} قرأت للصديق وليد نويهض في صحيفة "الحياة" مقالةً ذات حلقتين بعنوان: "دور المناظرات السياسية الاولى في تطوير فكرة التاريخ عند المسلمين" 19 و20 آذار - مارس، 2000، ص21، ولاختلافي معه على عدة امور من بينها المناظرات الكلامية، والمناظرات التاريخية، وفكرة التاريخ، رأيتُ أن أُدلي ببعض الملاحظات طلباً لتعميق الرؤية، وللدقة في قراءة التاريخ الثقافي لأمتنا في عصورها الوسيطة. 1 لا نعرف الكثير عن بدايات علم الكلام في الاسلام. بل إننا لا نكاد نتيقن معنى كلام ومتكلم في بدء استعمالهما في النصف الاول من القرن الثاني الهجري في ما يبدو. وقد اختلف الرأي في هل المعني بالكلام الجدال، ام هو ترجمةٌ للوغوس Logos اي لمفرد لاهوت اليوناني. لكن على اي حال فإن المجادلات الكلامية او العقدية بدأت في النصف الثاني من القرن الاول الهجري وأعني بها الرسائل الجدالية المكتوبة والتي وصلنا منها: كتاب الإرجاء، والرد على القَدَرية للحسن بن محمد بن الحنفية، ورسالة الحسن البصري إلى عبدالملك بن مروان في القدر، ورسالة عبدالله بن إباض في الايمان، ورسالة سالم الإباضي في الدين، ورسالة عمر بن عبدالعزيز في الرد على القدرية. وفي الفترة نفسها كتب يوحنا الدمشقي منصور بن سرجون ميامره مقالاته او رسائله في الرد على الهراطقة ومن ضمنهم المسلمون اذا اعتبرنا مقالتيه في ذلك اصيلتين وليستا منحولتين. واللافت في هذا كله ثلاثة امور: الرؤية، والمضامين، والشكل او الاسلوب. في الرؤية تبدأ الرسائل العقدية والرسائل الديوانية التي كتبها سالم ابو العلاء وعبدالحميد الكاتب عن الديوان الاموي منذ ايام هشام بن عبدالملك ت. 124ه. وحتى نهاية الدولة الأموية بذكر الضلال الذي نزل بالعالم بعد المسيح حتى أنقذ اللّه البشر برسالة النبي صلّى الله عليه وسلم فانصلحت أمورهم، وأقبلوا على المضي في طريق الهدى إلى أن حدثت الفتنة فضلَّ من ضلَّ وتابع سبيل الهداية مَنْ تابع. ولذلك فإنّ كاتب الرسالة إنما يدعو من أضلّته الفتنة للعودة إلى سيرة السَّلَف الصالح صحابة النبي قبل الفتنة في ما يبدو. فالقدريُّ نافي القدر ضد الجبري يدعو خصومه وهم كُثُر لتأمّل آي القرآن ووضعها في سياقاتها الصحيحة. والمرجئي يدعو للتسليم بالايمان لمن صرّح بذلك، وقصر الخلاف على الامور الدنيوية السياسية والاجتماعية، والخارجي يدعو الى الالتزام بظاهر القرآن وسيرة الشيخين، والامويُّ بالاحرى العثماني يدعو لالتزام الجماعة وتجنب الفتنة وسفك الدم. ويتضح من هذا الايجاز ان المرجئة وحدهم كانوا يريدون فصل الايمان عن العمل او الشريعة عن السياسة بعدم اعتبار الاختلافات السياسية اختلافات عقدية. بيد أنّ محاولته هذه لم تنجح، فقد ادّى الصراع الايديولوجي المتصاعد منذ مطلع القرن الثاني الهجري الى سحق هؤلاء المعتدلين كما يحدث في ظروف التأزم عادةً. اما بنية تلك الرسائل او المقالات فقد تمايزت تدريجياً عن بنية الخُطب باعتمادها طريقة السؤال والجواب على سبيل الالزام، او طريقة الفنقلة فإن قلتم كذا قلنا كذا. وهنا يذهب بعض المستشرقين كارل هاينريش بيكر قديماً ويوسف فان اس وتسمرمان من المعاصرين الى استعارة تلك الطريقة الجدالية من متكلمي لاهوتيي النساطرة واليعاقبة في مجادلاتهم اللاهوتية الداخلية وضد المانوية منذ القرن الرابع الميلادي. ويستدلون على ذلك بانصراف المسلمين منذ وقتٍ مبكرٍ نسبياً لمجادلة المسيحيين والمانوية واصل بن عطاء مثلاً: فقد كانوا يعرفون آراءهم وربما عرفوا كتبهم بالترجمة. وهكذا فقد كانت لدى المتكلمين المسلمين الاوائل رؤى تاريخية او تصورات لتاريخ الاسلام الاول، لكنها كانت ضئيلة الاعتماد على الوقائع حتى المتخيّل، وكانوا سرعان ما يلجأون الى عرض مقالاتهم آرائهم العقدية استناداً الى القرآن، وينهمكون في جدالياتٍ ذات طابع دوغمائي همُّها صورة الله عز وجلّ، وطرائق تنزيهه، وعلاقة الانسان به وهل تقع صفحاً ام من خلال صفاته. ولا يمكن الاعتماد على الحاكم الجشمي -494ه. في دراسة طبيعة المناظرات الاولى لأنه متأخرٌ أولاً، ولأن معتزلة عصره غير "المعتزلة الاولى" ليس في المناهج فقط، بل وفي الموضوعات ايضاً. اما رسالته "رسالة ابليس الى إخوانه المناحيس" والتي وردت منها فقرات في الحطِّ على المجبرة والمشبِّهة والكرامية ...الخ فهي موجهة بالتحديد ضد الاشاعرة وإن تناول في فقرة منها الشيعة الإثني عشرية والإسماعيلية بالهجوم. ولم يكن همُّ الخليفة القادر في "عقيدته" عام 408ه. مكافحة المعتزلة الذين كانوا قد تحولوا الى تيار ثقافي بحت، بل كان يريد "تطهير" جهاز الدولة من ذوي الميول الشيعية والمعتزلية من فقهاء الأحناف وقُضاتهم، وبخاصة ان الغزنويين ومن بعدهم السلاجقة كانوا أحنافاً، وكانت الخلافة العباسية تعتمد عليهم لموازنة ضغوط المستولين على بغداد من البويهيين الشيعة الإثني عشرية في الغالب، والفاطميين في مصر والشام الاسماعيلية. والمعروف ان الشيعة الاثني عشرية والزيدية كانوا في القرن الخامس الهجري قد تقاربوا كثيراً مع المعتزلة في الاعتقاد والمسائل الكلامية في ما عدا مسألة الإمامة. لكن أياً يكن الامر" فإنّ رؤى المتكلمين التاريخية لا علاقة لها برؤى المؤرخين، كما انهم لم يسهموا بمناظراتهم وجدالاتهم في تطوير فكرة التاريخ عند المسلمين، لأنهم ضد التاريخ اذا صحَّ التعبير، في عقائدهم من جهة، وفي صُوَرهم المسوِّغة لهذه العقيدة او تلك من جهةٍ اخرى. 2 ... اما بدايات فكرة التاريخ او رؤية العالم لدى الاخباريين والمؤرخين المسلمين فنستطيع تتبُّعها من تأمل بنية كتب السيرة النبوية، وفي طليعتها سيرة محمد بن إسحاق -150ه، وهي تنقسم الى ثلاثة اقسام: المبتدأ العالم من آدم الى محمد، والمبعث اجداد النبي صلى الله عليه وسلّم، وظهور قريش وقصي ومكة التي نعرفها، ودلائل النبوة، والنبي اليتيم والفتى والكهل المبعوث، وعهد النبي بمكة، وهجرته الى المدينة، والمغازي وقائع الغزوات والسرايا، والفتوح الاولى بعد وفاة الرسول. وهكذا نستطيع ان نذهب الى ان رؤية التاريخ وفكرته، والتي تظهر في ذروة تجلّيها لدى الطبري -310ه.، لكن معالمها ظاهرةٌ أيضاً في سيرة ابن إسحاق تبدو على النحو التالي: الزمان تصل بين فتراته او حقبه بل تجعله زماناً تاريخياً بعثات الانبياء والرسل. لكن في ما عدا بني اسرائيل الذين توحدت لديهم النبوة مع المُلْكِ لفترات" فإن النبوة كانت في بني اسرائيل، بينما تداولت المُلْك السيطرة على العالم عدة أُممٍ أهمها الروم اليونان والرومان والبيزنطيون، والفرس، الى ان اورث الله العرب والمسلمين مع بعثة خاتم النبيين النبوة والمُلك على حد سواء. وهكذا فبينما كان "التاريخ" قبل النبي وصفاً لوقائع الصراع بين الانبياء والملوك او الانبياء والأُمم في حال اجتماع النبوة والمُلك بين اسرائيل في فردٍ مثل داود او سليمان، فإنه بعد البعثة المحمدية صار وصفاً او تتبُّعاً لصراعات امة الاجابة والبلاغ المسلمون مع امة الدعوة العالم غير المسلم، كما صار وصفاً وتتبعاً للصراعات داخل امة الاجابة من اجل مطابقة المثال النبوة والخلافة الراشدة فتكون مستعدة لتبليغ العالم بالدعوة والجهاد ام بالدعوة عن طريق الجهاد. إن المشكلة التي تعرض هنا لا تتعلق بكيفية ظهور صورة التاريخ هذه وحسب، بل وبالتمايز تقنياً بين كتابة السيرة، وكتابة التاريخ. فالسيرة النبوية في قسمي المبعث والمغازي يغلب عليها الطابع السردي او التقريري، وحتى التقارير ذات الطابع الاخباري في المغازي مثلاِ طويلة ومبسوطة، ولا تشبه تقارير الاخباريين لدى الطبري والبلاذري، كما أنها لا تُشبه كثيراً روايات المحدّثين للسنة النبوية" حتى عندما يكون الراوي أخبارياً نعرف له تقارير عن الردة والفتوح لدى المؤرخين. فربما عاد ذلك للطابع القدسي للسيرة، بينما لا قدسية لغيرها من الأحداث والوقائع التاريخية. أمّا الأخباريون في القرنين الأول والثاني فهم أحياناً شهود عيان، لكنهم في الغالب رواة عن شهود عيان. ونعرف عن بعضهم تحزبات قَبَلية عوانة بن الحكم الكلبي، ومحمد بن السائب الكلبي أو سياسية أبو مخنف، وسيف بن عمر، لكنّ تلك التحزبات لا تصلُ إلى حدود التناظر أو المجادلة حتى بين المتعارضين" بل جُلَّ ما يمكن لأحدهم أن يفعله تلوين الخبر أو كتمانه. على أنّه وُجد من بينهم أُناسٌ يغلب عليهم الفضول وحب الجمع والاستقصاء حتى لو كانت لهم ميولٌ سياسيةٌ أو قبَلية أو عقدية من مثل هشام بن محمد بن السائب، وشحيم بن حفص، ولاحقاً المدائني والواقدي والهيثم بن عدي. ولا نُحسُّ ونحن نقرأ تقاريرهم ونجمعها ونقارن بينها أنهم كانوا يملكون رؤيةً واسعةً لما يقومون به. بل نبدأ الإحساس بذلك لدى المؤلّفين أو أهل التوليف من متأخريهم. كان الأخباريون يجمعون تقارير عن الردة أو عن فتح الشام أوالعراق أو عن وقعة عين التمر أو وقعة الزاوية ومقتل ابن الأشعت... الخ. أمّا المؤلّفون فنُحسُّ لديهم بالحسّ التاريخي من حيث المنهج في جمع التقارير ومقارنتها ، ومن حيث السَعَة النسبية للفترة، الواقعة أو الشخصية التي يؤلفون التقارير الأخبارية من حولها. ويمكن القول على سبيل المقاربة إنّ فترة الأخباريين تمتدُّ ما بين 100 و200 ه. وفترة المؤلفين ما بين 150 و250 ه. ثم يأتي المؤرخون الذين تظهر لديهم الرؤية السالفة الذكر في مداها الأجلى، كما تظهر لديهم التقنيات التي تتسق مع الفكرة العامة او السياق الذي يهتمون به. فالبلاذري يعود في "فتوح البلدان" الى تقارير الاخباريين غالباً، بينما يعمد في "أنساب الأشراف" الى الجمع بين الأخباريين والمؤلفين. لكنه في الحالتين لا يهتمُّ للإسناد، بل يذكر غالباً الأخباري او المؤلّف الذي نقل عنه الخبر او التقرير. بينما يهتم الطبري المحدّث والفقيه والمفسّر بالسند اهتماماً بالغاً، ولهذا يقوم في الوقت نفسه بعدة اختيارات، اي بعمل شاهد العيان، والأخباري، والمؤلّف. إن هذه العجالة في وصف رؤى واهتمامات ومناهج كلّ من المتكلمين والمؤرخين، تعني أن اولئك المثقفين إذا صحَّ التعبير كانت كتاباتهم تتناول مواطن اهتمامهم، وبالمناهج التي تتناسب وتلك الاهتمامات. فلا يصح القول الا بشيء من التجوُّز إن الموضوعات السياسية غلبت في القرن الاول، بينما غلبت الموضوعات الفكرية في القرن الثاني. وكمثال على ذلك يذكر استاذنا يوسف فان اس في الجزء الاول من كتابه: "الكلام والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة" ان الاهتمام بالعقائد والمجادلات العقدية غلب على القرنين الاول والثاني في ما يبدو، بينما برزت الاهتمامات الفقهية، وصارت لها الاولوية في ما بعد، من دون ان يعني ذلك انه لم تكن بها عناية في القرنين الاولين. كانت تلك ملاحظات اوردتها على سبيل المذاكرة، وأرجو الا اكون قد اطلت. * باحث لبناني