يمكننا، في الإطار التاريخي العام، رؤية ما يدعى "العولمة" بأنها تشكل في إحدى وجوهها، مرحلة جديدة في تطور الرأسمالية، مرحلة ما بعد العصر الإمبريالي، مرحلة النيو إمبريالية أو الإمبريالية الجديدة كما تتمثل اليوم في النظام الأميركي المحافظ وسياسته الداخلية والخارجية. ما يميّز النظام الأميركي الإمبريالي الجديد، داخلياً وخارجياً، قدرته الفائقة في حقلي الإنتاج والحرب: إنه، من جهة، ينتج وسائل الحرب المتفوقة وسائل الدمار الشامل وفي الوقت نفسه يعيد انتاج نفسه بقوة وزخم لم يعرفهما نظام الإنتاج الرأسمالي في مرحلتيه السابقتين في القرنين التاسع عشر والعشرين. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، دفع هذا بعض المنظّرين المحافظين والأكاديميين اليمينيين في الولاياتالمتحدة الى القول ان النظام الرأسمالي قد وصل مرحلته النهائية، وأصبح النظام الوحيد القادر على تطوير البشرية، وتحقيق الديموقراطية والقيم الأخلاقية في العالم، التي نادت بها الأديان التوحيدية والفلسفات الكبرى عبر ال تاريخ. هذا ما قُصد به ب"نهاية التاريخ"، وبروز الولاياتالمتحدة القوة الوحيدة الكبرى في العالم. * لهذه العولمة الجديدة وجه آخر، وهو الوجه الذي تبرر وتحجب من خلاله دورها دور الولاياتالمتحدة في العالم: دورها الإمبريالي الجديد وممارساتها إزاء دول وشعوب العالم الثالث، وبخاصة شعوب العالم العربي والاسلامي. تتم عملية التمويه الإمبريالي الجديد داخل اللغة، فتتحول الحقائق والمعاني الى عكسها، ليبدو الواقع وما يحدث على أرضه على غير ما هو عليه. مثلاً: المقاومة تصبح حركة إرهابية. في هذه اللغة تختفي المفاهيم المفردات التحليلية الكلاسيكية، مثلاً، مفهومي الطبقة وصراع الطبقات. هذه هي لغة بوش وبلير التي أصبحت سائدة في بعض أوساط المحلّلين والسياسيين والمحافظين اليمينيين في أميركا وبريطانيا والدول المتحالفة معهما. ميزة هذه اللغة رفضها الفكر العقلاني والبرهان المحسوس واعتمادها الغموض والتمويه في تأويلاتها ومواقفها السياسية والأخلاقية. * على رغم الكذب المفضوح الذي يمارسه الفكر التمويهي، فإنه حقق بعض النجاح في الاعلام الغربي باعتماده أشكالاً مختلفة ومتغيرة، وفي تمكين بوش وبلير من إحداث تشريعات جديدة في الولاياتالمتحدة وبريطانيا باسم الحرب ضد الارهاب تُحدّ من الحريات المدنية وتمنح القوى الأمنية صلاحيات تتعارض مع القوانين والتقاليد الليبرالية في البلدين. واستُعمل هذا التمويه المنتظم والمكرر في تمكين ادارة بوش وحكومة بلير من شن الحرب ضد العراق واحتلالها، ومن خلفهما تمكين شارون من شن حربه الدموية ضد الفلسطينيين. أما مشروع إصلاح الشرق الأوسط الكبير، الدول والمجتمعات العربية والإسلامية من المغرب الى افغانستان فقد شكّل السلاح الآخر، اللاعسكري، الذي تعتمده الإمبريالية الجديدة لبسط هيمنتها على العالم العربي والاسلامي. "الاصلاح" هنا هو عكس مفهوم الاصلاح، الذي نادت به حركة النهضة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، مفهوم التحرر والتجديد. * من الضروري التأكيد أن المشروع الإمبريالي، العسكري والإصلاحي، الذي تقوم بتنفيذه الإدارة الأميركية مستمد من المشروع الصهيوني الذي وضعه عدد من الصهاينة الأميركيين الليكوديين في التسعينات من القرن الماضي بهدف "تثبيت المُلك الاسرائيلي" To Secure the realm أي تثبيت "الأمن" الاسرائيلي في المنطقة من خلال سيطرة اسرائيل عليها. هل يمكن لهذا المشروع ان ينجح؟ باستطاعتنا القول ان هذا المشروع قد حقق حتى الآن بعض أهم أهدافه من خلال الاحتلال الأميركي للعراق وتفكيك الدولة العراقية، وتمكين شارون من احتلال معظم ما تبقى من فلسطين. لكن نجاحه لن يتم، بل سيتحول الى فشل ذريع، اذا نجحت المقاومة العراقية بإجبار الولاياتالمتحدة على الانسحاب من العراق كما انسحبت من فيتنام. * أستاذ شرف في جامعة جورجتاون - واشنطن.