في لقاء مع وفد أوروبي زار رام الله أخيراً، عرض رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات اجراءاته وتوجهاته لاصلاح أوضاع السلطة وتجديد هيكلها وبنيتها الأمنية والإدارية والمالية. وتحدث عن الانتخابات باعتبارها محطة رئيسية في عملية الإصلاح والتغيير. واستغرب أعضاء الوفد عندما طلب منهم عرفات مساعدته في اقناع صائب عريقات، وزير الحكم المحلي، بإمكان اجراء الانتخابات التشريعية والبلدية في مطلع العام المقبل. وقال عرفات: صائب، بحكم موقعه وزيراً للحكم المحلي، هو المعني الأول بالتحضير للانتخابات ومتابعة إعداد قوائم الناخبين وتحضير مراكز الاقتراع ودعوة المراقبين... الخ من الاجراءات، لكنه لا يعمل بحماس، ويشكك في الموقفين الإسرائيلي والأميركي من الانتخابات. استأذن عريقات الرئيس عرفات، وشرح وجهة نظره وخلاصتها: اليمين الإسرائيلي دمر مؤسسات السلطة المدنية والأمنية، وعطل عمل المؤسسة التشريعية "المجلس التشريعي" أمام سمع وبصر إدارة جورج بوش. ودول الاتحاد الأوروبي لا تملك القدرة على التأثير في الموقف الإسرائيلي، وارييل شارون الذي فعل ذلك بمشاركة حزب العمل، ويفعل الآن أمام الجميع ما هو أكبر وأخطر، لا يمكن أن يكون مع الانتخابات. وشكك صائب باجراء الانتخابات في موعدها. شخصياً اشارك صائب رأيه، وهناك فئة واسعة من المثقفين وكوادر السلطة، وغالبية في الشارع الفلسطيني مقتنعة بهذا الرأي، والشيء الذي لم يقله في لقاء ديبلوماسي مع وفد أجنبي، لا حرج في قوله في مقال ينشر على صفحات "الحياة". في هذا السياق، أظن ان حكومة شارون ستعطل اجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والبلدية الفلسطينية سواء رشح عرفات نفسه أم لم يرشح، وسواء ساد الهدوء أم ظل الوضع مضطرباً. والشواهد والأدلة على ذلك كثيرة، ولا تتجسد فقط في ما قامت به حكومة شارون حتى الآن ضد السلطة ومؤسساتها، بل وأيضاً في موقفها المبدئي المعارض لعملية السلام وللاتفاقات التي انبثقت عنها، وبخاصة التي نصت على تشكيل السلطة الفلسطينية، بشقيها التشريعي والتنفيذي، عبر انتخابات حرة وديموقراطية، وموقفها المعادي لتكريس الديموقراطية منهج ثابت في حياة الفلسطينيين، ودول المنطقة باستثناء إسرائيل. وشارون ليس ساذجاً حتى يوافق على انتخابات يشارك فيها سكان القدسالشرقية كما شاركوا في الانتخابات السابقة، خصوصاً أن موافقته على ذلك تفجر أوضاع حكومته فوراً. وعندما وضع شارون إصلاح أوضاع السلطة وتغيير عرفات شرطاً مسبقاً لاستئناف العملية السياسية، كان هدفه تعطيل المفاوضات وليس دمقرطة أوضاع السلطة الفلسطينية. وشارون يدرك تماماً ان اجراء انتخابات تشريعية يعني انبعاث قيادة سياسية تمثل الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، تملك صلاحية رفض أية اتفاقات تتعارض مع مصلحة الناخبين، وقرارها يحظى باحترام المجتمع الدولي، ويجد في الدول الديموقراطية من يدافع عنه. ويعرف شارون أن وجود مجلس تشريعي منتخب يعني تبلور مقومات قيام كيان سياسي فلسطيني موحد، وهذا يتعارض مع موقفه الايديولوجي المعادي لتبلور شخصية موحدة للشعب الفلسطيني وتشكل كيانية فلسطينية متكاملة. وأن أي مجلس تشريعي يجري انتخابه، في عهده، لن يوافق على الحل الانتقالي أو النهائي الذي يقترحه على الفلسطينيين. ويدرك شارون أيضاً أن أية انتخابات تشريعية تجري بعد 6 أشهر، ستفرز مجلساً تشريعياً يشبه في تركيبته، بالحد الأدنى، المجلس القائم إن لم يكن أكثر تصلباً وتشدداً في التعامل مع توجهاته القائمة على نهب الأرض واستيطانها وتدمير مقومات قيام دولة مستقلة. وبشأن انتخابات الرئاسة، بديهي القول إن دعوة شارون لتغيير ياسر عرفات لا تعني قبوله التعامل مع "أبو عمار" في حال فوزه في انتخابات حرة ونزيهة وديموقراطية. واظن ان شارون وبوش وجميع خصوم عرفات لا يستطيعون منعه من ترشيح نفسه لانتخابات رئاسية جديدة. والمؤكد أن عرفات لا ينوي التقاعد في هذه الفترة، وهو مقتنع أنه لا يزال قادراً على العطاء، ويردد جملته الشهيرة: "من تعب منكم من النضال فليرسل لي ابناءه لاستكمل بهم المشوار". وهو مصمم على خوض الانتخابات ليس فقط بسبب قناعته أنه قادر على العطاء، بل لأنه يرفض الاستسلام. وموقف شارون العدواني يزيد عرفات تصميماً على المضي قدماً في التحدي حتى النهاية. وبصرف النظر عن دوافع عرفات لخوض الانتخابات، فنتائج استطلاعات الرأي تشير إلى أن الموقف الإسرائيلي - الأميركي الأخير من عرفات أعاد له جزءاً كبيراً من شعبيته التي فقدها بعد اتفاق فك الحصار عن مقاطعة رام الله وكنيسة المهد أواخر نيسان ابريل الماضي. وتؤكد جميع الاستطلاعات أنه سيحصل على أعلى نسبة من الأصوات، تفوق النسبة التي حصل عليها في انتخابات عام 1996. والفلسطينيون المؤيدون والمعارضون لعرفات مقتنعون أنه يتعرض لحملة أميركية - إسرائيلية ليس بسبب غياب الديموقراطية في منهج عمله الفردي، بل أساساً بسبب صموده في وجه الضغوط الإسرائيلية والأميركية، ورفضه الاستسلام وتقديم تنازلات تمس الثوابت الوطنية الأساسية. ولا أحد في المعارضة دعاه للاستقالة وعدم ترشيح نفسه، بل دعاه الجميع للصمود، والغالبية تؤيد ترشيحه من جديد. والتدقيق في المرشحين لانتخابات الرئاسة الذين ظهرت اسماؤهم حتى الآن، يبين أنهم أكثر تشدداً من عرفات، وبعضهم يتهمه بالتهاون مع الاحتلال والخضوع للابتزاز الأميركي، وأشك أن يتقدم لهذه الانتخابات مرشح يقف على يمين عرفات. وبديهي القول ان الخيار الوحيد المتاح أمام شارون لتجاوز معضلة تجديد شرعية عرفات، هو تعطيل انتخابات الرئاسة الفلسطينية المقررة مطلع العام المقبل. وإذا كان الخلاص من عرفات جسدياً قبل هذا التاريخ يشفي غليل شارون، فنتيجة ذلك تحكم مواقف "الشهيد عرفات" بالسياسة الفلسطينية سنوات طويلة. وبشأن الانتخابات البلدية، يخطئ من يعتقد أن شارون لا يعارض اجراءها باعتبارها لا تتعارض مع توجهه المركزي الداعي إلى منح الفلسطينيين حكماً ذاتياً. ومن يتعمق في مضمون الحكم الذاتي الذي يفكر به شارون واليمين الإسرائيلي ككل، يستنتج أن وجود بلديات منتخبة ينسف هذا التوجه. وإذا كانت حكومة عمالية "يسارية" لم تتحمل نتائج الانتخابات البلدية التي تمت منتصف سبعينات القرن الماضي، ولم تتوانَ عن اعطاء الأجهزة الأمنية ضوءاً أخضر لاغتيال كريم خلف وفهد القواسمة وبسام الشكعة، بعد فوزهم في تلك الانتخابات، فمن البديهي القول إن حكومة يمينية برئاسة شارون لن تسمح باجراء انتخابات بلدية تنتج عنها قيادات وطنية. وشارون يعرف سلفاً أن المنتخبين الجدد في المجالس البلدية والقروية، سواء كانوا حزبيين أو مستقلين، لن يستسلموا لمخططه القائم على حصر من انتخبوهم في كانتونات ومعازل عنصرية. ولن يتوانى رؤساء البلديات الجدد عن خوض المعارك معه ومع سواه حول الأرض وتوسيع حدود بلدياتهم، ولن يصمتوا له على سياسة الاستيطان ومصادرة الأراضي. ويعرف شارون أن "حماس" وقوى المعارضة ستشارك في هذه الانتخابات، إذا سمح باجرائها، وان قسماً من مرشحيهم سيحصلون على نسبة عالية من الأصوات. هذا إذا لم تحصل قوى المعارضة على غالبية المقاعد في مجالس عدد من المدن الكبرى والبلدات الفلسطينية. على ذلك، أجزم سلفاً أن موقف إدارة الرئيس بوش من الانتخابات البلدية والتشريعية والرئاسية الفلسطينية، لن يتعارض مع موقف حكومة شارون منها، هي بالتأكيد جاهزة لتقدم المساعدة للفلسطينيين، والايعاز للأوروبيين بتمويلها وتنظيمها ورقابتها والاشراف على نزاهتها... الخ، إذا سمحت حكومة شارون باجرائها. ويكفي تحفظ حكومة شارون، وليس معارضتها، كي تسحب هذه الإدارة موقفها المؤيد للانتخابات، وتمارس ضغوطها على دول الاتحاد لمعارضتها. ويخطئ من يعتقد أن نشر الديموقراطية في فلسطين مشكلة أميركية - أوروبية، وان افراطهم في حب الفلسطينيين وحرصهم على مستقبلهم، يدفعهم إلى الضغط على عرفات لاجراء انتخابات حرة ونزيهة وديموقراطية، وهي التي تدفعهم الآن للضغط عليه لاجراء اصلاحات جذرية في أجهزة الأمن الفلسطينية وبقية مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني. إن صمت الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي على سياسة الفصل العنصري التي يطبقها شارون على الأرض، وعمليات تدمير المجتمع الفلسطيني الممنهجة، وضغطهم المتواصل على عرفات لقمع المعارضة بقوة السلاح، شواهد حية على زيف ادعاءاتهم، وزيف كلامهم عن الإصلاح والتجديد والتغيير. ولن ينسى الفلسطينيون أن هذه الأطراف ذاتها غضت النظر عن التحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبها شارون في مخيم جنين ونابلس ورفح وسواها من المدن الفلسطينية، ولا تفعل الآن شيئاً دفاعاً عن المبادئ والقوانين وقرارات الشرعية الدولية ومواثيقها المتعلقة بحقوق الإنسان الفلسطيني التي ينتهكها شارون يومياً تحت سمع وبصر الجميع. وإذا كان الاتحاد الأوروبي عاجزاً عن ردع شارون، فكلام أركان الإدارة الأميركية عن الاصلاح والتغيير في بنية النظام السياسي الفلسطيني هدفه تقطيع الوقت على حساب دم وجوع أبناء الضفة والقطاع، وتغطية قرارهم الانسحاب من عملية السلام. ويخطئ من يعتقد أن إدارة بوش غيّرت قناعتها الأساسية من عملية السلام. ويتذكر الجميع أن أركان هذه الإدارة أعلنوا، منذ دخولهم البيت الأبيض، أنهم لن يتورطوا في صنع السلام العربي - الإسرائيلي كما تورط كلينتون. وبعضهم قال بصوت منخفض أن لا أفق لهذا السلام في عهد شارون وعرفات. واظن أن تجربتهم في النصف الأول من عهد بوش كرست هذه القناعة. ومصالحهم الحزبية والانتخابية تدفعهم إلى ترجمتها بالصمت على سياسة شارون الحالية واللاحقة، وبنعت الفلسطينيين نعوتاً وأوصافاً يرتاح لها الناخب الأميركي وأعضاء الكونغرس الحاليون واللاحقون. وإذا كانت المعطيات المتوافرة ترجح عدم اجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والبلدية الفلسطينية، فإن تأخير القيادة الفلسطينية موعد اجرائها إلى كانون الثاني يناير عام 2003، يعتبر خطأ تكتيكياً تسبب في هدر الطاقات، وأضعف قيمة الخطوة محلياً واقليمياً ودولياً، وعطل استخدامها ورقة رابحة في امتصاص الهجوم الأميركي - الإسرائيلي الجاري ضد الفلسطينيين شعباً وسلطة وأرضاً. وإذا كان التأخير يفسح المجال للتعطيل، فالرهان على الانتخابات واجراء تغيير في أجهزة الأمن للخروج من المأزق سعي وراء سراب. * كاتب فلسطيني.