يكثر الحديث بين فترة واخرى، في الاوساط الفلسطينية الرسمية والشعبية والحزبية عن ازمة العمل الوطني الفلسطيني وتدهور احوال السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية، وسبل الخروج من الازمة. وتعيش الساحة الفلسطينية، هذه الايام، موجة جديدة صاعدة من النقاش الداخلي والعلني عن الاصلاح والتجديد والتغيير، تتركز على اصلاح حال السلطة التنفيذية والمجلس التشريعي والاجهزة المدنية والامنية. ويتم التطرق احيانا بصور عابرة الى ازمة منظمة التحرير، مؤسسة وفصائل، وازمة قوى المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، وكأن اوضاعها على ما يرام وتخلو من الشوائب. وتظهر مراجعة سيرة حديث الاصلاح والتغيير، ان وتيرته ترتفع وتهبط تبعا لحال العلاقة بين اطراف النظام السياسي الفلسطيني "سلطة ومعارضة"، وحال عملية السلام وعلاقة السلطة بالحكومة الاسرائيلية. وحسب ما يطفو على سطح البيت الفلسطيني من احداث واخبار نافرة عن السلطة والفساد وممارسات اجهزتها الامنية والمدنية، وما يظهر على شاشة علاقتها بالمجلس التشريعي. وفي حال ارتفاع حرارة النقاش، كانت الساحة السياسية الفلسطينية تشهد نشاطاً واسعاً، وتكثر الندوات ويظهر على صفحات الصحف والمجلات وشاشات الفضائيات العربية اقتراحات وآراء كثيرة ومتنوعة. بعضها قيم، يرسي اسسا سليمة لعملية الاصلاح والتجديد والتغيير والدمقرطة المطلوبة وطنيا. لكن هذه الافكار القيمة والثمينة كانت دائما تتبخر بسرعة قبل ان تتمكن شق طريقها للحياة والتدقيق في اسباب تبخرها قبل تحولها الى توجهات عمل لقوى النظام السياسي الفلسطيني ومنظمات المجتمع المدني يبين: 1 - ان حديث الاصلاح ظل حديثاً موسمياً، يخضع لهمة ونشاط دعاة التجديد والتغيير - مثقفون وكتاب ديموقراطيون مستقلون، مراكز الابحاث والدراسات، منظمات المجتمع المدني، فصائل الحركة الوطنية والاسلامية، كوادر في السلطة... الخ في تشخيص الازمة وتحديد السبل العملية والواقعية لمعالجة الازمة حسب اولويات محددة. ولم يتحول التشخيص الصحيح الى اقتراحات تنظيمية عملية ملموسة يثابر اصحابها في طرحها على الناس دون كلل، ويكافحون ببسالة في المؤسسات التشريعية والتنفيذية لتحويلها الى قرارات ملزمة 2 - ظل نقد الاوضاع الداخلية، في كثير من الاحيان، اقرب الى المناكفات الحزبية والسياسية، و"تحشيش فكري" حسب تعبير ابو عمار. ونادراً ما مارست القوى الوطنية والاسلامية - سلطة ومعارضة - النقد الذاتي وامتاز الجميع بالتمترس وراء مواقفهم، رغم ان وقائع الحياة اكدت ان بعضها خطأ ويلحق الضرر بالمصالح الوطنية. 3 - تبين المراجعة ان هدوء الصراعات الحزبية والفصائلية، واختفاء السلوك الخطأ للاجهزة الامنية والمدنية، كان كافيا لخفض وتيرة الحديث والنقاش العلني عن الازمة. وكان انسجام علاقة المجلس التشريعي بمؤسسة الرئاسة، وعلاقة وزراء السلطة وقادة اجهزتها بعضهم بعضا، يضيق مساحة المشاكل والقضايا التي يتم تداولها في الاوساط الرسمية والحزبية. وكان استقرار العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية، وانتعاش المفاوضات وتحرك عملية السلام كافيا ايضاً لتجميد البحث في سبل معالجة الازمة، وعكس ذلك كله كان صحيحاً ايضاً. 4 - بفعل موسمية الحديث والمفاهيم الفصائلية الضيقة، فقدت هبات النقد وصيحات المطالبة بالاصلاح والتغيير والتجديد، الموضوعية والشمولية وفقدت قيمتها التنظيمية والمعنوية. وكثيرا ما تم القفز فوق المسببات الحقيقية للازمة ومكوناتها وتعقيداتها، وتم حصر الامر في حدود ما يراه هذا الطرف او ذاك، ويساعده على تبرئة ساحته من المسؤولية عن خلق الازمة ويعفيه من ملاحقة اطروحته النظرية لحلها. 5 - افتقد حديث الاصلاح الى رافعة حزبية متينة ومتماسكة، قادرة على حل قضايا الاصلاح والتجديد الى الشارع ولم يتمكن دعاة الاصلاح افرادا وجماعات، من تشكيل قوة ضغط وطنية تناضل داخل السلطة وخارجها من اجل تحويل هذه القضايا الى توجهات رسمية. 6 - التدقيق في مضمون الحديث، المعلن وغير المعلن، عن الازمة وسبل الخروج منها، يبين ان بعضه واقعي وشمولي يتمحور حول قضايا جوهرية تهم الشأن الوطني العام. يميز جوانبها الموضوعية عن الذاتية، ويأخذ في الاعتبار إرث الاحتلال ودوره في الازمة واستفحالها. ويراعي موازين القوى ومواقف القوى الدولية والاقليمية في معالجتها. بعضه الآخر ارادوي هروبي، يسقط دور العوامل الخارجية.، ويهتم بالشأن الذاتي وبالمصالح الحزبية الضيقة ويعفي الذات من المسؤولية، ولا يقصر في جلد الغير ويحمل الآخرين كامل المسؤولية عن الازمة وعدم معالجتها. وهناك ايضاً من ناس السلطة من يحاول طمس الحقائق ويخفي الوقائع ويغطي الشمس بالغربال. ويبالغ في دور الاحتلال وموقف الادارة الاميركية المساند لاسرائيل في خلق الازمة، ويقلل من قصور السلطة واجهزتها في نشوء الازمة وتفاقمها. والتدقيق في الموجة الجديدة من الحديث عن الاصلاح والتغيير، يبين انها تمتاز عن سواها في انها: اولا، ظهرت بعد الهزة العنيفة التي تعرض لها الوضع الفلسطيني اثر اجتياح القوات الاسرائيلية جميع مدن ومخيمات وقرى الضفة الغربية. حيث تلاشى دور السلطة ابان الحرب، وقصرت اجهزتها الامنية، في معظم المناطق، في التصدي للقوات الغازية وفي الدفاع عن المواطنين وممتلكاتهم، وغاب دور اجهزتها المدنية في توفير الخدمات الاساسية للناس. واذا كان لا مجال لاستعراض دور قوى المعارضة، الوطنية والاسلامية، في الحرب فتقصيرها لم يكن اقل من تقصير السلطة، واضراره، المباشرة وبعيدة المدى، عليها وعلى مسيرة النضال الوطني كبيرة. ثانياً، في الموجة الجديدة اتسع نطاق المشاركين في المطالبة بالاصلاح والتغيير، ولم يبق، احد في المعارضة والسلطة وخارجهما لم يدل بدلوه في الموضوع. بدءا من ابو عمار الذي اقر في خطابه امام المجلس التشريعي بوجود اخطاء ونواقص وثغرات برزت في عمل مؤسسات السلطة قبل وخلال "عملية السور الواقي" وتعهد بالعمل على تجاوزها، مروراً بالوزراء وقادة اجهزة الامن واعضاء المجلس التشريعي، وانتهاء بمنظمات المجتمع المدني ومراكز الابحاث والدراسات. وحافظت قوى المعارضة "الوطنية والاسلامية" على خطابها النقدي القديم وحملت السلطة بشقيها التنفيذي والتشريعي، مسؤولية الازمة واستفحالها. وتتجنب الحديث في موضوع اصلاح اوضاع السلطة ومؤسساتها، باعتبارها نتاج عملية سياسية تنظيمية لم تشارك فيها. وتركز المعارضة حديثها في الاصلاح الموقف السياسي، وتعتقد ان الانسحاب من عملية السلام ووقف المفاوضات والغاء الاتفاقات مع اسرائيل هو العلاج الشافي للازمة. ثالثاً، في الموجة الجديدة انضمت قوى دولية واقليمية كثيرة الى المطالبين باصلاح النظام السياسي الفلسطيني، وبرز بقوة موقف الادارة الاميركية والاتحاد الاوروبي. ولم يتوان شارون عن الادلاء بدلوه في الموضوع، وجعل من اصلاح اوضاع السلطة الفلسطينية واجهزتها وبخاصة محاربة الفساد، شرطاً مسبقاً لاستئناف مفاوضات السلام مع الفلسطينيين. وبقي امين عام الاممالمتحدة "كوفي انان" ومجلس الامن والجمعية العامة لم يدلوا بدلوهم...! لا شك في ان المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تفرض في المرحلة الحرجة التي عبرتها القضية الفلسطينية، بعد تدمير اليمين الاسرائيلي اسس وقواعد عملية السلام، تفعيل دور جميع قوى النظام السياسي "سلطة ومعارضة ومنظمات مجتمع مدني" في الدفاع عن الوجود والحقوق الفلسطينية، وزج الطاقات الوطنية في معركة التحرير والبناء. والتدقيق السريع في اوضاع هذه القوى يبين ان جميعها، وليس السلطة فقط، بحاجة الى عملية اصلاح وتجديد ودمقرطة جذرية. ويأمل دعاة الاصلاح والتغيير "الصادقون" ان لا يتكرر المشهد وان لا تتلاشى الموجة الجديدة بسرعة، وتسفر عن نتائج ملموسة يلمسها الناس في الضفة والقطاع. وفي سياق فرز وتصنيف دعوات الاصلاح الكثيرة، لا خلاف بين الفلسطينيين بمختلف اتجاهاتهم السياسية على ان حديث شارون عن اصلاح اوضاع السلطة الفلسطينية قبل استئناف عملية السلام يشبه حديث المجرم الذي يحاول حرف الانظار عن جريمته. ومحاولة مكشوفة للتغطية على جريمته المستمرة بحق الفلسطينيين وبحق السلام بين الشعبين، واستكمال تدمير السلطة ومؤسساتها، ونسف اسس عملية السلام وتدمير مقومات قيام دولة فلسطينية مستقلة. واشتراط اصلاح السلطة الفلسطينية قبل العودة الى المفاوضات، يعني لا افق لاستئنافها او احياء عملية السلام في عهده. واظن ان اركان البيت الابيض ورؤساء حكومات العالم لا يأخذون حديث شارون واركان اليمين في اسرائيل عن اصلاح ودمقرطة الوضع الفلسطيني الداخلي على محمل الجد. ويتعامل الفلسطينيون مع الحديث الاميركي والاوروبي عن اصلاح اوضاع السلطة باعتباره كلام حق يراد به باطل. ولا خلاف بين السلطة والمعارضة على ان اركان الادارة الاميركية ودول الاتحاد الاوروبي ليسوا حريصين على نشر الديموقراطية في فلسطين، واجراء اصلاحات واسعة في النظام الفلسطيني، وتوحيد اجهزة الامن، وتطهير اجهزة السلطة المدنية من الفاسدين، واجراء انتخابات تشريعية وبلدية... الخ وان هدف الحديث في هذا الوقت بالذات تقطيع الوقت الضائع من مسيرة السلام واحتواء الازمة. وتغطية عجزهم او عدم رغبتهم في الضغط على شارون لوقف اعماله العدوانية ضد الفلسطينيين، والزامه باحترام الاتفاقات التي توصلت اليها السلطة الفلسطينية والحكومات الاسرائيلية السابقة. وفشلهم في ارغامه على العودة الى طاولة المفاوضات والالتزام بأسس عملية السلام التي انطلقت من مدريد في العام 1991 . وهذه الاطراف مستعدة لسحب حديثها عن الاصلاح والديموقراطية والتغيير اذا نجحت السلطة في ضبط الوضع الامني، واوقفت العمليات ضد الاسرائيليين. والكل يعرف ان الادارة الاميركية والاتحاد الاوروبي يحثان السلطة على قمع المعارضة واعتقال كوادرها وقياداتها وتدمير مؤسساتها ولن ينسى الفلسطينيون انها غضت النظر عن التحقيق في الجرائم التي ارتكبها شارون ضد الانسان الفلسطيني في جنين ونابلس. وسوف يبقى يتذكر انها ضربت عرض الحائط مبادئ حقوق الانسان، وتراجعت عن موافقتها في مجلس الامن بشأن تشكيل لجنة تقصي الحقائق في هذه المجازر. اما بشأن حديث الاصلاح والتغيير الكثير والكبير الصادر عن اهل السلطة والمعارضة ومنظمات المجتمع المدني، فالواضح ان كثيره مزيف وقليله صادق. واختلط الامر على الناس في الضفة والقطاع. ونجح من هم بحاجة الى تغيير واصلاح ومحاسبة في تشويه العملية المطلوبة وزرعوا الشك في جديتها. ويستطيع المراقب المحايد ببساطة ان يرى ان ادق تشخيص لحالة النظام السياسي الفلسطيني الرسمي واعلى وتائر نقد حالته المتدهوره، هو الذي تطرحه الشخصيات والقوى المشاركة في السلطة التنفيذية، وبخاصة الوزراء وقادة اجهزة الامن وذوي المناصب العليا. لكنه، للاسف الشديد، يجري خارج اجتماعات السلطة الرسمية، وداخل الاطر الحزبية الضيقة في احسن الاحوال. ويأخذ في معظم الاحيان طابع التندر والتنكيت حول مظاهر الازمة، وبخاصة طريقة اداء اجهزة السلطة ومؤسساتها لمهامها اليومية، بما في ذلك اجتماعات السلطة، التي تحولت حسب تعبير افرادها الى لقاءات دورية موسعة جدا، تضم مجلس الوزراء واعضاء اللجنة التنفيذية والوفد المفاوض وعدداً من قادة حركة فتح والمستشارين. وكأن اصحاب التندر والتنكيت ليسوا جزءاً من السلطة وبراء من المسؤولية عن استفحال الازمة. واوضاع السلطة والمنظمة والقوى الوطنية والاسلامية ومنظمات المجتمع المدني.. الخ بالف بخير والمطلوب اصلاح الشعب او تغييره. وبصرف النظر عن رأي شارون والاميركيين والاوروبيين، لا شك في ان اصلاح وتجديد النظام السياسي الفلسطيني ضرورة وطنية ملحة، وانجاز هذه المهمة يتطلب "نفضة" فكرية سياسية تنظيمية ادارية في جميع اطرافه، تبدأ بالسلطة وتمتد للآخرين دون استثناء. ويبدو ان لا مفر امام دعاة الاصلاح الحقيقي من توحيد انفسهم في اطار حركة ديموقراطية جديدة. * كاتب فلسطيني.