يتفاقم الوضع البيئي والصحي في المنطقة المحيطة بموقع الأبحاث النووية في التويثة العراقية يوماً بعد اَخر منذ عمليات النهب، التي طالت الموقع في شهر أبريل الماضي، وأسفرت عن العبث بالمئات من الحاويات والبراميل والصناديق المخصصة لحفظ مواد نووية وملوثات، وسكب محتوياتها عشوائياً، على الأرض، وفي الأنهر القريبة، وفي البالوعات المنزلية، لجهل ناهبيها بمخاطر محتوياتها، وعدم قيام القوات الأمريكيةالمحتلة بإجراءات عاجلة! نحتكم هنا الى عدد من التقارير الميدانية الأجنبية، التي تناولت الموضوع وتؤكد المخاطر القائمة، ففي مطلع شهر مايو الماضي أشارت تقارير لصحيفتي (واشنطن بوست) و(نيويورك تايمز)، الى أن فريقاً أمريكيا رفيع المستوى من الخبراء النوويين تأكد من حصول تسرب إشعاعي في المنطقة. وقد تفقد فريق للبنتاغون مركز التويثة، في 3/5، وعثر على مواد مشعة مبعثرة في أرجاء الموقع. في 4/5، نقل عن أحد أعضاء فريق الخبراء الأمريكي المعروف باسم (فريق الدعم المباشر) أن المادة الإشعاعية المتسربة تمثل خطورة على الصحة أكثر من أى شيء آخر. في 22/5 أكد تقرير لصحيفة (لوس أنجليس تايمز) أن الإصابات المرضية كثرت وسط العراقيين الذين يقطنون بالقرب من موقع الأبحاث النووية في التويثة عقب نهب مواد منه. وأن الأعراض المرضية، التي يشكون منها هي أعراض تناذر إشعاعي حاد acute radiation syndrome - بحسب تأكيد الأطباء. في 22/6 ، العشرات من العراقيين يعانون عوارض مرضية تتفاوت بين الطفح الجلدي والنزف من الأنف. ويقول المختصون إنها أعراض ترافق التسمم الإشعاعي. وأوضحت أن ظهور الأعراض المرضية بدأ على العراقيين قرب منشأة التويثة النووية، جنوبي بغداد. وأضافت أن التقديرات تشير إلى وجود المئات من الأطنان من اليورانيوم الطبيعي بالإضافة إلى كميات من اليورانيوم المخفف، قبيل تعرضها لعمليات نهب واسعة. وقد سرق العديد من البراميل والحاويات التي كانت تستخدم لحفظ اليورانيوم، حيث استخدمها أهالي المنطقة لحفظ مياه الشرب. وأكد لها الدكتور باسم عبود- الطبيب في مستشفى المدائن، الذي يبعد 9 أميال عن محطة التويثة: يزورنا يوميا 30 إلى 40 مريضا يعانون الإسهال الشديد والطفح الجلدي الناتج عن التعرض لإشعاعات سامة. وأوضح د. عبود: من الممكن أن يكون الإسهال ناتجا عن الحرارة المرتفعة في هذه المناطق، ولكن هذا لا ينطبق على هذه الحالات، حيث تختلف الأعراض من تلك التي يسببها ارتفاع الحرارة. وأضاف: العديد من العراقيين تعرضوا للإشعاعات السامة بعد تفريغ براميل اليورانيوم، وهو ما سبب الأمراض الجلدية والاضطرابات الداخلية. وقال: لسوء الحظ لا يمكننا القيام بأي شيء سوى إرسال المرضى لمستشفى أكبر في بغداد. ونوهت (سي أن أن) بأن هذه الأعراض قد تعود للظهور من جديد بعد علاجها كما أنها قد تسبب عيوبا في الجينات ويمكن أن تؤدي إلى ظهور أورام سرطانية. وقالت ان الوكالة الدولية للطاقة الذرية قامت بإرسال فريق إلى العراق للتحقق مما إذا كان اليورانيوم مفقودا أم لا، غير أن معظمه وُجد في الموقع النووي أو قريبا منه.ولم يُسمح للفريق الدولي بإجراء اختبارات طبية على العراقيين الذين يعانون أمراضا غريبة جراء التعرض للمواد السامة. وأكد موقع (بي بي سي اونلاين)، في 24/6، أن الأطباء في العراق يشعرون بقلق متزايد بسبب انتشار حالات التسمم الإشعاعي بين سكان المنطقة المحيطة بمنشأة التويثة، والتي تعد أكبر المواقع النووية العراقية. ويعتقد أن التلوث الإشعاعي أصاب أعداداً كبيرة من سكان تلك المنطقة بعدما نهبت براميل كانت تستخدم في تخزين اليورانيوم المشع من المنشأة في ابريل الماضي.وقد أفرغت البراميل من اليورانيوم، واستخدمت في تخزين المياه وغسيل الملابس. وأضاف: يستقبل المستشفى القريب من منشأة التويثة يومياً العديد من المرضى الذين يشتبه بأنهم تعرضوا للإشعاعات الذرية. ويقول الأطباء إنه في كل يوم يأتي إلى المستشفى نحو 20 شخصاً - بينهم الكثير من الأطفال - مصابين بإسهال مصحوب بنزيف معوي. ويعتقد أن مرض بعضهم نتج عن شرب مياه ملوثة بالطفيليات، لكن الاختبارات أظهرت أن نحو خمسة مرضى يومياً ليس بهم أي أمراض معوية. ويعتقد الأطباء أن هؤلاء مصابون بالتسمم الإشعاعي. وأن أعدادهم تتزايد. وأكد الموقع أن البراميل التي تحتوي على اليورانيوم ونهبت من منشأة التويثة في ابريل، غسلت في مياه نهر قريب، بعد إلقاء محتوياتها على الأرض. ومنذ ذلك الوقت تشهد المنطقة زيادة مطردة في عدد مرضى التسمم الإشعاعي. وأكد أيضاً إصابة عدد من الأفراد، تأكدت ملامستهم المباشرة لليورانيوم المشع، بأعراض التسمم الإشعاعي الحاد، كالطفح الجلدي ونزيف الأنف، والقيء. وأضاف أن فريقا تابعا للأمم المتحدة وصل إلى العراق لتفقد منشأة التويثة ومعرفة ما حدث لما كان بها من مواد مشعة، لكن الولاياتالمتحدة، بصفتها قوة الاحتلال في العراق، لم تسمح له بإجراء أي اختبارات طبية على سكان المنطقة المحيطة بالمنشأة. واختتم الموقع تقريره بان الأطباء يؤكدون أن التسمم الإشعاعي ربما يكون قد أصاب عشرات الآلاف من سكان المنطقة. من جهتها قامت جماعة السلام الأخضر (غرين بيس)، بتفقد منطقة التويثة، وتأكد خبراؤها من التلوث البيئي هناك، عبر قياس الإشعاع، ووضعت إشارات تحذر من الخطر، وطالبت القوات المحتلة، في 24/6، بتنظيف المنطقة من التلوث الإشعاعي او السماح للمنظمات الدولية للقيام بذلك. وقدم نشطاء البيئة للقوات الأمريكية في العراق حاوية مواد مشعة كبيرة من المادة المسماة (الكعكة الصفراء)، اي مسحوق بروكسيد اليورانيوم المنخفض التخصيب، الذي يستخدم كمادة خام للوقود المشع، وجدوها مهملة في ارض قفر قرب المنازل وطريق مزدحم على متن شاحنة، الى القوات التي تحرس الآن الجزء الداخلي الهام من المجمع. ووافق الجنود على قبول الحاوية التي تبدو مماثلة من حيث الشكل للطرف المخروطي لصاروخ، كما وافقوا على زيارة مواقع اخرى قالت (غرين بيس) انها وجدت مستوى الاشعاع مرتفعا بها على نحو غير عادي. واخذوا الصحفيين الى حاوية معدنية أخرى، مؤكدين انه يصدر عنها مستوى اشعاع يزيد 10 الاف مرة على المعدلات العادية، موجودة داخل منزل متداع لعامل واسرته. وأكد خبراء (غرين بيس) ان المواد السامة والمشعة متناثرة الآن حول المنطقة. وقال مايك تاونسلي- المتحدث باسمهم: لو كان هذا حدث في المملكة المتحدة، او الولاياتالمتحدة، او اي دولة اخرى، لكانت القرى المحيطة بمجمع التويثة تعج بخبراء الاشعاع وفرق ازالة التلوث! يذكر ان د. محمد البرادعي- المدير التنفيذي للوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة- كان قد اعلن ابان تكراره طلب وكالته من الإدارة الأمريكية بضرورة السماح لخبرائها بدخول العراق فوراً، لتقييم الوضع الإشعاعي هناك: (ثمة وضع اشعاعي وانساني ملح يتطور هناك استنادا لتقارير شهود عيان). لكن الإدارة الأمريكية عندما سمحت للوكالة بدخول العراق، بعد تأخير شهر ونصف الشهر، اشترطت ان تقتصر مهمتها في إحصاء حاويات المواد المشعة المفقودة، وإعادة تعبئة المواد المشعة بشكل آمن. ومنعت أن تتضمن مهمة فريقها قياس التلوث البيئي الناجم عن الحادث، أو مراجعة التقارير الخاصة باحتمال إصابة السكان القريبين من الموقع بأمراض بسبب التعرض للإشعاع النووي. كما ومنع فريق الوكالة من دخول المجمع الرئيسي لمركز أبحاث التويثة و6 مواقع نووية أخرى يعتقد أنها نهبت في فترة الفوضى التي عمت بعد انتهاء الحرب..وعندما باشر فريق الوكالة مهمته في السادس من يونيو،أحيط تحركه بتكتم شديد طيلة الأسبوعين التي قضاها هناك. وفي يوم الأحد الماضي أعلن د.محمد البرادعي ان خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية توصلوا الى مصير غالبية اليورانيوم المفقود من موقع تخزينه في التويثة،إلا أن (غرين بيس) شككت بهذا، وقالت انه يمكن ان تكون هناك كميات كبيرة من المادة في الخارج. ومع ان المسؤولين الأمريكيين قللوا من خطر (الكعكة الصفراء)، قائلين ان مستوى الإشعاع الصادر منها (منخفض الى حد كبير)، غير ان جنودهم يدفعون للمواطنين مبالغ مقابل الحصول على حاويات (الكعكة الصفراء) بعد ورود تقارير بان الناس يقومون بتخزين الأغذية والمياه فيها. ويتوقع مراقبون تزايد المخاوف بعد اكتشاف الصندوق المعدني الذي كان موجودا في منزل العامل حرشان خنفر واولاده الخمسة منذ أخذه من التويثة منذ 6 أسابيع. وهو الآن موجود في علبة من المعدن في انتظار التخلص منه بصورة آمنة. وعبرت العالمة ريان تيول- من (غرين بيس) عن اعتقادها بأنه مصدر مشع يستخدم في الأغراض الصناعية، وأن المواطنين في الأماكن القريبة منه يتعرضون لاشعاع في نصف ساعة يعادل الحد الأقصى الآمن الذي يستقبله الشخص خلال عام كامل بالمعايير الغربية، مما يعرضهم لمخاطر كبيرة للإصابة بالسرطان وامراض الإشعاع الأخرى. وأضافت، بينما كان الأطفال الصغار يتراكضون حولها: ان ارتفاع مستويات الإشعاع بهذا المعدل تمثل خطرا على كل من يعيش هنا، وحتى من يلعب هنا. وحيال خطورة الوضع كان مدير المستشفى المحلي في التويثة الدكتور عبد الله كريم قد رفع حالة التأهب في 25/6/2003- منذ وقعت أعمال السلب والنهب في المحطة. وقال إن مستوى الخطر يمكن أن يقاس من خلال عمليات مسح شاملة وأخذ عينات من التربة. وأضاف كريم أن على القوات المحتلة عمل شيء (فهذه منطقة ملوثة ولا يحرك أحد ساكنا. يجب أن تجرى عمليات إجلاء وأن تفرض قيود على الزراعة وقيود على استخدام الأراضي في رعي الماشية). وتابع الطبيب العراقي (نسمع تقارير عن أفراد أصيبوا بحروق جراء تعرضهم للإشعاع إلا أنهم يخشون المجيء إلى المستشفى مخافة أن يعاقبوا بتهمة السلب والنهب .. لا أحد يرى هؤلاء الأشخاص لكنهم موجودون). ورغم كل ما حصل، لم تتخذ الإدارة المدنية الأمريكية في العراق الإجراءات المطلوبة للحد من التسرب الإشعاعي، ولم تسمح بإجراء مسح شامل، ولم تقم بمعالجة المصابين، منتهكة اتفاقيات جنيف المتعلقة بحماية المدنيين زمن الحرب وأثناء الاحتلال،التي تلزمها بذلك، ولم تبرر موقفها هذا، الذي أضر بالعراقيين الأبرياء! * طبيب عراقي