يكثر الحديث في الساحة الفلسطينية، هذه الايام، عن الديموقراطية والاصلاح والتجديد والتغيير. والتدقيق في الموجة الجديدة يبين أنها تختلف عن سواها لأنها رافقت"التمرد"الذي وقع في قطاع غزة والهزة المحدودة في جنين، وتشارك فيها بقوة كوادر في حزب السلطة"فتح"ومجموعات في"كتائب شهداء الاقصى". وتظهر مراجعة وتيرة حديث الاصلاح انه ظل موسمياً يسخن ويبرد، تبعاً لحال العلاقة بين السلطة والمعارضة، وحسب نشاط المثقفين ومراكز الأبحاث والدراسات ومنظمات المجتمع المدني في تشخيص الأزمة وتحديد سبل الاصلاح. إلى ذلك، يتأثر حديث الاصلاح في الشارع بالازمات الداخلية التي تظهر بين فترة وأخرى على شاشة الحزب الحاكم"فتح"، وبأحداث نافرة تطفو على سطح المجتمع الفلسطيني، وبما يظهر على خشبة المسرح السياسي من أخبار الفساد في السلطة والممارسات الخاطئة لأجهزتها الأمنية والمدنية. ويزدهر هذا الحديث في صفوف قوى النظام السياسي ونخبة المثقفين عندما تضطرب علاقة الحكومة بمؤسسة الرئاسة وتتوتر علاقة المؤسستين بالمجلس التشريعي. ويطغى الموضوع على ما عداه في الصحافة وشاشات الفضائيات وقاعة التشريعي عندما تظهر ملامح تغيير أو تعديل وزاريين. وبفعل الموسمية والمفاهيم الفصائلية الضيقة فقدت هبات النقد وصيحات المطالبة بالاصلاح والتجديد الموضوعية والشمولية ولم تحقق نتائج ملموسة ذات قيمة. وظل وضع السلطة والحزب الحاكم وباقي القوى"الوطنية والاسلامية"على حاله ولم يظهر في الساحة نموذجاً ديموقراطياًً يحتذى به. وكثيراً ما قفز قادة الفصائل والاحزاب الفلسطينية فوق موجبات الاصلاح الحقيقية، وتهربوا دائماً، هيئات وافراد، من ترجمة الاقوال الى افعال. بل قاوموا ببراعة اي تعديل في اللوائح والانظمة الداخلية، خصوصاً رمى الى تجديد القيادة وتوسيع الديموقراطية في صفوف التنظيم. ويستطيع المراقب المحايد أن يرى أن أدق تشخيص لحالة النظام السياسي الرسمي المتدهوره يأتي من كوادر حزب السلطة، وأعلى وتائر نقده يأتي من قادة القوى الوطنية المشاركة فيها. لكنه يجري في الغالب خارج الاجتماعات الرسمية، ويكتفي بعضهم بطرحه داخل اطر ضيقة. وحديثهم عن حال السلطة يأخذ في معظم الأحيان طابع التندر والتنكيت خصوصاً حول أداء السلطة ومؤسساتها الأمنية والمدنية بما في ذلك اجتماعات الحكومة واللجنة التنفيذية. وكأن أصحاب التندر والتنكيت ليسوا جزءاً من السلطة وبراء من المسؤولية عن استفحال النواقص والثغرات في وضع المنظمة. وفرز دعوات الإصلاح والتجديد والتغيير بعضها عن بعض يبن انها تنطلق من مفاهيم متباينة الاغراض والاهداف وليس كل أصحابها والمؤيدين لها صالحين ومجددين، وتدقيق المتداول يبين أن كثيره مزيف وقليله صادق: بعضه قيّم يرسي أسساً سليمة لعملية التجديد والتغيير والدمقرطة المطلوبة وطنياً. يطرحه فلسطينيون وديموقراطيون عرب وآخرون غيورون على المصالح الفلسطينية. يميزون الخلل الموضوعي عن الذاتي ويأخذون في الاعتبار إرث الاحتلال ودوره في الأزمة ويراعون موازين القوى الدولية والإقليمية ومواقفها. هناك دعوات تصدر عن ناس المعارضة وآخرين في الحزب الحاكم ومنظمات المجتمع المدني أقرب للمناكفات الحزبية والمناورات السياسية و"التحشيش الفكري"حسب تعبير ابو عمار، تقابلها محاولة ناس في السلطة والحكومة والمجلس التشريعي للتقليل من دور القصور الذاتي في خلق والثغرات، عبر التركيز على دور الاحتلال في"الخراب"وفي تعطيل الاصلاح. وهناك صنف ثالث يندرج تحت بند خداع وتضليل سياسي يطرح بهدف تغطية مآرب واهداف خاصة شخصية وحزبية ضيقة. وصنف رابع لا يمت بصلة للمصلحة الوطنية، يطرحه شارون لتغطية سياسته المتطرفة المعادية للسلام. ولا خلاف بين الفلسطينيين وأنصار السلام في اسرائيل على أن حديث شارون وأركانه أقطاب اليمين عن إصلاح السلطة الفلسطينية يشبه حديث المجرم الذي يحاول حرف الأنظار عن جريمته، ومحاولة مكشوفة هدفها تضليل الرأي العام العالمي والاسرائيلي وتبرير أعماله الفاشية المتواصلة بحق الفلسطينيين ارضاً وشعباً وممتلكات وبحق السلام بين الشعبين. فهدف شارون واركانه الامنيين والسياسيين لا يقل عن استكمال تدمير السلطة ومؤسساتها ونسف أسس عملية السلام وتدمير مقومات قيام دولة فلسطينية. واظن ان التحاق حزب العمل بالحكومة وتولي شمعون بيريز حقيبة الخارجية لا يفعل أكثر من توسيع دائرة التضليل وادعاء"صدقية"لها. وإذا كان أركان البيت الأبيض يأخذون على محمل الجد قصة الاصلاح في أجهزة الأمن الفلسطينية، وتطهير مؤسسات السلطة من الفاسدين ودمقرطة أوضاعها...الخ، فان شارون واركانه الامنيين وانصارهم في الساحة الاميركية مستعدون لسحب حديثهم عن تغيير وإصلاح سلطة عرفات ونشر الديموقراطية في الساحة الفلسطينية...الخ إذا نجحت في قمع المعارضة وضبطت الوضع الأمني وأوقفت العمليات ضد الإسرائيليين واستسلمت لشارون. والكل يعرف أن شارون وقوى دولية يحثون السلطة صباح مساء على قمع حركة حماس والقوى الفلسطينية التي تمارس العمل العسكري ضد اسرائيل، وتطالبها بإجراءات غير ديموقراطية كاعتقالات بلا محاكمات واغلاق مؤسسات مدنية طبية واجتماعية وانسانية. دعاة الإصلاح"الصادقون"وحكومات دول العالم الديموقراطي تتعامل مع حديث شارون باعتباره كلام حق يراد به باطل. ومن يمنع الفلسطينيين من ممارسة حقهم في الانتخابات ليس حريصاً على نشر الديموقراطية في فلسطين واجراء إصلاحات واسعة في النظام الفلسطيني. ولا يعني اشتراط شارون إصلاح السلطة وتغيير قيادتها قبل العودة للمفاوضات سوى أن لا أفق لاستئنافها وإحياء عملية السلام في عهده. كذلك اصراره على بناء جدار الفصل العنصري بين الاسرائيليين والفلسطينيين يؤكد أنه لا يزال يعيش عقلية"الغيتو"ويعمل على الزام شعب اسرائيل بالانفصال والانعزال عن جيرانهم إلى الأبد. وبمعزل عن رأي شارون وسكان البيت الابيض فإني اؤمن بأن اصلاح النظام السياسي الفلسطيني، سلطة ومعارضة، قضية وطنية كبرى. ففي إصلاحه ودمقرطة علاقاته وتجديده قوة للفلسطينيين في المواجهة المفروضة عليهم. ويمكن للقراءة الموضوعية للأزمة تحميل الاحتلال مسؤولية خراب الاقتصاد الفلسطيني وزرع ازمة اقتصادية معقدة يصعب علاجها لحاجتها الى مساعدات خارجية، لكن الأمر لا ينطبق على ازمة الديموقراطية وازمة العلاقات الداخلية. فقد ساهم عدم الاحتكام للقانون وانعدام المحاسبة المسؤولة وغياب المأسسة في إظهار السلطة أمام أبنائها ومؤازريها قبل خصومها، بأنها فاشلة ينخرها الفساد والمحسوبية، حتى نفر منها قطاع واسع من الناس، بينهم ناس هللوا لها يوم ميلادها. خاب أمل الواقعيين الديموقراطيين في سلطة فلسطينية ديموقراطية، وتشكلت عنها صورة في ذهن المواطن الفلسطيني مطابقة لصورة الأنظمة العربية المتخلفة والدكتاتورية التي رفضها نموذجاً لحكمه وسلطته. وفي كل الحالات أعتقد أن شارون وبوش وأركانهم براء من صفقة الاسمنت مثلاً، وليسوا مسؤولين عن قضايا الفساد السياسي المالي والاداري والاخلاقي التي تحدث عنها فتحاويون ويحقق المجلس التشريعي في بعضها. وأظن ان إصلاح النظام السياسي الفلسطيني بات يتطلب خطوات وطنية جريئة حتى ولو كانت مؤلمة لبعض القوى وبعض الشخصيات. وإلى"نفضة"فكرية سياسية تنظيمية إدارية شاملة، تبدأ اولاً بالسلطة والمنظمة وتمتد لتشمل القوى الوطنية الاسلامية الأخرى. وإذا كان امر الاصلاح اختلط على الناس في الضفة والقطاع ونجح من هم بحاجة إلى اصلاح ومحاسبة وتغيير في تشويه العملية المطلوبة وزرعوا شكوكاً في جديتها فهذا لا يلغي الضرورة العملية للاصلاح ولا يقلل من قيمتها الوطنية خصوصاً في المرحلة الحرجة التي يمر بها الفلسطينيون. وبديهي القول أن إعتماد القدرية وانتهاج مواقف انتظارية في معالجة الخلل يضر ولا ينفع، وأيضاً الإكتفاء بمواقف الردح والتنكيت لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يصحح الأخطاء. والشيء ذاته ينطبق على احلال الرغبات والامنيات الذاتية بدلاً عن الواقع. أظن أن التاريخ لن يرحم أحداً، وليس هناك قائد او مثقف فلسطيني داعم او مشارك في السلطة او معارض لها يستطيع الادعاء بأنه بريء من المسؤولية عن الاخفاق. وبصرف النظر كيف ترى القوى نفسها في المرآة فالفحص الموضوعي لأوضاعها يؤكد أنها بحاجة إلى عملية إصلاح وتجديد ودمقرطة جذرية وليس حزب السلطة فقط. وإن التلكؤ في الاصلاح يضاعف من المسؤولية ويزيد في حجم الخسائر، ويفرض على الاجيال اللاحقة ثمناً باهظاً لأخطاء وتقصيرات ارتكبتها أجيال سبقتها. ويأمل"الصادقون"من دعاة الإصلاح والتغيير بأن لا تتلاشى الموجة الجديدة بسرعة، وبأن تتحول قضايا الإصلاح والتجديد والتغيير الى وقائع على الارض وتسفر عن نتائج تفيد الناس في الضفة والقطاع، وليس فئة محدودة في قمة الهرم السياسي او من هم دون ذلك بقليل. يتم الاصلاح اذا توفرت رافعة تنظيمه متينة تحمل قضاياه وتثابر على طرحها في الشارع، وأيضاً عندما يتعزز دور دعاة الإصلاح"الحقيقيين"في المجتمع ويصبحون قوة ضغط فعّالة تناضل داخل السلطة وخارجها. واذا كان التقاط الافكار القيمة ودفعها نحو التطبيق مهمة من الطراز الاول فلا مناص أمام دعاة التغيير والإصلاح والتجديد من توحيد أنفسهم في إطار حركة ديموقراطية جديدة. وقديماً قالوا ليس كل ما يلمع ذهباً، ويمكن القول الآن ليس كل من يدعو للاصلاح صالحاً وصادقاً حتى اذا تحدث بصوت عال. * كاتب فلسطيني.