومذاهب، يقول صاحب المقالة "استطعنا ان نخلط الأوراق". وأما كيف يحصل هذا، فأمره بيّن وواضح: "الحل الوحيد ان نقوم ]اصحاب الزرقاوي وبن لادن والظواهري[ بضرب الشيعة، الدينيين منهم والعسكريين منهم، وغيرهم من الكوادر، الضربة تلو الضربة، حتى يميلوا على اهل السنة". وهذا ما انصرف إليه القوم منذ خلع صدام حسين. فاغتالوا كل من وصلت إليه ايديهم، ومن يأملون في ان يدعو اغتيالُه انصارَه وأصحابه وعصبيته الى "الميل" على عراقيين آخرين، وقتلهم والثأر منهم. ويسمي الزرقاوي سياسته "إدخالاً للأمة في المعركة" الفاصلة، او ام معاركه. ويتوقع الزرقاوي ان يؤدي قيام الجماعة العراقية المثخنة جراحاً واغتيالاً على الجماعة الأخرى التي يتولى هو وجماعته وجهازه الاغتيال والقتل باسمها وهذا جهاد جهازي، على مثال الماركسية الجهازية الطليعية، فتقع حرب إبادة اهلية. ويعول الرجل على حرب الإبادة هذه ليحمل العراقيين الشيعة على قتال العراقيين السنّة. فإذا بادرت القوات الأميركية الى الحؤول بينهم وبين قتال مواطنيهم، عمدوا الى قتالها. "وهذا ما نريد". فتميل "العامة" الى حزبه وجهازه "شاؤوا ام أبوا". وعندها "يكون المجاهدون قد امنوا لهم ارضاً ينطلقون منها في ضرب اعدائهم في عقر دارهم، مع توجيه إعلامي واضح" يتولاه جهاز "فضائي" مدرب من غير شك، "ومع ... عمق استراتيجي، وامتداد بين الأخوة في الخارج والمجاهدين في الداخل". فالثورة العالمية على الأبواب، وشرارتها العراق، وأمميتها هي "الجبهة الإسلامية العالمية". والحروب الأهلية بين اهل الإيمان وبين أهل الكفر والنفاق هي الطريق إليها، وهي الوجه المحلي والمخصوص للحرب على الجبهة العالمية. وأركانها "العلمية" ثلاثة. وتراثها عريق. وتاريخها الملفق والمنتحل بمتناول اليد. ومقالة الزرقاوي تكاد تكون رسالة جامعة في سياسة الإسلاميين المحدثين والثوريين، وربما في سياسة غيرهم من ملهمي الحروب "الأهلية" وقياداتها "الحكيمة"، من غير ان يعني الأمر اقتباساً او نحلاً مدركاً وإرادياً. فالسؤال الذي يسأله الرجل ومن على شاكلته، هو سؤال عن العمل الثوري والجهادي ب"ارض" غير مؤاتية، وفي ناس ينتظرون الأمن و"العسل" بفارغ صبر، وفي زمن محنة لا تتميز المصالح فيه من المفاسد. فلا "الأرض" تحمل على الجهاد والثورة، ولا الناس يريدونهما ويصبون إليهما، ولا الوقت يرهص بهما و"يحبل". فهو سؤال "إرادوي" خالص، ويصدر عن خارج ليس بينه وبين موقع السؤال اي "الأرض" والناس والوقت ملابسة او تعلق ومناسبة. وهذا ما يدعو الطليعة الزرقاوية، شأن الطلائع اللينينة والخمينية والقومية وغيرها، الى تنصيب نفسها "ولياً" على المجتمعات القاصرة و"الأمم" الجاهلة والكافرة، وقابلة ولادتها ولادة قيصرية، سوية وعادلة. ولعل لينينية البنية السياسية والفكرية، وعناصرها، قرينة على مجافاة "الطليعة" مجتمعها او امتها، من وجه، وعلى مواتاة هذا الضرب من المجتمعات المزاعم الطليعية الجهادية والثورية، وانقيادها لها، من وجه آخر. ولا تنفك "المقاومة" الزرقاوية، على رغم فظائعها وانتهاكاتها وأصولها ومصادرها، قطب مشاعر وآراء ومنازع كثيرة وشائعة. ف"اخواننا في افغانستانوالعراق" وفلسطين "غائبة" عن المقالة يغشون الخطب والمقالات المأذونة، والسياسات والديبلوماسيات "الحديثة" و"المحاورة". وهزيمة الزرقاوي وأصحابه لن توقعها المجتمعات التي يعيثون فيها مصلحة او فساداً، لا يدرون، بل قوى تعاديها هذه المجتمعات على نحو ما تعادي نفسها. * كاتب لبناني.