منذ نشوء الإسلام طغى على الفكر العربي المسيحي هاجس اثبات العقائد اللاهوتية المسيحية، ولا سيما في مسألتين أساسيتين: الإيمان التوحيدي، وشخص يسوع المسيح. لذلك، تجنّد الكتّاب المسيحيون، وجلّهم من الفلاسفة أو من الذين حصّلوا قدراً كبيراً من الفلسفة اليونانية، للدفاع عن العقائد المسيحية في وجه التحديات التي أوجدها الإسلام، انطلاقاً من القرآن الكريم وصولاً الى المفكرين المسلمين الكبار. فانعقد الكثير من الجلسات الجدالية، ووضعت مقالات جدالية وصلنا البعض منها منحازاً لطائفة مدوّنها، والبعض الآخر اندثر. وتجدر الإشارة في البدء الى ان الجدال المقصود في هذه العجالة هو غير "الحوار الإسلامي - المسيحي" الذي يعبّر عن نمط ثقافي جديد ساد خلال القرن المنصرم وما زال سائداً. وعلى رغم قلة النصوص المحققة والمنشورة في شأن الجدالات الإسلامية المسيحية القديمة، يسعنا من خلال ما هو منشور أن نعرض لأبرز المواضيع التي تناولتها تلك الجدالات، وبخاصة من جانب المجادلين المسيحيين. ومن المعلوم ان الجدالات المنشورة تتفاوت في قيمتها العلمية والأدبية، فمنها ما هو رفيع المستوى يستعمل الحجج والبراهين الفلسفية وعلوم العصر واللغة الأنيقة والاحترام الكامل للآخر، ومنها ما هو مبتذل يصل حد الإسفاف. أما أهم المواضيع التي تناولها المجادلون المسيحيون في مقالاتهم فكانت تحت عناوين ثلاثة: التوحيد والتجسد والدين القويم. فتأكيد التوحيد في المسيحية مع الإيمان بالثالوث كان ضرورياً لدرء شبهة الشرك عنهم. لذلك عمل المفكرون المسيحيون على توضيح توحيدهم، ويسعنا في هذا الصدد أن نذكر طيموثاوس الجاثليق البغدادي ت 823، وثيوذورس أبا قرّة أسقف حران ت 825، وخصوصاً يحيى بن عدي ت 974 الفيلسوف الشهير الذي استعمل كل معرفته بفلسفة أرسطو من أجل البرهان على التوحيد المسيحي، وغيرهم ممن بنوا على من سبقهم. لا شك في أن أهم مسألة تعرضت للتشريح والجدال هي مسألة تجسد كلمة الله في شخص يسوع المسيح. وقد قارب هذه المسألة أغلب الكتّاب المسيحيين الجداليين من زاوية الكلام على ما أجمعوا على الاصطلاح عليه بمفهوم "جود الله". ويتلخص هذا المفهوم بالقول ان تجسد - أو تأنّس - المسيح هو ثمرة جود الله الكريم الذي جاد بأفضل ما لديه، أي بذاته. ويتابع هؤلاء المفكرون فكرتهم عن الجود الإلهي للإشارة الى ان هذا الجود قد بلغ كماله بصلب المسيح. تبقى المسألة الثالثة، وهي القول بأن الدين القويم والكامل ليس سوى المسيحية، وعندنا مقالة شهيرة لثيوذورس أبي قرّة عنوانها "ميمر في وجود الخالق والدين القويم". انه لمن البديهيات أن يعتبر كل انسان أن ما يؤمن به هو الحق. لكن، لا بد أيضاً من الإشارة، بالمقارنة مع واقع الجدالات الإسلامية المسيحية في عصرنا الحاضر، الى جملة أمور أهمها: أ - أن مواضيع الجدل لم تتغير، كأن أربعة عشر قرناً من الكلام الإسلامي المسيحي عبرت من دون أن تخلّف أثراً. فالجهتان تستعملان الحجج والبراهين نفسها المستعملة قديماً للتأكيد على صحة الإيمان الذاتي وضلال الآخر. ولنا في مؤلف الشيخ حسن خالد "موقف الإسلام من الوثنية واليهودية والنصرانية"، أو في مؤلفات يوسف درّة الحداد مثالاً على هذا الجدال العقيم. ب - كان ثمة في الجدال القديم لغة مشتركة بين الطرفين، بمعنى ان الاصطلاحات كانت مشتركة، والتعابير والألفاظ ودلالاتها واحدة. من هنا، لم يكن ثمّة التباسات في الفهم المتبادل. على العكس من الحال الراهنة، حيث لا تتيح الاصطلاحات المستعملة ايجاد لغة مشتركة تجعل المعرفة الحق عن الآخر كما هو يقدّم نفسه في متناول الجميع. فعلى سبيل المثال، ما عدنا نقرأ في عصرنا الحاضر نصاً عربياً مسيحياً مليئاً بالتعابير الإسلامية، كالذي ورد في كتابات بولس الأنطاكي، أسقف صيدا الأرثوذكسي في القرن الثاني عشر الميلادي، حيث يقول: "الحمد لله الحي الأزلي الحكيم، القادر المقتدر الحليم، الرحمن العالم الرحيم، منشئ كل شيء ومبيده، ومميت كل حي ومعيده، مبدع المكان وموجده، ومحدث الزمان ومنفده، الذي لا تحويه الأمكنة والأقطار، ولا تغيّره الأزمنة والأدهار، ولا يبليه الليل والنهار". ج - ندرة الجدال القائم على أسس فلسفية أو كلامية في عصرنا الحاضر بالمقارنة مع النصوص الجدالية القديمة. ولولا بعض المحاولات الجدّية الخجولة، هنا وثمة، لقلنا بانعدام هذا الجدال الراقي. وفي هذا الإطار يمكن ادراج محاولات السيد محمد حسين فضل الله والمطران جورج خضر في رفع مستوى الجدال الى مستوى البحث العلمي عن القواسم المشتركة بين الديانتين المسيحية والإسلامية، من هنا قول السيّد فضل الله، مثلاً، في مسألة التوحيد المسيحي: "هناك اتفاق على التوحيد، ولكن هناك اختلاف في تفسير عناصر هذا التوحيد" في آفاق الحوار الإسلامي - المسيحي، صفحة 423. لا ريب في أن للسياقات الثقافية والحضارية والتاريخية والاجتماعية دوراً محورياً في تطوّر أي فكر ديني أو ايديولوجي. لذلك، فوجود الإسلام قد أثّر تأثيراً كبيراً في الفكر المسيحي العربي قديماً وحديثاً. وكل فكر منقطع عن سياقه الزمني، ولا يأخذ تالياً في الاعتبار المحيط الذي ينشأ فيه هو فكر عقيم. فلولا الإسلام، لما وجد فكر مسيحي عربي يتميز عن غيره من تيارات الفكر المسيحي العالمي. من هنا، ضرورة انتهاج منهجية جديدة في الحوار المسيحي - الإسلامي تنبذ الجدال الذي لن يؤدي، بحسب الخبرة التاريخية، الى نتيجة نافعة. والدليل أن ثمة جدالات ما زالت تجتر الى اليوم حجج الأمس الغابر وبراهينه السقيمة. ومن سوى المسيحيين والمسلمين العرب مدعو الى وضع أسس هذا المنهجية الجديدة؟ * رجل دين مسيحي. مدير مركز الدراسات المسيحية - الإسلامية - جامعة البلمند لبنان.