استحوذت اسلحة الدمار الشامل العراقية ولا تزال على اهتمام صانعي السياسة الاميركيين وحلفائهم. وكانت السبب الاول - المعلن من جانب الادارة الاميركية - لغزو العراق واحتلاله. وبسببها تعرض الشعب العراقي الى حروب وكوارث ودمار ومآسي. ولا يزال ملفها مفتوحاً. بالمقابل يطمح الشعب العراقي، وهو يعيش اليوم مرحلة جديدة، بعدما تخلص من كابوس النظام الفاشي الذي جثم على صدره قرابة اربعة عقود، الى أن تحل مشكلة اسلحة الدمار الشامل، ويغلق ملفها الى الأبد، مثلما يتوق ويتطلع الى تنظيف تربةالعراق من بقايا الأسلحة المشعة والسامة، ومعالجة اَثارها وتداعياتها التي تشكل خطراً جدياً يهدد صحة المواطنين وحياتهم، خصوصاً براعم حاضر المجتمع ومستقبله - الطفولة العراقية. ومن دون معالجة هذه المشكلة جدياً لن تنجز عملية إعادة الإعمار وبناء العراق الحر والمستقل والديموقراطي وتنميته. ولعل خير تجسيد لهذه الرغبة وهذا الطموح هو تصريح رئيس الحكومة العراقية الموقتة الدكتور أياد علاوي، الذي طمأن العالم أجمع بأنه لا توجد لدى المسؤولين العراقيين الجدد النية أو الرغبة في استئناف البرامج النووية في المستقبل، وإعلانه بإن العراق لا يرحب بوجود تلك المواد على أراضيه لأنه يعتبرها أسلحة دمار محتملة، ووعده بأن توجه حكومته كل موارد البلاد نحو تنمية الاقتصاد وتوفير السلامة والامن الوطنيين، وان تكرس جهودها لتحسين مستوى رفاهية الشعب بدلاً من تبديد الثروات على أسلحة الدمار الشامل أو الأسلحة غير الشرعية. وهي مبادرة قوبلت بالتقدير والتأييد، في الداخل والخارج، لأن مشاريع نظام صدام ومساعيه المحمومة للحصول على أسلحة الدمار الشامل لم تجلب سوى الموت والخراب والكوارث للشعب العراقي، ولا مكان لها في العراق الجديد، الذي تريده غالبية العراقيين عراقاً حراً ومستقلاً وديمقراطياً حقيقياً. ووفقاَ لهذه الرؤية وتأكيداً لها جاء طلب الحكومة الموقتة المشروع من الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة ايفاد مفتشين لاجراء حصر للمواد النووية في البلاد. وهو ما أكده المدير التنفيذي للوكالة الدكتور محمد البرادعي مشيراً الى طلب رسمي من وزير الخارجية هوشيار زيباري بعودة المفتشين الدوليين الى العراق، ووعده بإرسالهم الى هناك خلال الايام المقبلة. كما ابلغ الصحافيين في القاهرة انه ينبغي ان يعود مفتشو الاسلحة التابعين للامم المتحدة ايضاً لإكمال مهمتهم. وقال ان مفتشين مكلفين بمهمة التحقق من وضع المواد النووية العراقية سيعودون قريباً، مؤكداً أنهم ليسوا مفتشي أسلحة. وقالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية انها تأمل بأن تكون هذه خطوة نحو استئناف عمليات التفتيش الكاملة. وأوضحت المتحدثة باسمها ميليسا فلمينغ ان"من المتطلبات الضرورية ان تقوم الوكالة الدولية بهذا الحصر". وبالاضافة الى ذلك، تتطلع الوكالة الى ان يعيد مجلس الامن تفويضه للوكالة للعودة الى العراق حتى يمكن استبعاد اي امكانية لاعادة بناء برنامج سري للتسلح النووي. ويذكر أن خبراء الوكالة الدولية لم يعثروا قط في عمليات التفتيش التي قاموا بها خلال 4 اشهر قبل شن الحرب على العراق في اذار مارس عام 2003، على اي دليل يفيد بأن العراق كان يعيد احياء برنامجه الخاص بالاسلحة النووية على رغم تأكيد الولاياتالمتحدة وبريطانيا أنه يسعى الى امتلاك اسلحة نووية. غير ان الوكالة لم تستبعد قط في التقارير التي قدمتها الى مجلس الامن قبل الحرب احتمال ان تكون الاتهامات الاميركية والبريطانية صحيحة، ويرغب البرادعي الآن في وضع نهاية لهذا الفصل من تاريخ العراق. قال أن عودة المفتشين الدوليين الى العراق"ضرورية، لا للبحث عن اسلحة الدمار الشامل، بل لتتمكن الوكالة من ان تكتب تقريراً نهائياً بخصوص عدم وجود اسلحة للدمار الشامل حتى يمكن للمجتمع الدولي ان يرفع العقوبات عن العراق". وكانت هيئتان دوليتان تولتا البحث عن اسلحة محظورة في العراق قبل الغزو الاميركي العام الماضي، احداهما وكالة الطاقة الذرية والثانية"لجنة الاممالمتحدة للرصد والتحقق والتفتيش"انموفيك التي اهتمت خصوصاً بالعثور على اسلحة كيماوية وبيولوجية وصواريخ محظورة. وكانت وكالة الطاقة الذرية أبدت، يوم تسليم السلطة للحكومة العراقية الموقتة في 28/ 6/ 2004، إستعدادها لمناقشة عودة مفتشيها الى العراق. وأعلن البرادعي من موسكو مع رئيس الوكالة الفيديرالية الروسية للطاقة الذرية إنهما اتفقا على ضرورة عودة مفتشي الأممالمتحدة الى العراق لإكمال المهمة. وأكد البرادعي أن محادثات الوكالة ستكون الآن مع الحكومة العراقية ومع مجلس الأمن، مشيراً إلى أن المراقبة المستمرة ضرورية للتأكد من أن العراق"لن يحيي"برامجه لأسلحة الدمار الشامل. وتوقع البرادعي أيضاً أن يناقش احتمال حدوث تلوث إشعاعي للمناطق المحيطة بالمنشآت النووية العراقية بسبب عمليات النهب الواسعة خلال الفوضى التي أعقبت الغزو الاميركي العام الماضي. وموضوع التلوث الإشعاعي في العراق هو الأهم والأخطر في رأينا، وينبغي التركيز عليه. فإذا كان من شأن إتمام عملية المراقبة والتحقق من المواد النووية، التي ستنفذ، أن تطمئن العالم، وبخاصة الجيران، لعدم وجود اي امكانية لاعادة بناء برنامج سري للتسلح النووي، فإن درس مشكلة التلوث الإشعاعي في العراق وتقويمها ومعالجتها من شأنها التحقق: أولاً، من وجود الإشعاع ومصدره، وأن تساعد، ثانياً، على إنتشال المجتمع العراقي من تداعياته البيئية والصحيةً، وثالثاً معالجة من بقي حياً من ضحايا التلوث الإشعاعي. وهي مهمة إنسانية عاجلة من صمبم مهمات الأممالمتحدة! لم يعد سراً أن تلوثاً إشعاعياً وسمياً خطيراً حدث في العراق خلال اعوام 1991 - 2003 نجم عن إستخدام القوات الأميركية والبريطانية لنحو 800 طن من ذخائر اليورانيوم الناضب المشعة في حرب الخليج الثانية عام 1991، ونحو 2000 طن منها في حرب الخليج الثالثة عام 2003، وكذلك أثناء تدمير الأسلحة الكيماوية والبيولوجية في الأراضي العراقية عام 1991 من جانب خبراء الأممالمتحدة، وخلال عمليات السلب والنهب التي حصلت في نيسان أبريل 2003، عقب سقوط نظام صدام حسين، وطالت مخازن المواقع النووية العراقية ومختبراتها، خصوصاً موقع التويثة، وقيام السرّاق بسكب البراميل والصناديق وغيرها من حاويات اليورانيوم والمواد المشعة الأخرى على الأرض وفي الأنهر وفي البالوعات المنزلية، لجهلهم آنذاك بمحتوياتها ومخاطرها عليهم وعلى البيئة والناس الآخرين. يعلم كل متابع ان وكالة الطاقة الذرية لم تتحرك وتؤدي واجبها حيال مشكلة التلوث الإشعاعي في العراق الناجم عن ذخائر اليورانيوم المشعة، مثلما قامت بالتحري عن أسلحة الدمار الشامل ومراقبة المواد النووية العراقية، على رغم ان ذلك من صلب مهماتها. فهي أحدى الوكالات الدولية المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، ومهمتها الأساسية حماية البشرية من المخاطر النووية ودرئها. وهي لهذا الغرض تعمل - كما تنص وثائق الأممالمتحدة- من أجل الاستخدامات الآمنة والسلمية للطاقة، وتكفل، عن طريق مجموعة من اتفاقات الضمانات، عدم تحويل المواد والمعدات النووية الموجهة للاستخدامات السلمية إلى أغراض عسكرية. ويعرف أيضاً أن التقصير الذي حصل من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية حيال ملف التلوث الإشعاعي في العراق أملته الضغوط الأميركية على الوكالة ومديرها التنفيذي، والتي حولت الوكالات الدولية المتخصصة من تابعة للأمم المتحدة الى"تابعة"للولايات المتحدة. لم تسكت هذه الوكالة، للحقيقة والتاريخ، حيال عملية نهب براميل المواد المشعة من موقع التويثة، بل طالبت بدخول خبرائها الى العراق فوراً للوقوف على ما حصل ولدرء المخاطر. لكن سلطة الإحتلال لم تسمح لهم إلاّ بعد مرور نحو 6 أسابيع، وليس هذا فحسب بل إشترطت ان تقتصر مهمة الخبراء على إحصاء حاويات المواد المشعة المفقودة من موقع ج، وإعادة تعبئة المواد المشعة بشكل آمن. ورفضت أن تتضمن مهمة الفريق قياس التلوث البيئي الناجم عن الحادث، أو مراجعة التقارير الخاصة باحتمال إصابة السكان القريبين من الموقع بأمراض بسبب التعرض للإشعاع النووي. كما منعت فريق الوكالة من دخول المجمع الرئيسي لمركز أبحاث التويثة و6 مواقع نووية أخرى يعتقد أنها نهبت في فترة الفوضى التي عمت بعد انتهاء الحرب. وعندما باشر فريق الوكالة مهمته في السادس من حزيران يونيو 2003، احيط تحركه بتكتم شديد طوال الأسبوعين التي قضاها هناك... وفي وقت لاحق، أعلن البرادعي ان خبراء وكالته توصلوا الى مصير معظم اليورانيوم المفقود من موقع تخزينه في التويثة. إلاّ أن منظمة"غرينبيس"شككت بهذا، وقالت انه يمكن ان تكون هناك كميات كبيرة من المادة في الخارج. وبالفعل، إتضح اخيراًً أن نحو 40 كيلوغراماً من اليورانيوم 235 المخصب بدرجة 2,5 في المئة، لا تزال مفقودة حتى اليوم. ومع ان المسؤولين الاميركيين قللوا من خطر المواد التي نهبت، قائلين ان مستوى الاشعاع الصادر منها"منخفض الى حد كبير"، غير ان جنودهم كانوا يدفعون للمواطنين مبالغ مقابل الحصول على حاوياتها بعد ورود تقارير بأن الناس يقومون بتخزين الاغذية والمياه فيها. وتوقع مراسل"رويترز"اندرو غراي تزايد المخاوف بعد اكتشاف صناديق معدنية موجودة في منازل سكان المنطقة اخذوها من التويثة. وأكدت العالمة ريان تيول - من"غرين بيس"- انها تحتوي مصدراً مشعاً يستخدم في الاغراض الصناعية، وأن المواطنين في الاماكن القريبة منه يتعرضون لاشعاع في نصف ساعة يعادل الحد الاقصى الآمن الذي يتلقاه الشخص خلال عام كامل بالمعايير الغربية، ما يعرضهم الى مخاطر كبيرة للاصابة بالسرطان وامراض الاشعاع الأخرى. وأضافت، فيما كان الاطفال الصغار يتراكضون حولها، ان"ارتفاع مستويات الاشعاع بهذا المعدل تمثل خطراً على كل من يعيش، وحتى من يلعب هنا"!. وحيال خطورة الوضع كان الأطباء في المستشفى المحلي في التويثة في حالة تأهب وإن ليس بمتناولهم الشيء الكثير لإنقاذ المصابين، علماً بأن البرادعي كان حذر الإدارة الأميركية، أبان تكراره لطلب وكالته منها بضرورة السماح لخبرائها بدخول العراق فوراً لتقويم الوضع الإشعاعي هناك، بأن"ثمة وضعاً اشعاعياً وانسانياً ملحاً يتطور هناك استناداً الى تقارير شهود عيان". اما بالنسبة الى التلوث الإشعاعي الناجم عن إستخدام الذخائر المشعة في الحرب الأخيرة، فأكدت دراسة ميدانية إشعاعية علمية كبيرة اجراها المركز الطبي لأبحاث اليورانيوم UMRC وهو مركز دولي مستقل خلال الفترة من 10/ 10 الى 27/ 10/ 2003، إنتشار التلوث الإشعاعي في 10 مدن عراقية من وسط وجنوب العراق. ووجد بدرجات خطيرة في الركام، وفي الهواء والتربة، وفي دم وبول مدنيين، وفي جثث الجنود. وقد تجاوز التلوث الإشعاعي في بعض المناطق عشرات اَلاف أمثال الحد المسموح به. وأكدت وزارة البيئة العراقية ان هناك زيادة في مستويات التلوث خصوصاً من اليورانيوم المنضب، عن الحد المسموح به. وأكدت أبحاث العديد من العلماء الغربيين والأميركيين المستقلين، والباحثين العراقيين، بأن التلوث الإشعاعي سبب كارثة بيئية وصحية وخيمة في العراق، من معالمها: أمراض السرطان، وفي مقدمتها سرطان الدم وأورام الغدد اللمفاوية، والتشوهات الولادية، والإسقاطات، والولادات الميتة، وتلف جهاز المناعة والكبد والكليتين، والعلل العصبية والعضلية، وغيرها، التي إنتشرت منذ حرب الخليج الثانية في 1991. وتجدر الإشارة الى انه على رغم كل ما حصل، لم تتخذ سلطة الإحتلال البغيض الإجراءات المطلوبة للحد من التسرب الإشعاعي، ولم تسمح بإجراء مسح شامل، ولم تقم بمعالجة المصابين، منتهكة إتفاقات جنيف المتعلقة بحماية المدنيين زمن الحرب وأثناء الإحتلال، التي تلزمها بذلك، ولم تبرر موقفها هذا، الذي أضر بالعراقيين الأبرياء! إن حكومة الدكتور علاوي مدعوة الى تقديم طلب مماثل الى وكالات دولية متخصصة أخرى، وفي مقدمتها: برنامج الأممالمتحدة للبيئة UNEP، ومنظمة الصحة العالمية WHO ، ودعوتهما للمشاركة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في مهمتها القادمة في العراق. فالوكالتان المذكورتان معنيتان أيضاً بشأن التلوث البيئي وتداعياته في العراق، خصوصاً وأن برنامج الأممالمتحدة للبيئة كان أعد دراسة مهمة عن الواقع البيئي الراهن في العراق، وأضرار الحروب والذخائر المشعة التي إستخدمت خلالها، وطالب سلطة الإحتلال عقب إنتهاء العمليات العسكرية في نيسان أبريل 2003 بالسماح لخبرائه بدخول العراق فوراً وإجراء تقويم شامل للبيئة العراقية ولحجم التلوث البيئي ومصادره. بيد ان سلطة الإحتلال لم تسمح له، علماً بأن لخبراء البرنامج المذكور تجربة غنية في هذا المضمار. أما بالنسبة الى منظمة الصحة العالمية فإن فريقاً علمياً تابعاً لها زار العراق في اَب أغسطس 2001، وإتفق مع وزارة الصحة العراقية اَنذاك على إجراء دراسات ميدانية وفحوصات وتحاليل لضحايا اليورانيوم المنضب. لكن المنظمة لم تنجز الإتفاق تحت تأثير أحداث أيلول سبتمبر 2001 وضغوط اميركا المحمومة للتهرب من تحمل مسؤولية نتائج إستخدام ذخائر اليورانيوم المنضب. وللأسباب ذاتها اتخذت موقفاً سلبياً من ضحايا التلوث الإشعاعي عقب الحرب الأخيرة وتداعياتها. نأمل بأن تستجيب الحكومة العراقية الموقتة لمقترحنا، وتعمل الوكالات الدولية المتخصصة المذكورة معاً، مؤدية واجبها المهني والعلمي، بكل إخلاص ونزاهة، متمسكة بإستقلاليتها وموضوعيتها وصدقيتها العلمية، ساعية جهد إمكاناتها لتقديم العون اللازم والعاجل للضحايا، ولإنتشال المجتمع العراقي من تداعيات التلوث الإشعاعي. وهي بذلك ستنفذ إلتزاماتها المنصوص عليها، التي وجدت من أجلها، وتستعيد إحترامها وهيبتها وصدقيتها التي تزعزعت نوعاً ما في ظل هيمنة الولاياتالمتحدة وتدخلاتها وضغوطها! * طبيب وباحث عراقي مقيم في السويد.