بعد مئة ويوم واحد من السباق الماراثوني بين النائب الأول للرئيس السوداني علي عثمان طه وزعيم "الحركة الشعبية لتحرير السودان" الدكتور جون قرنق استطاع مفاوضو عملية السلام السودانية إغلاق اصعب ملفات التفاوض وعبور اعلى قمم الجبال التي كادت تعصف بعملية السلام برمتها وتنسف جهود 23 شهراً من التفاوض المضني بين الخرطوم وقرنق، وتجهض جنيناً قضى تسعة اشهر في لحظات المخاض الأخيرة. ويمكن القول بكل ثقة ان الاتفاق النهائي لسلام السودان بات قاب قوسين او ادنى لأن التفاصيل المتبقية لن تنسف الاتفاق، فهي تفاصيل لتفصيل وقضايا اجرائية، إلا اذا اكتشف احد الأطراف انه غرر به ووقع تحت الضغط الدولي على قضايا تتناقض مع اجندته الحزبية وتتصادم مع مرجعياته وموجهاته الإيديولوجية. إلا ان المراقب للأوضاع في السودان ربما يصاب بنوع من الارتباك والحيرة حول مآلات الوضع في البلاد التي يفترض ان تطوي صفحات اطول حروب القارة الافريقية والتي انطلقت شرارتها الأولى في آب اغسطس 1955 وخيوط فجر الاستقلال تتسلل نحو الأفق عندما اعلنت حركة الأنانيا الأولى التمرد ضد السلطة المركزية في الخرطوم. ويقدر ضحايا الحرب بنحو مليونين من القتلى عدا موجات النزوح الداخلي واللجوء الخارجي. قد تتداخل المشاهد وتختلط الأوراق بالنسبة الى من لا يعرف الكثير عن سراديب التضاريس السودانية السياسية ذات الأنفاق والمنعطفات والمنحدرات الفجائية في بلد المليون ميل مربع والمليون سياسي كما يحلو لأهله تسميته. المتفائلون من المراقبين يرون ان السودان مقبل نحو تحول كبير بعدمان وضعت الحرب اوزارها في الجنوب بسلام الشجعان فيصبح اعداء الأمس اصدقاء اليوم وشركاء في السلطة والثروة، ويعتبرون التسعة الأشهر التي قضاها طه وقرنق عندما أسندت إليهما ملفات التفاوض وأوكلت إليهما مسألة اتخاذ اصعب القرارات وتقديم التنازلات وفق حسابات دقيقة ومعقدة قد قربت المسافة بين طرفي المعادلة وأتاحت لهما فرصة التعارف عن قرب، وربما تبني جسوراً من الثقة للعبور فوق انهار من الدماء وشلالات من المرارات ونوافير من المواجع بسبب القتال. ويشار الى توقيع الطرفين اتفاقاً لوقف العدائيات والنار للمرة الأولى منذ تجدد الحرب للمرة الثانية في 16 ايار مايو 1983 بقيادة العقيد جون قرنق احد ضباط الأنانيا الأولى حيث كان ضابطاً برتبة رائد في حركة التمرد واستوعب في الجيش السوداني برتبة نقيب بعد اتفاق اديس ابابا في آذار مارس 1972 رافضاً الاتفاق الموقع بين قائده اللواء جوزيف لافو والرئيس الأسبق جعفر نميري. ويعتقد المتفائلون بأن السودان مقبل نحو فرصة تاريخية ليتحول الى بلد منتج بدلاً من بلد معتمد على الإعانات الدولية وبرامج الأممالمتحدة وشريان الحياة والتسول في الساحات الإقليمية والدولية على فتات الآخرين، وهو البلد الذي تتمدد سهوله البكر مئات الملايين من الهكتارات الصالحة للزراعة، وقدرها من رؤوس الثروة الحيوانية، مع الإشارة الى ما يتمتع به من مصادر مياه ونفط اضفيا بعدين جديدين على القتال الذي كان يعبّر عن الصراع بين ثقافة المركز الإسلامو-عربية، وهيمنتها على السلطة والثروة، وثقافة الهامش الافريقية التي ثارت على التهميش. والنفط فصل مهم في فصول حرب الجنوب اذ يتمتع بنسبة عالية من الإنتاج والاحتياط في مناطق الوحدة وأعالي النيل وابيي. ويشير مراقبون الى ان واحداً من اسباب تدخل الولاياتالمتحدة الأميركية في ملف السلام السوداني هو مخزون النفط الكبير والمحاولة لإيجاد موطئ قدم للشركات الأميركية ووقف الاحتكار الصيني والماليزي للنفط السوداني. ومنذ حزيران يونيو 2003 بدأت عملية السلام السودانية تشهد قوة دفع جديدة بعدما رمت الولاياتالمتحدة بثقلها في العملية منذ وصول جورج بوش الى السلطة. اذ أكد الرئيس بوش في أول خطاب له في 2001 اهتمام واشنطن بالسلام في السودان واتهم الخرطوم بمقاتلة شعبها. وفي السادس من أيلول سبتمبر 2001 عين السيناتور جون دانفورث مبعوثاً خاصاً للسلام في السودان، وتبنى دانفورث مقترحات قدّمها في شباط فبراير 2001 مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن الذي يضم 60 خبيراً يترأسهم السياسي السوداني البارز فرانسيس دينق. وحذر المركز من أن دخول النفط في الصراع سيقلب موازين الحرب لمصلحة الحكومة. واقترح المركز لانهاء الحرب تبني نظام "سودان واحد بنظامين". واتخذ دانفورث القضايا الانسانية مدخلاً وأثمر ذلك عن اتفاق وقف النار في جبال النوبة في كانون الثاني يناير 2002. وخلص الى وقف النار والسماح بإيصال المعونات الانسانية الى المنطقة التي كانت الحكومة ترفض ضمها الى برنامج "شريان الحياة" تحت اشراف الأممالمتحدة منذ عام 1988. كما خطا دانفورث خطوات أكبر بتبني خطوات لبناء الثقة، مثل توصيل الاغاثة وفتح ممرات آمنة في مناطق القتال لتمرير الإغاثة، وحماية المدنيين ووقف القصف الجوي، إضافة الى التحقيق في تجارة الرق. ورأت واشنطن توحيد منابر التفاوض بين الخرطوم وقرنق من خلال تنشيط وتفعيل "ايغاد". وانضم الى دول "ايغاد" شركاؤها من الولاياتالمتحدة وبريطانيا والنروج وايطاليا. وأجج النفط الصراع في سنواته الأخيرة عندما اعتبره قرنق هدفاً عسكرياً استراتيجياً لأن الخرطوم تقوي نفسها من عائدات انتاج يومي تقدره الحكومة بنحو 300 الف برميل. ويلاحظ اصرار الحركة على مراجعة عقود شركات النفط وشروط عملها، حتى ان قرنق شدد على ضرورة موافقة حركته على العقود المبرمة لاستمرارها. كما ان الحركة تشكو من ترحيل مئات الآلاف من أفراد قبيلة النوير التي يتركز وجودها الجغرافي في ولايات انتاج النفط بسبب مصادرة الحكومة أراضيهم ومنحها للشركات من دون دفع تعويضات للأهالي أصحاب الأرض الحقيقيين. وحتى في مفاوضات قسمة الثروة ركز الطرفان على عائدات النفط. واتفقا على مناصفة العائدات بعد منح مناطق الانتاج نسبة اثنين في المئة. واتفق طه وقرنق على إنشاء مفوضية للنفط تابعة للرئاسة ورئيس حكومة الجنوب للإشراف على إبرام العقود والانتاج والتصدير وحسابات العائدات وتوزيعها. ويتوقع المراقبون تدفق المستثمرين على السودان بعد توقيع اتفاق السلام مباشرة ونفخ روح جديدة في جسد الاقتصاد السوداني المتعب. علماً ان فاتورة الحرب السنوية تفوق بليون دولار اميركي، فيما تتجاوز عائدات النفط بليونين سنوياً. غير ان النفط وانتاجه يظلان عاملاً جاذباً للاستثمار، الا ان الاقتصاديين يتوقعون التدفق الأكبر لأموال المستثمرين في المجالات الزراعية والتجارية والخدمات والسياحة والبناء وإعادة التعمير لتضخ الدماء في الاقتصاد الذي يعاني من الكساد التضخمي وإيجاد فرص جديدة للعمالة والأسواق ومحاربة البطالة وتحفيز عشرات الآلاف من الكوادر المؤهلة للعودة الى الوطن من المنافي الاختيارية. لكن المتشائمين من المراقبين يحذرون من أوضاع قائمة للسودان الموعود من الفريق الأول بطفرة اقتصادية كبرى. فهم يرون الاتفاق ثنائياً من حيث شكله واقتصاره على "المؤتمر الوطني" الحاكم و"الحركة الشعبية"، وتركيزه على الأوضاع في الجنوب وإهمال مناطق مهمشة أخرى. وفي هذا السياق يقول ديفيد موزرسكي المحلل في المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات ل"رويترز" انه يعتقد "ان الاتفاق خطوة ايجابية لحل مشكلات السودان"، لكنه تجاهل العديد من الميليشيات المسلحة مما قد يسبب مشكلات. ويشيرون الى حوالى 30 ميليشيا مسلحة معظمها : "في الجنوب. وقال جون إشوارث المحلل المقيم في جنوب افريقيا، اذا أبرم اتفاق سلام بين الحكومة والجيش الشعبي لتحرير السودان ولم يعالج الوضع في دارفور والشرق ستظل احتمالات استمرار الصراعات والاضطرابات كبيرة وقد تقوض اتفاق السلام ذاته". ومن الصراعات الدائرة في السودان كذلك تمرد جماعة بيجا الصوفية في الشرق التي تقتصر عملياتها حتى الآن على هجمات على الطريق السريع بين الخرطوم وبور سودان. وظهر صراع جديد هذا العام في مملكة الشيلوك في ولاية أعالي النيل وصفه محلل اقليمي بأنه "دارفور أخرى" وشرد نحو 70 ألفاً من السكان. وفي السياق ذاته حذر رئيس "حركة تحرير السودان" التي تنشط في دارفور عبدالواحد محمد أحمد نور من أن حركته ستطور عملياتها الى كردفان غرب والخرطوم وشرق البلاد إذا أقصيت حركته من أي اتفاق سياسي. وأشار الى ان الاتفاق "حبر على ورق" وأعلن عدم التزامه به ومواصلة العمل المسلح الى حين تحقيق سلام شامل، وهو الموقف ذاته الذي أعلنه "مؤتمر البجا". ولا يتخوف المراقبون من معارضة قوى التجمع الوطني والمعارضة الأخرى السياسية لعدم قدرتها على نسف اتفاق السلام مع وضع اعتبار خاص للمؤتمر الشعبي بزعامة الدكتور حسن الترابي إلا إذا طورت تلك القوى التقليدية من مناهجها وأدواتها وعقليتها السياسية. لكن التحدي الذي سيواجه السودانيين لن يقتصر على الحفاظ على الاتفاق فقط وانما الحفاظ على السلام، والحفاظ على وحدة البلاد واستقرارها. وننوه هنا الى ان أولى الخطوات نحو اتفاق السلام انطلقت من بروتوكول مشاكوس الموقع في 20 تموز يوليو 2002، ونص على حق تقرير المصير للجنوب بعد فترة انتقالية عمرها ست سنوات يقرر بعدها الاستفتاء للجنوبيين للاختيار بين البقاء في سودان موحد أو قيام دولة مستقلة وذات سيادة في الجنوب. هذا الحق هو حق طبيعي فرضه الواقع السوداني وما عاناه الجنوبيون في بلادهم من تمييز طيلة السنوات الماضية إلا انه يفتح الباب أمام الانفصال، وربما قيام أكثر من كيانين في المستقبل. كما ان اتفاق الترتيبات العسكرية في 24 أيلول سبتمبر 2003 أقر بوجود جيشين، احدهما للحكومة الحالية والثاني هو جيش حركة قرنق، وجيش ثالث مشترك. وان اتفاق قسمة الثروة في السابع من كانون الثاني يناير 2004 نص على قيام عملة جديدة مع تداول أكثر من عملة قبل بدء سك العملة الجديدة، وأعطي الجنوب فرعاً من البنك المركزي يعمل بنظام مصرفي عالمي، فيما يعمل فرع الشمال وفق ما يسمى اقتصاد اسلامي. ويرى البعض أن تلك السياسات تعزز عوامل الانفصال بعد السنوات الست وتمهد لقيام الدولة الجديدة. وبين الفريقين تطل فكرة تطوير الاتفاق والبناء على ما تحقق لتحويله الى اتفاق شامل يشمل كل القوى السياسية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني، واعتماد أنموذج حل قضايا مناطق النيل الأزرق وجبال النوبة لمعالجة قضايا المناطق المهمشة في دارفور والشرق من خلال أخذ نسبها من الثروة والحكم الذاتي الموسع والمشاركة في السلطة المركزية بنسبة عادلة، وخلق مناخ حر للتنافس السياسي وتغيير أدوات الصراع من مقاومة مسلحة الى حوار سلمي وديموقراطي لترسيخ قيم المواطنة والمساواة بين السودانيين وطي صفحات لحقب من التهميش والمظالم وبناء سودان جديد، وزرع ثقافة السلام والاعتراف بالآخر، وبناء جسور من الثقة، وتجاوز المرارات القديمة. وهذا يتطلب تنازلاً من الطرفين: أهل المركز بتقديم ثمن السلام والتنازل عن الامتيازات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأهل الهامش بالتسامي فوق الجراحات واغلاق الأبواب أمام أي محاولة للابتزاز بالماضي وممارساته، وهذا يتطلب اعلان مبدأ المصالحة والحقيقة والاعتذار الشمالي والصفح الجنوبي والإفادة من تجربة جنوب أفريقيا التي تحلى قادتها البيض بالشجاعة وودعوا نظام الابرتهايد والتمييز العنصري. ان ما يتم خلال الفترة الانتقالية هو الذي يحدد بوصلة اتفاق السلام ويحدد مصير السودان بين التقسيم الى دويلات، أو جعل خيار الوحدة جاذباً.