كان تمرد شهر ايار مايو 1983 بقيادة جون قرنق مختلفاً عن تمرد آب اغسطس 1955، من حيث ان الأول غير انفصالي بخلاف الثاني الذي انطلق قبل اشهر من استقلال السودان: اتى ذلك من الدعاوى الإيديولوجية للعقيد قرنق بأن السودان "افريقي" وأنه "يجب تحريره" من "هيمنة الأقلية العربية"، وهذا ما جعله يضم في حركته أناساً غير جنوبيين، من بلاد النوبة، وشخصيات مسلمة منصور خالد، ياسر عرمان... الخ، اضافة الى تحالفه مع قوى تنادي بأفرقة السودان، مثل منظمة "مؤتمر البجا" في الشرق، وقوى متمردي دارفور الذي اندلع النزاع فيه في شباط فبراير 2003، اي بعد سبعة اشهر من "اتفاق مشاكوس" الذي ارسى بداية نهاية هيمنة الشمال العربي على مقدرات السودان. لم يكن السودان في حال "اندماج مجتمعي" بين مكوناته، بل كان منقسماً بين طائفتي الأنصار والختمية وتعبيريهما السياسيين: "الأمة" و"الاتحادي"، وبين الجنوب والشمال. وعانت مناطق كثيرة فيه من التهميش الجهوي دارفور - النوبة - مناطق البجا عند ساحل البحر الأحمر، فيما كان العامل القبلي اساسياً في رسم الحراك السياسي، كما في الجنوب لما نأت كبرى قبائل الجنوب، اي الدينكا، عن تمرد 1955، فيما شاركت تحت قيادة ابنها قرنق في تمرد 1983، الذي انقسمت حركته لاحقاً على اساس قبلي في التسعينات مع ذهاب النوير حركة الدكتور ريك ميشار والشلك حركة الدكتور لام اكول. حاولت ثلاثة اتجاهات سياسية تجاوز او حل هذا "اللااندماج المجتمعي": الحركة القومية العربية عبر نميري و"الضباط الأحرار" المدعومين من عبدالناصر، وعبدالخالق محجوب وحزبه الشيوعي الذي حاول ان يحكم من وراء نميري ليقوم بعد فشله بذلك بانقلاب تموز يوليو 1971 الفاشل، ثم الدكتور حسن الترابي وحركته الإسلامية التي ارادت جعل الإسلام "جامعاً قومياً" للسودان من خلال نفوذ الإسلاميين القوي عند أفارقة دارفور حيث ورث الإسلاميون النفوذ عن حزب "الأمة" الذي كان اقليم دارفور من معاقله القوية، الى درجة ان إسقاط حكومة تشرين الأول اكتوبر 1964 الائتلافية التي اعقبت الإطاحة بالجنرال عبود، قد تم من خلال استقدام انصار المهدية في الغرب السوداني الى شوارع الخرطوم في شباط 1965. فشلت هذه المحاولات الثلاث، ليكون المشهد السوداني، عقب إطاحة الدكتور الترابي بأيدي "تلاميذه" في الشهر الأخير من العام 1999، متميزاً بوصول انفجار مكونات المجتمع السوداني الى درجة الانشطار، سياسياً ومناطقياً وعرقياً وبين الشمال والجنوب، وسط سعي سلطة اسلامية، بعد ان تخلصت من رأسها، الى تقديم اوراق اعتمادها للغرب الأميركي ولمحيطها الإقليمي بعدما كانت صعدت الى السلطة في وقت غير ملائم صيف 1989 عشية سقوط الكتلة السوفياتية وما ادى إليه من انتفاء حاجة واشنطن الى الاعتماد على الإسلاميين ضد الشيوعيين وحلفائهم اليساريين، دولياً وإقليمياً ومحلياً. كان ذلك اساس ضعف المفاوض الشمالي امام الجنوبيين، في جولتي مفاوضات 2002 و2004 في كينيا، فيما لم يكن هذا الوضع قائماً في مفاوضات 1972 التي سبقت اتفاق اديس ابابا بين نميري وجوزيف لاغو، عندما كان حاكم الخرطوم يجد سنداً في القاهرة والرياض وواشنطن ولندن بعد ان تخلى عن الشيوعيين المحليين وموسكو، لنجد الآن ان المفاوض الشمالي يقبل كل ما كان يرفضه ربما كان ذلك هو سبب تخلي الدكتور غازي صلاح الدين عن رئاسة وفد مفاوضات مشاكوس، ورفضه التوقيع على الاتفاقات على صعد "المناطق الثلاث" و"تقاسم الثروة"، والأهم على صعيد "تقاسم السلطة"، الشيء الذي اظهرت مفاوضات 2004 استفحاله في نيفاشا اكثر مما كان قائماً في مشاكوس. ربما، كسب الفريق البشير، من ذلك، تفادي مصير الملاّ عمر وصدام حسين، إلا ان تكيفاته ليست محصورة، مثل الجنرال مشرف والعقيد القذافي، في السياسة الخارجية، بل تمتد الى السياسة الداخلية، لأن الخارج الأميركي هو الذي اراد رسم معالم السودان المقبل عبر محطتي مشاكوس ونيفاشا، لتأتي الآن محطة ثالثة اسمها دارفور. من الواضح الآن بعد استفحال أزمة دارفور، وتدويلها الواضح، ان موقف قرنق اصبح اقوى امام حكومة الخرطوم، ولم تكن دعوته الأخيرة الى المجتمع الدولي لفرض "اي ضغط يراه ضرورياً لإحلال سلام عادل في دارفور"، ناتجة فقط عن إحساسه بتوحد الحال مع "إخوته الأفارقة" هناك امام العرب، وإنما عن تقديره ايضاً إمكان فرض جدول اعماله القديم ل"أفرقة السودان" من خلال الظرف الحالي، الذي جعل عرب السودان يجدون انفسهم في اضعف حالاتهم خلال نصف قرن. طوال تاريخه الحديث، كان السودان مرآة انعكاسية للعلاقات العربية - الافريقية: استفاد السودان من وضع هذه العلاقات الإيجابي في زمن عبدالناصر وفي ايام صعود وزن العرب الاقتصادي عقب ازمة 1973 النفطية، الشيء الذي تزامن مع تقاطر الدول الافريقية الى قطع علاقاتها مع اسرائيل. الآن، في ظل ضعف العرب الراهن بعد المتغيرات الدولية، التي جعلت الروس والعرب والمسلمين من اكثر دافعي ضرائبها، فإن السودان يعاد صوغه من الخارج الدولي ومحيطه الإقليمي دول الإيغاد التي رعت اتفاقات الجنوب، مع استبعاد مصر والعرب: ألا يعبر هذا عن صعود الأفارقة في سلم العلاقات الدولية، وعن نزول وزن العرب وتأثيرهم؟ * كاتب سوري.