شكل اتفاق الطائف نقطة تحوّل أساسية في تاريخ لبنان المعاصر. فقد توقفت بموجبه حرب أهلية دامت خمس عشرة سنة. واتفق أطراف النزاع، بدعم من قوى اقليمية عربية ودولية فاعلة، على حل الميليشيات العسكرية الطائفية، وتعديل الدستور اللبناني، ووضع صيغة جديدة لنظام الحكم في لبنان تقوم على توازن السلطات، وإقامة دولة القانون، والاحتكام الى الديموقراطية الشعبية، والإنماء المتوازن، ومحاربة الفساد والإفساد وغيرها. لذلك تفاءل عدد كبير من اللبنانيين بمستقبل لبنان المتجدد في محيطه الإقليمي على مشارف القرن الحادي والعشرين. لكن التطبيق العملي لاتفاق الطائف أوجد خللاً حاداً في الصيغة السياسية اللبنانية الجديدة. فبدلاً من تجاوز صيغة الميثاق الطائفي لعام 1943 برزت صيغة سياسية مذهبية أفصدت عمل المؤسسات الرسمية وهددت ركائز السلم الأهلي الذي ما يزال هشاً للغاية. ثم جاءت الممارسة السياسية على قاعدة الدستور اللبناني المعدل لعام 1992 لتثير التباساً في صلاحيات كل من رئيسي الجمهورية والوزراء، وتعطي دوراً أكبر لرئيس المجلس النيابي على حساب الصلاحيات التي كان يتفرد بها رئيس الجمهورية في السابق. كما أن رئيس الوزراء بات في صراع دائم، معلن أحياناً وباطني معظم الأحيان، مع رئيسي الجمهورية والمجلس. يضاف الى ذلك أن استقلالية القضاء اللبناني وهيئات الرقابة على أنواعها، تعرضت الى ضغوط حادة من الحكومات المتعاقبة بعد الطائف. نتيجة لذلك أصيبت الإدارة اللبنانية بكثير من الشلل الناجم عن الفشل الذريع الذي منيت به محاولات الإصلاح الإداري طوال فترة حكومات الرئيس رفيق الحريري المتعاقبة. وقد عزا الرئيس الحريري مراراً فشل ذلك الإصلاح الى الخطوط الحمراء التي وضعها في طريقه زعماء القوى الطائفية والمذهبية في الداخل، مع اشارات الى عدم حماسة قوى اقليمية تمسك بالملف اللبناني لإصلاح جذري يمكن أن يهدد السلم الأهلي والتوازن الطوائفي الهش، فيعيد لبنان الى أجواء الحرب الأهلية السابقة. نخلص الى القول أن ايقاف الحرب الأهلية في لبنان على قاعدة اتفاق الطائف سمح ببروز إيجابيات كثيرة، منها حل الميليشيات، واعادة التماسك الى المؤسسة العسكرية، وفرض نظام خدمة العلم، وإطلاق حركة عمرانية واقتصادية وثقافية متزايدة، وحصول لبنان على دعم اقليمي ودولي مميز، واستعادة بيروت لجانب أساسي من دورها الاقتصادي والمالي السابق. لذا توهم اللبنانيون أن الفرصة باتت مؤاتية للنهوض مجدداً بلبنان، ولتطوير نظامه السياسي السابق بشكل جذري يسمح ببناء دولة القانون والمؤسسات الديموقراطية، دولة العدالة الاجتماعية والإنماء المتوازن وتحقيق إصلاح إداري جذري. فقد توافق الزعماء اللبنانيون في الطائف على صيغة إيجابية لإنهاء الحرب الأهلية على أساس الغاء الطائفية السياسية بشكل تدريجي، من النصوص والنفوس معاً، فإذا بهم أما صيغة للترويكا المذهبية أو القيادة الثلاثية لتحالف رئيس الجمهورية، ورئيس المجلس النيابي، ورئيس الوزراء، عطلت عمل المؤسسات الدستورية، ومنعت الإصلاح الإداري الجذري. وتم توظيف الإدارة والنظام السياسي لخدمة زعماء الطوائف الكبرى، وتعزز دور زعماء الميليشيات السابقة الذين حكموا لبنان زمن الحرب الأهلية فاستمر معظمهم في الحكم على الرغم من نهاية تلك الحرب. ومع ولادة العهد الجديد بقيادة الرئيس اميل لحود وتشكيل حكومته الأولى برئاسة الدكتور سليم الحص في أواخر عام 1998، تفاءل اللبنانيون بخطابي القسم والبيان الوزاري لما تضمناه من دعوة صريحة للإصلاح السياسي والإداري، ومعاقبة الفاسدين والمفسدين، ولجم التضخم المرعب، والإصلاح التدريجي على مدى سنوات متعاقبة للخلل الكبير في الموازنة، والتوظيف في القطاعات الإنتاجية، والقيام بالخصخصة المدروسة في بعض القطاعات للتخفيف من عجز الموازنة المتمادي، واعادة الثقة بالدولة اللبنانية عن طريق اصلاحات جذرية في بنية النظام السياسي، وبشكل خاص في قانون الانتخاب، وقانون الأحزاب، والقوانين البلدية والضرائبية وغيرها. إلا أن التطبيق العملي للأفكار الإصلاحية اصطدم بمعارضة عنيفة منذ انطلاقتها الأولى. وسرعان ما برز إرباك واضح في الأداء الحكومي أثار قلق اللبنانيين وتوجسوا من إيقاف عملية الإصلاح برمتها في منتصف الطريق بحيث ترتد سريعاً الى نقطة الصفر بعد أن تقتصر على وضع عدد محدود جداً من كبار الموظفين بتصرف رئيس الحكومة أو نقلهم الى دوائر أخرى. ان قراءة متأنية للفترة المنصرمة من التدابير الإصلاحية تؤكد بالملوس الحجم الكبير للقوى المعيقة للإصلاح الجذري في لبنان، بدءاً بالإصلاح الإداري وانتهاء بالإصلاح السياسي. وتنقسم هذه القوى وفق الشكل التالي: 1 - القوى التي تضررت مباشرة من العهد الجديد فاندفعت تعارضه منذ اليوم الأول لوصول الرئيس لحود الى الحكم أو فور تشكيل حكومة العهد الأولى. وقد تجسد هذا التيار بتحالف الرئيس الحريري مع الوزير وليد جنبلاط المتخوف من عودة العسكر الى السلطة. 2 - المعارضة بالتقية أو التصريح العلني بدعم الحكومة وتدابيرها الإصلاحية، مع وضع عراقيل أمامها لوقف التغيير الإداري الجذري وجعله قاصراً على إبدال موظف بآخر، من الطائفة نفسها إذا أمكن. 3 - المعارضة المضمرة حتى الآن والتي تتخوف من أن يطولها أي إصلاح جذري، بالإضافة الى الغالبية الساحقة من الموظفين الذين يدينون بالولاء لقادتها. وما زال بعض قادة هذا التيار في موقع السلطة رغم المعارضة الشعبية ضده. فقادة هذا التيار سيظهرون على حقيقتهم كقوى سياسية تفتقد الى التمثيل الشعبي على أرض الواقع، ويصح في تسميتهم صفة الزعيم السلطوي أو الزعيم الذي يحتاج الى البقاء دوماً في السلطة حتى يحافظ على موقعه السياسي. 4 - المعارضة التقليدية التي تضم عدداً كبيراً من المسترئسين من نادي رؤساء الوزراء السابقين، أو من الذين تذوقوا حلاوة الوزارة وفوائدها الجمة على مختلف الصعد، أو من الذين وعدوا مراراً بالوزارة لكن الظروف لم تحن بعد للاستفادة من مواهبهم إلا أنهم لا يدعوا فرصة تمر دون التشهير بعجز الوزراء الحاليين، ونعتهم بالتكنوقراط. وان لبنان بحاجة الى "نواب الأمة" في الوزارة لأنهم على معرفة أكثر بقضايا الناس، ولديهم كوادر تدعمهم وتنتظر وصولهم الى جنة الحكم للإفادة والاستفادة. بالمقابل، فإن التدابير الإصلاحية المرتبكة لم تستقطب تياراً شعبياً واسعاً لدعم حركة الإصلاح ومنع ارتدادها الى الوراء. مرد ذلك الى أسباب عديدة، منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي. أبرز تلك الأسباب: - ان الرئيسين لحود والحص يفتقدان الى التنظيم السياسي الذي ينشر مقولات التغيير على نطاق واسع فتتحول عملية الإصلاح الى تيار شعبي يفرض نفسه على أرض الواقع. فمن صلب العمل الديموقراطي أن الانتخابات النيابية التي باتت قريبة جداً، يعطي القوى الشعبية كامل الحرية لمحاسبة أي زعيم سياسي يعادي الإصلاح أو يقف حجر عثرة في طريقه. الأسوأ من ذلك أن رئيس الجمهورية يستند الى قاعدة عسكرية هي مصدر خوف لكثير من الزعماء السياسيين من تدخل العسكر في السياسة، فيعود لبنان الى مساوئ التجربة الشهابية. أما "ندوة العمل الوطني" التي يقودها الرئيس الحص فما زالت مشلولة الحركة ولا تقوم بعمل شعبي جماهيري يقدم الدعم العريض لرئيسها وحكومته، وما زال عملها نخبوياً، ويقتصر على بعض المحاضرات المتباعدة، تماماً كما كانت تفعل حين كان الرئيس الحص في صفوف المعارضة. - ان جميع الأحزاب السياسية التي تصنف نفسها في خانة التغيير الجذري تعيش أزمات داخلية عميقة لا تقل عن أزمة القيادة السياسية الحاكمة. لذا تعيش قوى التغيير على شكل شلل متباعدة من بقايا المثقفين اليساريين، قد تلتقي أحياناً للحوار الداخلي ضمن الجدران المغلقة إلا أن عملها اليومي يفتقر الى الحد الأدنى من التضامن، ووضوح الرؤية، وبرنامج الحد الأدنى. نخلص الى القول أن ما يجري الآن على الساحة السياسية والإدارية لا يبشر بالوصول الى تغيير جذري على الصعد كافة. فقوى الجمود الطائفي والمذهبي لا تزال قوية جداً وتشكل جبهة متراصة تتراوح مواقفها بين المعارضة العلنية، والمعارضة المضمرة، وتمثيل حصان طروادة داخل الحكومة، والاستقواء بالعامل الإقليمي لمنع التغيير الجذري إذا دعت الحاجة لذلك. فالفاسدون والمفسدون في النظام اللبناني ما زالوا ممسكين بمواقع قوية جداً داخل النظام. وهناك مخاطر جدية من تكرار مهزلة الإصلاح التي شهدتها السنوات الماضية وانتهت الى تعرض بعض الوزراء للسخرية أمام موظفيه حين يظهر عجزه عن ازاحة موظفين متنفذين في وزارته يستمدون الدعم من الزعيم السياسي - الطائفي، يقدمون له الولاء وليس للوزير المختص. ومع غياب التيار السياسي المنظم الداعم لحركة الإصلاح والتغيير الجذري فإن الحلول المرتقبة ستتمحور، في الغالب، على قاعدة أفكار إصلاحية سابقة تقول بتطبيق مقررات الطائف تطبيقاً كاملاً. وقد يتحول هذا المنحى الى حجر الزاوية في سياسة الحكومة الجديدة التي يزين لها بعض المستشارين ان هذا الطريق غير محفوفة بالمخاطر، وهي ترضي جميع رجال الدين وعدداً كبيراً من رجال السياسة في الموالاة والمعارضة معاً، وتنشر وسائل الإعلام الدراسات المطولة التي ترى أن لبنان لا يحتمل الآن تغييراً جذرياً بعد استعادة أطراف النزاع فيه لغة الميليشيات العسكرية، والارتداد من رحاب التقدمية العريضة الى المذهبية الضيقة. ومن نافل القول ان الفكر السياسي للقوى السلطوية الحاكمة الآن، بالإضافة الى مقولات جميع مستشاريها، تندرج في خانة الفكر الإصلاحي الذي نادى به ميثاق الطائف، وتعتبر أن تطبيقه سيكون انجازاً عظيماً للبنان واللبنانيين. إلا أن السنوات المنصرمة على توقيع الطائف حفلت بعشرات الدراسات النقدية التي رأت في فكر الطائف مدخلاً لإيقاف الحرب الأهلية في لبنان وليس مدخلاً لإصلاح نظامه السياسي أو الإداري أو الاقتصادي أو الثقافي. وبالتالي، لن يعيد للبنان السلم الأهلي الدائم من جهة، ولا الدور الإقليمي الذي افتقده في سنوات الحرب الأهلية من جهة أخرى. فهل يصبح الفكر السياسي لاتفاق الطائف سقف الإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي في لبنان؟ ليس من شك في أن نظام المحافظات الموسعة، ومجلس طائفي للشيوخ، ومجلس نيابي منتخب على مستوى لبنان دائرة انتخابية واحدة - وهي مقولات الطائف - مقولات لإصلاح سياسي تم التوافق عليه من قبل قادة النظام السابق إلا أنها لا تعبر عن طموحات الشعب اللبناني في التغيير المطلوب. وهناك بعض الدلائل التي تشير الى وضع هذه الإصلاحات موضع التنفيذ العملي بحيث يقع دعاة الإصلاح السياسي في لبنان في ما وقع فيه قادة الاستقلال حين نددوا بالطائفية ورأوا في الغائها من النظام اللبناني ساعة مباركة في تاريخ لبنان. إلا أن ممارساتهم السياسية رسخت الطائفية، ومهدت للحرب الأهلية. فلم يشهد لبنان على أياديهم - على الرغم من نواياهم الحسنة - انبلاج فجر جديد لم تأتِ ساعته بعد. * مؤرخ لبناني.