في فيلم "العناية الإلهية" الذي حققه آلان رينيه أواخر السبعينات من القرن الماضي، ثمة ثري مثقف يعيش أيامه الأخيرة، ويشك في حب أولاده وولائهم له، لذلك يمضي تلك الأيام وهو يركّب في مخيلته مجموعة من الحكايات والمؤامرات التي يجعل من أولاده ونسائهم وعشيقاتهم، شخصياتها الحقيقية، واضعاً في كل مرة صدق هؤلاء وحبهم له على المحك... وهكذا يختلط في ذلك الفيلم الجميل والغريب، الواقع بالخيال وتكون البطولة كلها معقودة لمكر ذلك العجوز، ولسياق لعبته المسلية والمريرة التي ترفه عنه كثيراً في تلك الفترة من عمره، إذ يكون همه الأساسي من خلال ذلك كله، أن يرسم محصلة لحياته يتساءل فيها عما إذا كان وجود أولاده، أصلاً، في تلك الحياة ضرورياً. قام بالدور يومها الممثل البريطاني العملاق جون جيلغود، أحد أكبر الممثلين الشكسبيريين في تاريخ القرن العشرين. وكان ذلك واحداً من آخر أدواره، ما جعل الامتزاج واضحاً بين الدور والممثل، واضفى على سمات الرجل، خلال لهوه الماكر مسحة شديدة الذاتية سيقول آلان رينيه لاحقاً إنها أدهشته وأفزعته في الوقت نفسه. جون جيلغود، هو واحد من الأشباح التي تهيمن على فيلم يوسف شاهين الجديد الذي بات الآن في طور الإنجاز النهائي، وسيصبح جاهزاً للعرض خلال الأسابيع المقبلة. فجيلغود، ومن خلاله هاملت شكسبير، يعيش على الدوام في قلب ذلك الفتى الذي كانه شاهين خلال النصف الثاني من سنوات الأربعين يوم قصد أميركا ليدرس التمثيل السينمائي. في اختصار كان شاهين، واسمه كالعادة يحيى في الفيلم، يتطلع إلى الفن من خلال هاملت ومن خلال جيلغود. وهكذا شاءت المصادفة أن يحضر هذا الفنان البريطاني الكبير في فيلم مخرجنا العربي المبدع، بعد سنوات عدة من رحيله. أما حضوره في الذاكرة من خلال فيلم "العناية الإلهية" فحكاية أخرى، لا ترتبط بيحيى في الفيلم، بل بيوسف شاهين، خلال تصوير الفيلم وإعداده. وهذه الحكاية ما كان لها أن تبين قبل أن يعرض الفيلم، ولو في نسخه الأولى على عدد محدود من محبّي شاهين والمهتمين بعمله. وهي نسخ لا يزال ينقصها الكثير من العناصر التقنية لكنها في حالها الراهنة التي شوهدت فيه حتى الآن تنم عن أن فيلماً كبيراً جداً في انتظار المتفرجين: فيلم يلخص حياة شاهين ليستكمل "الثلاثية الذاتية" المؤلفة من "اسكندرية ليه؟" و"حدوتة مصرية" و"اسكندرية كمان وكمان"، من ناحية، ويكثف من ناحية ثانية كل ابتكارات شاهين ولغته السينمائية الباهرة، ويكشف من جهة ثالثة عن علاقة الحب/ الكراهية التي قامت دائماً بين شاهين والغرب أميركا تحديداً. حسناً، لسنا هنا في وارد الإسهاب في الحديث عن الفيلم لأسباب لسنا في حاجة إلى تفصيلها. لكن في انتظار أن يعرض الفيلم بنسخه المكتملة فنياً، وفي انتظار أن نعرف ما اذا كان سيعرض في مهرجان "برلين" المقبل شباط - فبراير أو في مهرجان "كان" أيار - مايو، يمكننا أن نعود إلى حكاية جون جيلغود في "العناية الإلهية". وهذه الحكاية نبدأها أيضاً مع شاهين ونرويها بشيء من الصراحة: حين انتهى شاهين من انجاز "سكوت هنصور" ورافقته خلاله الآلام والعمليات الجراحية الخطرة، خيل إلى كثر أن ذلك الفيلم سيكون عمله الأخير، فالرجل تشتد وطأة المرض عليه وتجاوز الخامسة والسبعين من عمره، ثم أفلم يقل أنه "قال كل ما عنده، وبدأت لغته السينمائية تكرر نفسها؟". ولكن على عكس كل التوقعات، وإذ اندلعت كارثة 11 أيلول سبتمبر وما تلاها، بدا شاهين وكأنه أفاق من كل ما يعتريه، وقرر أن يعود ليقف وراء الكاميرا غير آبه بالمرض أو بالتعب أو بتقدم السن. وحينما عرض عليه أن يحقق فيلماً يبلغ طوله 11 دقيقة في عمل جماعي عن أيلول سبتمبر تنفس الخلصاء الصعداء، وقالوا: حسناً سيحقق هذا الفيلم كنزوة أخيرة ويرتاح بعده. ولكن لسوء حظ هؤلاء، ولحسن حظنا، لم يكن الفيلم القصير تحفة من التحف، حتى وإن كان استقبل استقبالاً جيداً. ومن هنا كان من الطبيعي لشاهين أن ينتفض على نفسه. وإذ راح يشتم أميركا ذات اليمين وذات الشمال كعادته حينما يشتم من يحب لخيبة أمل ساورته، قال أنه سيعود، أيضاً وأيضاً، إلى الكاميرا وسيحقق فيلماً طويلاً، جديداً، بل سيحقق ثلاثية. وساد الارتباك بينما راح هو يكتب، وساد القلق عندما كان يحضر للتصوير. ثم ساد نوع من الاستغراب، فيما كان يصور. لم يبد ما يصوره واضحاً تماماً. وقال كثر: لقد وصل صاحب "الأرض" و"باب الحديد" إلى حدود التخريف. وصار معظم العاملين معه يعاملونه وكأنه عجوز يعيش نزوته الأخيرة. ويبدو أنه هو استمرأ اللعبة، وفيما كان يبني مشاهده، ويضخ حياته صوراً ومشاهد وألواناً، كان يبدي من غرابة الأطوار قدراً كافياً لإثارة شفقة الذين يحيطون به. كان يصر على تحضير أشياء تبدو غير ضرورية، وكان يصر على تصوير لقطات ومشاهد تبدو مقحمة. بل إنه لم يأبه حينما قيل له إن تصويره "كارمن" سيكلف أكثر من مليون جنيه. كان ينظر إلى الآخرين نظرات تائهة ويصر على ما يريد وكأنه طفل مدلل يحب أن تطاع أوامره حتى لو بدت غير منطقية. هذا الكابوس كله عاشه رفاق شاهين والعاملون في فيلمه طوال أكثر من عام. وكانوا يتابعون كل حركة وسكنة مشفقين قلقين ضاربين يداً بيد. ولكن في الوقت نفسه كانت قلة منهم فقط تعرف أن "الختيار" يلعب. وأن هذا الفنان الماكر يلعب لعبته - على شاكلة ما فعل "أستاذه" الكبير جون جيلغود في "عناية إلهية". والحقيقة أن من يشاهد الفيلم اليوم، سيعرف أن شاهين كان يلعب بالآخرين وبأعصاب الآخرين. في الوقت الذي كان يعرف فيه ما يريد تماماً، وينسج شبكة فيلمه خيطاً خيطاً. أما الخديعة المتواصلة فكانت جزءاً من الفيلم. وحتى العنوان الذي كان أعلنه "الغضب" كان خديعة ماكرة لأن العنوان الحقيقي هو "اسكندرية - نيويورك". وحتى الموضوع الذي تحدث عنه لم يكن سوى جزء ضيئل جداً من موضوع الفيلم غضبه على أميركا، فالفيلم أتى أعمق كثيراً وأجمل كثيراً مما جعلنا الماكر نعتقد. الفيلم أتى شفافاً وبسيطاً وعميقاً يكاد يلخص كل ما أراده شاهين من السينما ومن الحياة. والفيلم أتى عامراً بالشخصيات الرائعة والمواقف الجديدة. وهي كلها أمور سنعود إليها لأن ليس من حقنا بعد أن نتحدث عن الفيلم. فقط ما نريد أن نقوله هنا هو إن "الختيار" لعب لعبته وان "الأستاذ" مكر بالجميع. وكانت النتيجة تحفة ستفاجئ الجميع بالتأكيد.