كلها ساعات، بالكثير يومين ثلاثة، ويذهب الناخب الأميركي إلى صندوق الإقتراع... فنعرف بعدها من سيصبح رئيساً للولايات المتحدة للسنوات الأربع التالية. هناك مرشحان متنافسان. أحدهما جورج بوش المتمترس في البيت الأبيض. والآخر جون كيري الساعي إلى البيت الأبيض. بالتأكيد أحدهما سيفوز والآخر سيخسر. الحكاية بسيطة والنهاية متوقعة والفيلم مسلٍ والسيناريو سلس متدفق. لكن هناك سيناريواً آخر: بافتراض أننا عرفنا من سيصبح رئيساً لأميركا فإن هذا مجرد عنوان القصة. أما المضمون فقد يجيء تأكيداً للعنوان أو نفياً له. قد يكون الرئيس جورج بوش لكن الكونغرس بمجلسيه يجيء بغالبية من الحزب الديموقراطي. غالبية معارضة. هذا يعني عملياً تقييد يدي الرئيس في السياسة الخارجية وتقييدها بدرجة أكبر في السياسة الداخلية لأن الكونغرس في هذه الحالة سيسترد لياقته السياسية في العمل كطرف موازن أو كابح للرئيس وإدارته. وفي أقل القليل سيصبح جورج بوش في مدة رئاسته الثانية مضطراً إلى التعامل مع الكونغرس كشريك في صوغ سياسات الإدارة وليس كتابع لها كما حدث استثنائياً في فترة رئاسته الأولى... خصوصاً في السنتين الأخيرتين منها. هذا يعني أيضاً أن الناخب الأميركي استلهم من جديد روح الدستور الأميركي الذي رسم توازناً دقيقاً بين السلطات. أو: قد يفوز جورج بوش برئاسة ثانية ومعها كونغرس يسيطر عليه حزبه الجمهوري. هذا لن يعني فقط امتداداً للوضع الحالي لكن سيعني أيضاً أن يتصرف الرئيس وحزبه على أنهما حصلا على تفويض مفتوح من الناخب الأميركي بالاستمرار في سياسات الرئاسة الأولى. المزيد من الحروب الوقائية والاستباقية خارجياً والمزيد من الاستئساد داخلياً على فقراء الأميركيين لحساب كبار أثريائهم. لن يستمر 45 مليون أميركي فقط تحت خط الفقر لكننا سنصبح أمام نموذج أكثر شراسة من الرأسمالية المتوحشة التي يحاول الحزب الجمهوري أيضا تصديرها إلى العالم. أو : قد يفوز جون كيري بكرسي الرئاسة في البيت الأبيض وحزبه الديموقراطي بالغالبية في مجلسي الكونغرس. هذا يعني أن الناخب الأميركي فاض به الكيل ويريد مراجعة جذرية لمجمل السياسات القائمة داخليا وخارجيا. عندها سنرى العالم في غالبيته يتصالح مع أميركا ونرى أميركا تتصالح مع نفسها وتتحول السنوات الأربع الماضية إلى كابوس سابق يتولى المؤرخون مهمة رصد وتحليل دوافعه وتكلفته بأثر رجعي. أو : قد يفوز جون كيري لكن بغالبية معارضة من الحزب الجمهوري في الكونغرس، أو بالقليل في أحد مجلسيه. في تلك الحالة سيعتبر الجمهوريون أن جون كيري موجود في البيت الأبيض كمجرد ضيف موقت وعابر سبيل لمدة أربع سنوات يستردون هم بعدها البيت الأبيض باعتبارهم أصحابه الأصلاء. وخلال تلك المدة سيقاتلون في الكونغرس صباح مساء لتحويل حياة الرئيس الجديد إلى جحيم. في كل السيناريوهات السابقة وتنويعات عليها هناك افتراض أساسي جوهره أن الرئيس الفائز أيّاً كان سيجيء فوزه الانتخابي واضحاً حاسماً قاطعاً بفارق مؤكد من الأصوات الانتخابية وبنتيجة يقتنع بعدها المنتصر والمهزوم بأنها منصفة وطبيعية وتتفق مع المزاج العام. لكن المشكلة الأخطر ستبدأ إذا تكرر ماجرى في انتخابات سنة 2000. أولاً كان التصويت الشعبي المباشر لمصلحة المرشح الديموقراطي ألبرت غور بأكثر من نصف مليون صوت. وبأي مفهوم ديموقراطي كان يجب أن يصبح غور تلقائياً هو رئيس أميركا. لكن الديموقراطية الأميركية هي كالرأسمالية الأميركية لا تتصرف أبدا باستقامة. هي من الأصل ابتدعت حيلة عنوانها"المجمع الانتخابي" لتمارس من خلالها رقابة لاحقة على التصويت الشعبي قابلة به أو رافضة له حسب الأحوال. ما جرى في انتخابات سنة 2000 كان هو الأسوأ في كل التاريخ السياسي الأميركي. فباحتساب 537 صوتاً زائدة فقط لمصلحة جورج بوش في ولاية واحدة هي فلوريدا انقلب الميزان. وبشكوك قوية بالتزوير طال الجدل بما أدخل السلطة القضائية طرفاً في الموضوع. ولأن السلطة القضائية في النظام الأميركي مسموح لها بالتسيس والانتماء السياسي المعروف مسبقاً صدر حكم المحكمة العليا لمصلحة جورج بوش بفارق صوت واحد فأصبح رئيساً للدولة بذلك الحكم القضائي. حكم لم يستوعبه العالم كله خصوصاً في الدول العريقة ديموقراطياً. ابتداء من بريطانيا الديموقراطية الأقدم إلى الهند الديموقراطية الأكبر ولكن ليس في أميركا الديموقراطية الأعلى صوتاً. انما الأكثر أهمية من كل هذا هو هو أنه منذ سنة 2000 استمر نصف الناخبين الأميركيين على الأقل مقتنعين تماماً بأن نتيجة الإنتخابات جرت سرقتها منهم بجرأة... وفي وضح النهار... وبتلفيق قانوني. من وقتها جرت أمور عدة زادت الطين بلّة. وكبداية.. بدل أن يلجأ جورج بوش وادارته إلى تضميد الجراح والتصالح مع النصف الرافض من الناخبين جاء سلوكهما عكسيا تماما. في التاريخ السياسي الأميركي القصير نسبيا كان جون كوينزي آدامز أول رئيس يواجه مثل هذا الموقف، وهو أيضا كان ابنا لرئيس سابق للجمهورية. في خطابه الافتتاحي توجه إلى الأميركين قائلا :"بما أننى، ومن البداية، الأقل تمتعا بثقتكم من أي رئيس سبقني.. فأنني مدرك بعمق كم سأحتاج كثيرا وغالبا لتسامحكم وغفرانكم". مثل تلك الصياغة الاعتذارية المتواضعة غابت تماما من خطاب جورج بوش منذ تولى الرئاسة رسميا في كانون الثاني يناير 2001. بالعكس... تصرّف كما لو أنه جاء بفوز انتخابي كاسح يلزم المعارضة بالسير في ركابه وليس هو الذي يلتزم بالتصالح مع المعارضة. هكذا انطلق مثلا في تخفيضاته الضرائبية الكاسحة لحساب اثرياء الأميركيين بل كبار أثرياء الأميركيين على حساب الطبقة المتوسطة وفقراء الأميركيين. لم يتوقف في أيّة نقطة لمراجعة سياساته تلك حتى حينما تحول فائض الموزانة الذي استلمه إلى عجز خطير متزايد، ولا حينما أصبح أول رئيس منذ سبعين سنة تنتهي رئاسته الأولى بفرص عمل أقل وتحول مليون مواطن جديد إلى سوق البطالة. لم تكن ادارة جورج بوش يمينية فقط بالمنظور الأميركي وانما متطرفة في يمينيتها داخليا وخارجيا. تأكد هذا أكثر وأكثر حينما حقق حزبه الجمهوري الحاكم في سنة 2002 غالبية في مجلسي الكونغرس لم تكن ممكنة الا بتطور بالغ الأهمية هو أحداث 11/9/2001 الأرهابية، والتي أتاحت لجورج بوش وادارته فرصة ذهبية لفرض مناخ سياسي من الخوف والترويع والحصول على سلطات استثنائية كاسحة بقوانين مررها الكونغرس بلا مناقشة. قانون الطوارىء مثلاً ويسمي القانون الوطني تم تمريره في مجلس الشيوخ بغالبية 98 صوتاً ومعارضة صوت واحد. تطور غير مألوف بالمرة في السياق الأميركي. يكفي، من بين أشياء أخرى، أصبح من سلطة أجهزة الأمن الأميركية اعتقال أي مواطن بلا تهمة ولا تحقيق ولا محام ولا حتى محاكمة ولمدة مفتوحة. باسم الأمن أيضاً أصبحت الجامعات الأميركية ملتزمة بأطلاع الأجهزة المختصة سراً، وأولاً بأول، على كل ما لديها من سجلات عن الطلبة والأساتذة، وبغير علم أو معرفة الأطراف المعنية. حتى المكتبات عامة وخاصة أصبحت ملتزمة قانونياً تسليم أجهزة الأمن أولاً بأول ملفات بأسماء زبائنها وعناوين وموضوعات الكتب التي اشتروها أو استعاروها، وبغير علمهم أو استئذانهم. كل هذا وغيره كثير كان تمريره ممكناً فقط لأن الإدارة فرضت مناخاً من الخوف والهوس بأن الأرهاب يهدد المواطن الأميركي عند كل ناصية والأعداء متربصون في كل شارع ومسحوق الانثراكس القاتل وصل إلى كل رسالة و"آخرون"كثيرون في العالم كارهون لأميركا وحاسدون لها ومصممون على ارهابها... الخ. من يعترض على هذا الهوس أو حتى يطالب بمناقشته يتعرض لسوط الأتهام بالخيانة، أو بالقليل النقص في الوطنية. حينما أرادت ادارة جورج بوش من الكونغرس تفويضاً بالحرب في العراق رفض بوش اعطاء الكونغرس أية بيانات أو معلومات حقيقية عن دوافع تلك الحرب أو حتى مجرد أرقام تقديرية بكلفتها. أولاً: اعطونا التفويض بالحرب... وبعدها ربما نتحدث معكم عن الكلفة... وبالتقسيط. في السياق نفسه مارست الإدارة حملة منهجية غير مسبوقة لتضليل الرأي العام الأميركي من خلال اعلام تسيطر عليه وتتملكه شركات كبري ذات مصالح مالية مع الإدارة فتحول الأعلام خصوصاً التليفزيوني منه إلى بوق لأكاذيب الإدارة. وبعد انكشاف بعض الحقائق حاول أعضاء في الكونغرس استرداد دورهم الرقابي الغائب ففرضت عليهم الإدارة شروطها بالكامل، ومن بينها حجب الجزء الملموس من الحقائق إلى مابعد الانتخابات، وكله بحجة الأمن القومي. لا أحد في العالم محتاج إلى التطفل على أميركا في شؤونها الداخلية. المشكلة هي أن أميركا قوة عظمى. وبتلك الصفة فرضت نفسها على العالم.. وبخشونة وعنجهية.. خصوصا منذ أعلن جورج بوش وادارته عقيدتهما الأمنية الجديدة في أيلول سبتمبر 2002. عقيدة جوهرها حق أميركا المطلق في شن ماتراه من حروب استباقية ووقائية ضد الآخرين بامتداد العالم.. خصوماً وحلفاء. تطلع امبراطوري كان بدأ يظهر في واشنطن على استحياء في سياق تفكك الاتحاد السوفياتي سنة 1991، بعدها تبلور في 1996 عبر وثيقة أعدها ريتشارد بيرل ودوغلاس فايث وآخرون سلموها إلى بنيامين نتانياهو في إسرائيل لكي تتوقف عن أيّة تسوية سياسية في المنطقة وتنضم إلى مولد"التركيز على ازالة صدّام حسين من السلطة في العراق". بعدها بسنتين كان دونالد رامسفيلد وبول ولفويتز وريتشارد بيرل من بين 18 وقّعوا على رسالة مفتوحة موجهة إلى الرئيس بيل كلينتون يقررون فيها أن تغيير النظام في العراق"يجب أن يصبح هدفا للسياسة الأميركية"كخطوة أولى في المنطقة. ما جرى بعد ذلك وعواقبه أصبح أحداثاً مستمرة معنا والعالم لسنوات طويلة تالية. لكن الانتخابات الوشيكة في أميركا تضع الناخب الأميركي أمام اختيار حاسم وبالغ التأثير في أميركا وفي العالم أيضاً. العالم نفسه الذي رفض من اللحظة الأولى ارهاب 11/9/2001 وتضامن مع الشعب الأميركي ضده. جورج بوش وادارته اغتصبا هذا التضامن وانقلبا عليه بسياسات تالية حولت المسرح الدولي إلى غابة مفتوحة لحساب الطبعة الإمبراطورية الجديدة من أميركا. دعاة الإمبراطورية يقاتلون بشراسة ليستمروا في مناصبهم ومصالحهم لأربع سنوات أخرى، ولحساب نفس الشركات الكبرى اياها في المجمع الصناعي العسكري البترولي متوحش الأرباح والنفوذ والسطوة السياسية والأهداف الإمبراطورية. كلما عدت إلى تاريخ العالم استقرئه مرة بعد مرة أجد أمامي الدرس نفسه متكرراً. كل الإمبراطوريات السابقة أعطاها الله العقل أولاً، وبعدها العضلات. في الحالة الأميركية نحن أمام العكس. لقد أتاحت السماء لأميركا العضلات أولاً. لكن العقل مؤجل حتى اشعار آخر. خلال ساعات، وبالكثير يومين ثلاثة، سنعرف ماهو الاشعار الآخر. * كاتب مصري.