يختلف اللبنانيون حول قضايا كثيرة. منهم مثلاً من ايد التمديد للرئيس لحود ومنهم من عارضه. ولكن الاكثرية من اللبنانيين تقف الى جانب الاصلاح وتتطلع الى التغيير. هذا الاتفاق على الاصلاح وعلى التغيير لا يكفي وحده. فهناك من يسأل بحق: أي اصلاح يريده اللبنانيون؟ واذا اتفق اللبنانيون على الاصلاح، فمن يحمل دعوته ويعمل على تنفيذها؟ واذا اتفق اللبنانيون على معاني الاصلاح ومفرداته، واذا عثروا على حملة الاصلاح ودعاته، فكيف لهؤلاء ان يحولوا الاصلاح من مشروع مرتجى الى واقع نابض وحي؟ هذه التحديات كانت تعترض أي مسعى او مبادرة اصلاحية عرفها لبنان، كما انها تعترض الاصلاح اليوم. المبادرات الاصلاحية الناجحة التي عرفتها مجتمعات اخرى لم توفر اجابات شافية عن هذه التساؤلات، ولا استوفت الشروط المتعارف عليها للاصلاح استيفاء كاملاً، ولكنها وفرت القسط الاكبر منها فكان ذلك كافياً لنجاحها. اما عندنا فقد غلب على دعوات الاصلاح الغموض في الرؤى والتشوش في البرامج. فاذا خلت هذه الدعوات والمبادرات من الثغرات، ارتطمت بضمور قوى الاصلاح، فاذا توافرت للاصلاح البرنامج وقوى الاصلاح الفاعلة، غابت الاستراتيجية الاصلاحية الضرورية لتفعيله. وهكذا بقيت دعوات التغيير في لبنان آمالاً غير محققة، ولبثت التيارات الاصلاحية فيه جماعات هامشية وقوى ضاغطة في افضل الحالات. وحتى عندما اكتسبت النزعة الاصلاحية موقعاً مهماً في السلطة، واعتمدت برنامجاً اصلاحياً معقولاً كما حدث في المرحلة الشهابية، فانها لم تتمكن من الصمود في وجه القوى المحافظة لأنها لم تهتم اهتماماً كافياً ببناء تكتل اصلاحي واسع المدى عميق الجذور تلتزم اطرافه التزاماً جاداً وحقيقياً بالاصلاحات المطلوبة في البلاد. الخروج من هذا الوضع المحبط للآمال والمعطل للمصالح الوطنية يقتضي، ابتداء، التوافق على برنامج وطني للاصلاح. التوافق على مثل هذا البرنامج يتطلب التحاور حول ابرز القضايا التي تشغل اللبنانيين والتي تؤثر على حاضرهم ومصيرهم. كتاب "خيارات للبنان" دار النهار - بيروت، الذي وضعه عدد من اهل العلم والخبرة من اللبنانيين يقدم مشروع برنامج وطني للاصلاح المنشود. محرره، نواف سلام، يصفه بأنه "حافز لنقاش وطني" ينقل السجالات السياسية التي احتدمت قبيل الانتخابات الرئاسية الى مستوى - أكثر عمقاً ووعياً ونوعية ارفع - مما هو قائم حالياً. فإلى أي مدى اصابت تلك الخيارات؟ اين هي من مساعي اللبنانيين لبناء دولة عصرية ديموقراطية عادلة تكون عضواً نشيطاً وأنموذجاً نهضوياً في الأسرة العربية والمجتمع الدولي؟ لبنان لا يشكو ندرة او في مشاريع الاصلاح، او ضموراً في عدد الاصلاحيين، او انحساراً في طموحات اللبنانيين الاصلاحية. بالعكس ان حديث الاصلاح بات شائعاً في لبنان والمنطقة الى درجة انه بات مهدداً باتصافه بطابع الابتذال، وبتحوله الى مران يثير الضجر هذا فضلاً عن الشكوك والمخاوف. "خيارات للبنان" هو ليس اول المساعي الاصلاحية اللبنانية ولن يكون آخرها، ولكنه مبادرة مباركة تسهم في تنزيه فكرة الاصلاح مما علق بها من ظلال سلبية وفي تحفيز الاهتمام بها. انه وثيقة تتصف بميزات مهمة كانت تنقص ما عرفناه حتى الآن من اوراق الاصلاح ومساعيه ومشاريعه. انها كما نلمس عندما نراجع اسماء المساهمين في "خيارات للبنان"، عمل اصلاحي جماعي وليس عمل فرد واحد اتاه الغيب بالقدرة على النظر في سائر القضايا وعلى اجتراح الحلول لكل المعضلات التي يعاني منها اللبنانيون. وقائمة المساهمين تضم اسماء مجموعة مهمة من اهل العلم والكفاية، وهم فضلاً عن ذلك من اصحاب الخبرة والتجربة في العمل الاصلاحي. ولولا الاختصاص والمعرفة لما كان سهلاً ان يجتمع مثل هذا الفريق الكفي وان ينجز دراسات جادة ومختصة في فترة قصيرة نسبية. وينتمي المساهمون في وضع "خيارات للبنان" الى اجواء مختلفة ومتنوعة. انهم يختلفون حول قضايا كثيرة، الا انهم، كما نلاحظ في الكتاب، وكما نعلم عن النهج الذي اعتمد في انجازه، لا يختلفون حول الاصلاح وحول قضاياه. هذه ميزة مهمة يمكن تقديمها مثالاً وحافزاً للبنانيين واللبنانيات للتفكير المشترك في قضاياهم. انهم عندما يحددوا الاولويات بدقة، وعندما تتوافر لهم معرفة كافية بشؤون لبنان والمنطقة، وعندما يضعوا المصلحة الوطنية نصب اعينهم، يتمكنوا من التوصل الى نظرات متقاربة ومواقف مشتركة وحلول جماعية لمشكلات بلدهم. ويتميز "خيارات للبنان" بأن الفريق الذي وضعه يدرك اهمية العثور على فاعل سياسي واجتماعي يحول البرنامج المقترح الى واقع حي. فالتغيير في رأي نواف سلام ممكن "شرط توافر الارادة السياسية". وهذه الارادة السياسية قد توجد لدى الجماعة الحاكمة فتتمكن اذا ما تحلت بالنضج والكفاية وتمثيل الفئات اللبنانية كافة من ايجاد الحلول للقضايا الشائكة والمعقدة على صعيد العلاقات الخارجية مثل تصحيح العلاقات السورية - اللبنانية كما يقول سمير فرنجية. واذا ما توافرت مثل هذه الميزات في الجماعة الحاكمة يمكنها ايضاً ايجاد الحلول للعلاقة بين الاطراف اللبنانية في الداخل فتتوصل الى عقد اجتماعي يحمي العمال ويشجع التوظيف هذا مع رفع الكوابح القانونية عن منظمات المجتمع المدني واشراكها في التخطيط للتنمية الاقتصادية، كما يقترح رمزي الحافظ. ولكن انى للجماعة الحاكمة ان تتحلى بهذه الصفات وان تقدم على هذه الاعمال وهي "القائمة على تقاسم المغانم" بحيث تعجز عن حماية موارد اللبنانيين، كما يلاحظ نجيب صعب؟ وكيف تتمتع الجماعة الحاكمة بهذه السمات وانجبت "عدالة شاحبة حتى الذبول" كما يقول سليمان تقي الدين؟ ومن اين يأتي اللبنانيون بجماعة حاكمة تملك ارادة الاصلاح والقدرة على اتيانه وفيه "سلطة لا تعتبر نفسها مسؤولة تجاه الشعب اللبناني" وهي التي انتجت سياسات اقتصادية غير مسؤولة وفساداً يتعدى طاقة الاقتصاد على التحمل"؟ كما يرى توفيق كسبار. اصحاب "خيارات للبنان" لا يعلقون الآمال الاصلاحية على الجماعة الحاكمة، وانما على الاصلاحيين فلا اصلاح من دونهم. ولئن تأخر الاصلاح فبسبب اخفاق اللبنانيين "... حتى تاريخه، اخفاقاً بيناً في تكوين الاطر الخليقة بفرض التصدر لمصالح المجتمع الحيوية" كما يقرأ احمد بيضون تاريخ النضالات الاصلاحية اللبنانية، ولئن ناشدهم في الاسراع في "تعويض ما تراكم من تأخير..."، فإن محمد مطر يخشى ان النظام السياسي القائم اوغل في افساد الحياة السياسية الى درجة ان اللبنانيين باتوا فريقين رئيسيين: واحد يمارس التماهي والولاء الاعميين، وآخر يعاني من الغربة والاستلاب. ولا يصل مطر الى اليأس، فهو يضع ثقته في الافكار التي تولد التغيير، او بتعبير آخر في حملة الافكار والعاملين على تسويقها كما هو شأن اصحاب "خيارات للبنان". وتنظر فاديا كيوان الى حال الادارة اللبنانية بالمنظار نفسه، فهو متردٍ ومأزوم، كما هو الامر في الدول القومية، اما الاصلاح فانه ممكن شرط ان يتحول حملة تلك الافكار ومسوقوها الى "قوى ضاغطة خارج المركز السلطة ومتمايزة عنه..." ما لم يحصل ذلك، فان السلطة، كما يقول عدنان الامين، لن تهتم كثيراً بالمطالب، فالتجارب تقول ان الحقوق والمطالب معرضة للضياع اذا لم يكن وراءها مطالبون حتى ولو كانت تتعلق بواحد من اهم رساميل لبنان أي التعليم والمعرفة. "خيارات للبنان"، يدفع بالعمل الاصلاحي في لبنان خطوات كبيرة الى الامام، اذ وفر للاصلاحيين اللبنانيين مشروعاً لتطوير الدولة اللبنانية. اذا اراد اصحاب الخيارات مواصلة السير على الطريق وتطوير المبادرة المجلية التي قاموا بها، فانهم مدعوون الى اعداد "خيارات للبنان 2" حيث يتطرق الى بعض المواضيع المهمة التي لم يسعفهم الوقت - على الارجح - للخوض فيها، ومنها ثلاثة، على سبيل المثال لا الحصر. 1 - موضوع منهجي لكنه مهم في سياق التخطيط للبنان المستقبل الا وهو تفسير السبب الذي دعا واضعي الكتاب الى اختيار مواضيعه. فهل اختاروها لأنها المواضيع الاكثر تداولاً بين اللبنانيين، او لأنهم، باعتبارهم اهل معرفة وخبرة، يقدمونها على غيرها من المواضيع التي تستحق التأمل والبحث والمناقشة. ام اختاروها للامرين معاً؟ 2 - علاقات لبنان الخارجية في مداها الاوسع. صحيح ان مسألة العلاقات السورية - اللبنانية هي المسألة الاكثر استئثاراً باهتمام اللبنانيين اليوم، ولكن هذه العلاقات لا تختزل بمفردها صلة لبنان بالخارج، ولا تتطلب وحدها حواراً جاداً بين اللبنانيين. فاذا اردنا حواراً يأخذ في الاعتبار تجارب الماضي وحاجات المستقبل فمن الافضل ان نعطي اهتماماً موازياً لعلاقة لبنان بفضائه العربي بصورة عامة وكذلك ان ندرس علاقات لبنان الدولية وخصوصاً مع دول العالم النافذة. ان سياسة لبنان الداخلية ليست امتداداً لسياسته الخارجية او لسياسة الآخرين اللبنانية، ولكن من المؤكد ان الاوضاع الاقليمية - وليس المقصود هنا السورية وحدها - والدولية تؤثر تأثيراً كبيراً في الأوضاع اللبنانية وعلى علاقات اللبنانيين ببعضهم البعض، ومن هنا كان من المستحسن ان تعطى حقها من العناية والاهتمام. 3 - اوضاع الاحزاب اللبنانية. فلبنان يعاني من هشاشة مزمنة في الحياة الحزبية. ومن الصعب التفكير في اصلاح الشأن العام فيه من دون اصلاح احزابه. واصلاح الحياة الحزبية لا يتم مع قوانين تتوخى عرقلة نمو الاحزاب وتحجيمها. اذ يطرح اصحاب "خيارات للبنان" مشروعهم الاصلاحي على اللبنانيين واللبنانيات، فانهم مدعوون الى مواصلة السير على طريق الاصلاح. انهم مدعوون الى المساهمة في تكتيل القوى المناصرة للاصلاح والعاملة على تحويله من أمنية تداعب مخيلة المواطنين والمواطنات، الى واقع يؤمن لهم العيش الكريم والحرية والسيادة. * كاتب لبناني.