بشكل متسرع ومتناقض فيما بعد بدأت الإدارة الأميركية أخيراً بتسويق فكرة عقد مؤتمر دولي - اقليمي عن العراق، بعدما أعلن كولن باول وزير الخارجية الأميركي في 26/9/2004 ان الولاياتالمتحدة والحكومة العراقية الموقتة التي عيّنتها الولاياتالمتحدة وتنفق عليها ترغبان في تنظيم مثل هذا المؤتمر، لينعقد في إحدى الدول العربية، ومن بين المدعوين لحضوره الدول الصناعية الثمانية الكبرى والدول المجاورة للعراق بما فيها ايران وسورية. بالتوازي مع ذلك أعلنت الأردن أن المؤتمر سينعقد في مصر وهدفه النظر في الأمور المتعلقة بالديون واعادة تعمير العراق والإنتخابات. أي انه مؤتمر آخر، غير ذلك الذي يرغب الأردن في استضافته. في هذا السياق تباينت رؤية المؤتمر المطروح أميركياً بالأساس ما بين أطراف اقليمية ودولية عديدة. والتساؤل الأول يتعلق بهدف المؤتمر خصوصاً، وهناك مؤتمر دولي متفق عليه مسبقاً ومقرر انعقاده في اليابان منتصف الشهر الجاري لمتابعة التقدم في تسليم المنح التي تعهدت بها دول عدة للعراق. فبإلحاح أميركي سابق إلتزمت دول حليفة لأميركا أو مسايرة لها في مشروعها العراقي بثلاثة عشر بليون دولار لم يصل إلى العراقيين منها سوى بليون واحد من اليابان. وفي حينه أفحمت أميركا تلك الدول بأنها هي نفسها أي أميركا اعتمدت في موازنتها 18.6 بليون دولار لإعادة إعمار العراق. لكن بعد 18 شهراً تبين أن أميركا لم تنفق من هذا المبلغ فعلاً سوى أربعمئة مليون دولار، وأنها قررت أخيراً أن تسحب منه ثلاثة بلايين ونصف بليون دولار لتوفير مزيد من الأمن للقوات الأميركية ذاتها المستمرة في احتلال العراق. أهم من كل هذا أن أميركا لا تطلع دولة واحدة ولا حتى الحكومة العراقية على أوجه انفاق عائدات تصدير البترول العراقي ماضياً وحاضراً. يتعلق التساؤل الثاني بتوقيت الدعوة للمؤتمر، اذ دخلت الولاياتالمتحدة في حمى السباق الإنتخابي داخلياً، وهو سباق يزداد سخونة وعصبية يومياً بين الرئيس الحالي جورج بوش ومنافسه المعارض جون كيري. في هذا الإطار بدت الدعوة للمؤتمر وكأنها اختطاف لفكرة جعلها المنافس المعارض جزءاً من برنامجه الإنتخابي الذي ينوي تنفيذه فيما لو أصبح رئيساً. وتأكدت الملابسات أكثر فأكثر من حرص إدارة جورج بوش على سحب البساط من تحت أقدام المعارضة الداخلية التي تشكو من عزلة أميركا دولياً وفشل مشروعها الإمبراطوري في العراق وإصرارها على احتكار الحل والربط في الساحة الأقليمية والدولية حتى على حساب مصالح حلفائها المؤيدين والمعارضين لها على السواء. يتمحور التساؤل الثالث حول مكان وطبيعة المؤتمر. فحسب الطرح الأميركي تريد الإدارة عقد المؤتمر في مصر أو الأردن كاحتياطي وأن تنحصر مهمة المؤتمر فقط في دعم رؤية الإدارة الأميركية الحالية للموقف في العراق، وبالتبعية دعم الحكومة العراقية الموقتة التي أبدع رئيسها خلال زيارته المبرمجة الأخيرة إلى واشنطن التزاما بصقور الإدارة الأميركية وتعبيرا عن بالغ الشكر والإمتنان لقيام أميركا ب"تحرير"العراق والإصرار على أن التقدم مدهش والعقبات بسيطة والنصر مؤكد في نهاية المطاف ضد الإرهاب وأعداء الحرية والديموقراطية... نفس القاموس الإنتخابي الداخلي لجورج بوش وإدارته. ثم تجيء الدعوة الأميركية إلى هذا المؤتمر لتقرر مسبقاً حضور الدول المجاورة للعراق، بما يعني رسالة انتخابية داخل أميركا ذاتها بأن المحيط الإقليمي للعراق متناغم مع الإدارة الأميركية ومتجاوب معها لتسهيل مشروعها العراقي. فلنتذكر أولاً أن الحكومة العراقية الموقتة الحالية كانت بدأت منشورها السياسي برفض أي دور لدول الجوار هذه تحت عنوان أنه تدخل في الشؤون العراقية. نتذكر ثانياً أن نصف دول الجوار متجاوب أصلا مع الإدارة الأميركية كل لأسبابه الخاصة بينما نصفها الآخر تطارده الإدارة بسوط متلاحق من الإنذار والترهيب والعقوبات الحالية أو التالية اذا لم تُبْدِ تعاوناً كافياً مع المشروع الإمبراطوري الأميركي في العراق. من هنا سيكون بعض الحضور الأقليمي في هذا المؤتمر استدعاء قهرياً، فقط لأن هذا يخدم في الظرف السائد مصلحة انتخابية داخلية لجورج بوش وادارته. المضمون في هذه المرحلة لا يهم ويتقرر تالياً. انما المهم للإدارة حالياً هو الصورة وانعكاسها انتخابياً في الداخل الأميركي. لكن الدعوة الأميركية للمؤتمر تتضمن أيضاً باقي الدول الصناعية الثماني الكبرى. اليابان هنا في المقدمة. اليابان دولة كبرى مستقلة وحليف ثابت لأميركا وترتبط معها بمعاهدة أمنية راسخة"تستضيف"بمقتضاها قواعد عسكرية أميركية على أرضها وجنودا أميركيين تسدد ستين ألف دولار لأميركا سنوياً عن كل واحد منهم. هي أيضاً أكبر مستثمر في سندات الخزانة الأميركية وبالتالي أكبر داعم للعملة الأميركية في السوق الدولية. أما الأكثر أهمية فهو أن اليابان لم يكن لها في أي وقت خصامات في أو مع العالمين العربي والإسلامي ولا كانت لها أطماع استعمارية في البترول مع أنها تغطي معظم وارداتها البترولية من دول الخليج. في حرب أميركا الأولى ضد غزو صدّام حسين للكويت تضامن العالم كله رافضاً للغزو، وبالتالي قبل عن طيب خاطر قيادة أميركا لتحالف دولي اقليمي تحريراً للكويت. في حينه أذعنت اليابان لطلب أميركي بأن تدفع لها أي لأميركا 13 بليون دولار"مساهمة"في تكاليف تحرير الكويت. وحين تأخر التسديد بضعة أشهر لإجراءات برلمانية داخلية طالبتها أميركا بتسديد فوائد إضافية عن مدة التأخير. كان هذا في العام 1991. لكن الموقف في الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 بدا مختلفاً تماماً. هذا مشروع امبراطوري أميركي يتم بقرار منفرد ضد مشروعية الأممالمتحدة والمجتمع الدولي بغالبيته. لا أحد كان في قدرته منع القوة الإمبراطورية الأميركية من الدخول في مغامرات على هواها ولخدمة مصالح تحددها هي، في المقدمة منها قطع الطريق على أيّة دولة منافسة أو مجموعة من الدول من الإستقلال عن المشيئة الإمبراطورية الجديدة. في الحال اليابانية تحديداً تجاوز صقور الإدارة الأميركية كل ما سبق. لم يعد مطلوب من اليابان فقط دفع أموال في احتلال للعراق لم تكن اليابان طرفاً فيه وانما المطلوب منها أيضا فوق الأموال وقد سددت فعلا بليون دولار المساهمة بقوات عسكرية حتى ولو كان الدستور الياباني يمنع ذلك. انه بالمناسبة دستور كانت الولاياتالمتحدة نفسها هي التي صاغته وفرضته على اليابان بعد احتلالها نتيجة للحرب العالمية الثانية. المساهمة العسكرية اليابانية في المشروع العراقي لاتضيف كثيرا إلى القدرة العسكرية الأميركية، لكنها تدخل اليابان للمرة الاولى في خصام مع منطقة غير متقاطعة مع المصالح اليابانية. من هنا جربت اليابان عمل حملة اعلانية في المحطات التلفزيونية العربية تقسم فيها أن جنودها الذاهبين إلى العراق بطلب أميركي هم فقط لمهام انسانية لا علاقة لها بالاحتلال. انه اعتذار ضمني مسبق موجه إلى الضحايا. لكنه أيضاً يطرح اليابان كدولة تابعة لمشروع امبراطوري ليس في صالحها أساسا. وزيادة في التأكيد تتباحث الإدارة الأميركية أخيراً مع اليابان حتى توافق الأخيرة على توسيع مهمات القواعد العسكرية الأميركية في اليابان لتشمل مهمات عسكرية أميركية هجومية تمتد إلى الشرق الأوسط. من بين الدول الثماني الكبرى أيضاً هناك من اختار لنفسه من البداية ومن قبل البداية موقف التبعية الكاملة للمشروع الإمبراطوري الأميركي. توني بلير رئيس وزراء بريطانيا مثلاً أخذ على عاتقه مهمة تسويق هذا المشروع. وهو مستمر في تقمص الدور تصوراً منه أنه بعضلات مستعارة من أميركا قد يحصل على نصيب أكبر من معادلة البترول وقد تصبح قامته أطول داخل الإتحاد الأوروبي. انما من بين الدول الثماني الكبرى أيضا هناك روسيا وفرنسا المطلوب أميركياً استدعاؤهما لحضور هذا المؤتمر الذي تريده الإدارة الأميركية بصيغة تسمح لجورج بوش وادارته التبشير به أمام الكاميرات على انه مؤتمر دولي. فكرة المؤتمر بحد ذاتها سبق لفرنسا وروسيا اقتراحها في العام الماضي ولكن بمهمة مختلفة جذرياً. في حينها اعتبرت الإدارة الأميركية أن مبدأ"تدويل"المسألة العراقية هو كفر وزندقة. الآن في سنة 2004 وبعد كل ما جرى واصطدم به المشروع الإمبراطوري الأميركي في أرض الواقع تعود الإدارة الأميركية لكي تستعير فكرة المؤتمر الدولي / الإقليمي، انما من غير مضمونها. جزء أساسي من المضمون هو السؤال الجوهري: هل ستقبل الإدارة الأميركية طرح مبدأ الإنسحاب من العراق، حتى ولو بجدول زمني محدد وعلى مراحل وبشروط مريحة؟ واذا كان الرد ايجابياً. فلماذا لاينعقد المؤتمر في الأممالمتحدة بنيويورك وتحت سقف القرار 1546 الذي أصدره مجلس الأمن في حزيران يونيو الماضي بإلحاح أميركي، لكن أميركا لا تريد أمماً متحدة ولا مجلس أمن. لا تريد أيضاً أيّة مناقشة لإنسحاب أو حتى جدول بالإنسحاب. باختصار لاتريد الإدارة الأميركية أي انطباع بالتراجع عن مشروعها الإمبراطوري لأن الإدارة ومشروعها أصبحا متلازمين بحيث ينجحان معا أو يسقطان معاً. اذن، فلننسَ هذا المؤتمر موقتاً، ومعه أيضاً أوهام العودة الأميركية إلى المجتمع الدولي. لنتكلم فقط في سعي الإدارة لتعويم نفسها ومشروعها انتخابياً، وفي الدعم الهائل الذي تحصل عليه من الشركات العملاقة بالمجمع العسكري الصناعي البترولي، وفي الجهد المحموم حالياً لإعادة تسويق مشروع امبراطوري يتعثر بشدة في أرض الواقع، بدءاً من أفغانستان ووصولاً إلى العراق واستعداداً لما يستجد اذا حصلت الإدارة الأميركية الحالية على أربع سنوات أخرى في السلطة. فكما في عمليات تبييض وغسل الأموال غير المشروعة، فإن التركيز الإنتخابي لجورج بوش وإدارته من الآن وحتى الثاني من الشهر المقبل هو على تبييض وغسل السياسات التي جعلت أميركا في عزلة دولية غير مسبوقة. وبمثل هذا المؤتمر الدولي/ الإقليمي الوشيك يأمل المحافظون الجدد في واشنطن بفك تلك العزلة ولو موقتاً، فضلاً عن توريط أطراف اقليمية ودولية في تعويم مشروع إمبراطوري، ببترول العراق، وجنود الآخرين إذا تيسّر. * كاتب مصري.